الأتراك.. أزمة هوية
امتدت من أواسط آسيا إلى شرق أوربا!!
أزمة الهوية التركية، أزمة عميقة جدًّا، ضاربة في داخل الأتراك ومفرقة اهتماماتهم، ذلك الذي حولهم إلى أمة تائهة، فلاهي أمة آسيوية – صفراء-، ولا مسلمة ببعد الإسلام العربي، ولا علمانية بإرثها الغربي الأوربي.
فالأتراك – كعرق – لا ينتمون لهذا ” المغرب الآسيوي” العربي في أغلبه، وآخر الآسيويين المجاورين للعرب هم الفرس، فالأتراك باعتبارهم أمة ولدت ونشأت في أواسط آسيا ثم انتقلت إلى شمال الجزيرة العربية – الأناضول تحديدًا- بعدما ارتحلوا من وطنهم الأصلي، سيبقى انتماؤهم لتلك الأمم الآسيوية عضويًّا ولا يمكن فصلهم عنها.
وعلى الرغم من دخول الأتراك في الإسلام بعد وصولهم إلى المشرق العربي، لكنهم بقوا أمة “تركية” معزولة عن فضائها العربي رافضة الاندماج لفترة طويلة، إلى أن حوَّل السلطان سليم اهتمامه من أروبا 1516مـ إثر هزائمه المتتالية، لينقل بوصلته جنوبا نحو العرب، ومع ذلك اعتبر الأتراك أنفسهم طبقة أعلى من العرب حتى أطلقوا عليهم “عرب خيانات”، في نظرة دونية، تعلي من مرتبة العنصر التركي، وتحط من قدر الجنس العربي.
هذا الأمر انعكس أيضا على اللغة العربية – حرفا ومنطقا – وهي التي هيمنت على المسلمين كضرورة دينية كونها لغة القرآن، فالأتراك الذين عاشوا تلك الأزمة لقرون طويلة تخارجوا منها في أول فرصة سنحت لهم، بإلغاء الحرف العربي في العام 1928مـ الذي كانوا يكتبون به لغتهم الطورانية الأعجمية الأم، فالأتراك لم يكونوا أمة ابتكرت حرفها الخاص، بل أمة عاشت عالة على غيرها، فاضطروا إلى الكتابة بالحرف العربي، وحتى عندما أردوا القطيعة مع العرب، استبدلوا الحرف العربي بحرف لاتيني.
فتغيير الحرف العربي إلى حرف لاتيني أحدث قطيعة كبرى مع الإرث والأرشيف العثماني المدون بالخط العربي، وعودة أتراك اليوم بالسماح بتدريس اللغة العربية في بعض المعاهد، هي عودة ضرورة لا أكثر، وليس تراجعا مع القطيعة التي أقدم عليها الطورانيون بداية القرن الماضي مع محيطهم العربي، بل رغبة في استعادة زخم السلطنة العثمانية التي كان قدرها أن تؤرشف تاريخها ومراسلاتها وقراراتها باللغة العربية.
أزمة الهوية التركية لم تكن أزمة حرف فقط، بل امتدت إلى الدين الإسلامي الذي قدم إليهم على أيدي العرب البدو كما يصنفهم الأتراك الذين كانوا يرونهم أقل شأنا منهم، فأدخلوا في الإسلام الكثير من عاداتهم وخرافاتهم المغولية التي استقدموها من بلادهم في أواسط آسيا وفارس والهند، ليكون لهم دينهم الإسلامي، ولكن بشكلهم ولونهم المتمايز عن غيرهم.
فالانتماء السياسي والجغرافي أضحى جزءًا من أزمة الهوية التركية، فقد بقوا لعقود طويلة يقدمون أنفسهم كأوربيين، ومحاولتهم اليائسة للانتماء للاتحاد الأوربي كانت شاهدة على ذلك، إلى أن رفضهم الأوربيون وهزموا في معركة الالتحاق بالاتحاد الأوربي، ليلتفتوا مرة أخرى نحو العالم العربي، وتستيقظ أحلامهم التوسعية من جديد في ليبيا وسوريا والعراق.
فكل ما سبق فرض على الأتراك سمات لا يستطيعون الفرار منها، وعلى رأسها إعلاء القومية التركية، وتحريض الأقليات التركية في الدول الأخرى على الانتماء لقوميتها التركية وفصلها عن محيطها الذي اندمجت فيه لقرون عدة، وهي أزمة أخلاقية ظهرت بقوة في مناطق يقطنها الأتراك خارج تركيا، دفعتهم إلى القطيعة مع دولهم المركزية التي ينتمون إليها على الأقل بالهوية الرسمية، ذلك حول بعضهم إلى خونة قاتلوا أوطانهم لصالح العثمانيين الجدد، وليتحول أكثرهم إلى جسور متقدمة للعثمانيين الجدد في مشروعهم التوسعي، على سبيل المثال شمال العراق وشمال سوريا وليبيا واليمن.
هذه القومية المتعالية فرضت على الأتراك فواتير غالية ارتكبوها كجرائم حرب لاحقتهم إلى اليوم، خاصة مع الأرمن والعرب والأكراد، وأدت بهم إلى قتل الملايين من خصومهم، ولن ينسى الأرمن ولا العرب خصوصًا المذابح على الهوية التي ارتكبها الأتراك العنصريون ضدهم.
ويبقى السؤال مطروحا.. هل أنتج الالتزام بالقومية التركية أزمات أخرى كبلت الأتراك وجعلتهم مقيدين، فالالتزام أمام الأمة التركية كما يسمونها أجبرهم على التمدد شرقا حتى الصين وغربا حتى أواسط بلغاريا، فهل تركيا اليوم قادرة على تغذية هذا الوحش الذي يكبر وتكبر معه عنصريتها وقوميتها، أم سيرتد عليها ويقضي على أحلامها غير الواقعية، فلا الوقت ولا الظروف السياسية تسمح بهذه الأحلام التوسعية لإعادة امبراطورية عرقية امتدت ” جثتها” على مساحة تواجد العرق التركي من أواسط آسيا إلى غرب أوربا.