ضمن الأجندة الاستعمارية
تاجر العثمانيون بـ "الأندلس"
تشكل دراسة علاقة العثمانيين بالأندلس منطقة خلاف تاريخي بين الموالين للأطروحة العثمانية وبين المناوئين لها، وقلَّما نقف على كتابات انبرت إلى الموضوعية والمنهج الأكاديمي في التعاطي مع هذه العلاقة وهو ما يفرض علينا إخضاع هذه الإشكالية التاريخية لمنطق التشريح والتحليل بعيدًا عن الذاتية التي يمكن أن تُفقد أي بحث قيمته العلمية وأمانته التاريخية.
تكاد تُجمع الكتابات المتناغمة مع الرواية التركية بأن سلاطين آل عثمان قاموا بمحاولات متكررة وجادة لإنقاذ الأندلس من السقوط ومساعدة المسلمين هناك على الصمود أمام الهجمة المسيحية الشرسة، وهي المحاولات التي استمرت حتى بعد سقوط غرناطة آخر معاقل بني الأحمر، لكن النجاح لم يكن حليفها لاعتبارات يلخصها أصحاب هذا الرأي في النقاط التالية:
– بُعد القسطنطينية عن غرناطة وهو ما جعل الوصول إليها أمرًا صعبًا جدًّا ومغامرة غير مأمونة النتائج.
– انشغال العثمانيين في حروبهم ضد المماليك والدولة الصفوية وبعض القوى الأوروبية.
– عدم انخراط المماليك والدولة الحفصية في المجهود الحربي الذي أطلقته الدولة العثمانية لاسترجاع الأندلس وإنقاذ أهلها.
المؤرخون المتعثمنون: من يشكك في نصرة العثمانيين للأندلس مشكو ٌك في دينه.
على الجهة المقابلة من الرواية التركية وباقي المؤدلجين المرتبطين سياسيًّا وأيديولوجيًّا بأنقرة سنحاول طرح وجهة النظر المقابلة، التي تُفرغ الأطروحة العثمانية من مضمونها وذلك من خلال الاعتماد على مجموعة من المعطيات التاريخية، التي تقطع بأن العثمانيين لم تكن لديهم النية لاسترداد الأندلس وتعاملوا مع الأندلسيين بمنطق براغماتي يخدم الطرح الكولونيالي للأتراك العثمانيين.
من هذا المنطلق، تكشف لنا الكتابات التاريخية التي أرَّخت لفترة سقوط الأندلس بأن العثمانيين تعاملوا مع نداءات الاستغاثة التي وجهها الأندلسيون بنوع من الحذر وقدر كبير من البراغماتية رغم عمليات القرصنة المتكررة التي قام بها الأَخَوان عروج وخير الدين بربروسا، والتي كان الغرض منها ممارسة نشاطهم الأصلي باعتباره مصدرًا رئيسًا لتمويل سياستهم الاستعمارية بعيدًا عن دوافع الجهاد أو استرداد أراضي المسلمين. وهنا نجد المؤرخ الأمريكي وليام سبنسر يقول في كتابه: “الجزائر في عهد رياس البحر” ما نصه “إن العثمانيين، على خلاف سابقيهم من المسلمين العرب والبربر الذين كانوا قد أضرموا المعارك من قواعد تلك الأرض نفسها ضد الكفار، لم يكونوا مهتمين بالدرجة الأولى بالحصول على أراضي المسيحيين على الشواطئ المقابلة للبحر الأبيض المتوسط”.
من جانب آخر لم نقف من خلال بحثنا في الكتب والوثائق، على أية رسالة من سلاطين آل عثمان تفيد بنية القسطنطينية استرداد الأندلس بل كان الغرض الأساسي هو إنهاك إسبانيا ومحاولة التوسع غربًا على حساب الدول العربية وإيجاد موطئ قدم للعثمانيين في شمال إفريقيا، بل إن العثمانيين بذلوا مجهودًا كبيرًا لإخضاع المغرب الأقصى، وهو المجهود الذي إن وُجِّه لاسترداد الأندلس لربما كانت المعطيات التاريخية مختلفة عمَّا هي عليه الآن.
لعل الصدمة التاريخية التي وقفنا عليها تتجلى أساسًا في العرض الذي تقدمت به مملكة فرنسا، الحليف الإستراتيجي للعثمانيين في تلك الفترة، من أجل مساعدتها على استرجاع الأندلس، وهو المعطى التاريخي الذي تناوله المؤرخ الجزائري امبارك الملي في كتابه: “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”، حيث يقول: “وقد عرض السفير الفرنسي في الجزائر أثناء الحرب التي قامت بين حسان باشا وبين سلطان المغرب- عَرَضَ على حسَّان باشا أن يُعَيِّنَه بالأسطول الفرنسي في حالة عزمه على مهاجمة وهران أو إذا ما فَكَّر في تنظيم هجوم ضد الأندلس ويبدو أن حسان باشا رفض هذا العرض”.
لعل مقترح الدعم الفرنسي للعثمانيين لاسترداد الأندلس يجد مُسَوِّغاته في محاولة فرنسا إضعاف الإسبانيين، عدوهم الرئيس في المنطقة، على اعتبار أن مهاجمة العثمانيين للأندلس ستجعل إسبانيا في وضع الكمَّاشة الاستراتيجية بين القوات العثمانية والمملكة الفرنسية، غير أن الأتراك كانوا يرون في محاولة استرجاع الأندلس مخاطرة كبيرة قد تكون لها انعكاسات سلبية على تواجدهم غرب المتوسط.
تخوف العثمانيين من استثارة الإسبان جعلهم يرفضون مساعدة الفرنسيين في نجدة الأندلسيين.
ويمكن القول بأن العثمانيين كانوا يَتَخَوَّفون في حالة نجاحهم في حرب استرداد الأندلس أن يطالبهم العرب بأحقيتهم في حكم الأندلس، خاصة أن هؤلاء كانوا يلتمسون مساعدة الأتراك في هذه الحرب على ألَّا تحل محلهم؛ كونهم أصحاب الشرعية التاريخية والدينية في حكم الأندلس على اعتبار أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم امتدادًا للسلالات العربية التي حكمت هذه البقعة ولن يقبلوا بفكرة تغيير الاحتلال الإسباني باحتلال عثماني.
الهجمات المتكررة التي قام بها الأتراك على السواحل الجنوبية للأندلس كان الغرض منها، بالإضافة إلى ممارستهم لنشاط القرصنة الذي عُرف على رياس البحر الذين حكموا المنطقة، مساعدة حليفتهم فرنسا التي كانت تسعى لمواصلة الضغط على إسبانيا. هذا الطرح يتقاطع مع ما ذهب إليه المؤرخ الجزائري امبارك الملي في الكتاب نفسه المشار إليه حيث يقول: “وفي هذا الظرف كان أسطول صالح ريس ينظم هجوماته على السواحل الإسبانية تنفيذًا لمطلب ملك فرنسا هنري الثاني الذي أراد من صالح ريِّس أن يقلق الإسبان بناء على الاتفاقية المبرمة بين العثمانيين ومملكة فرنسا”.
استغل العثمانيون المتواجدون في المغرب العربي “القضية الأندلسية” لحشد الجزائريين وإيهامهم بأن تحرير الأندلس قضيةٌ محورية في أجندة “دولة الخلافة” وهو ما جعل حشودًا كبيرة من الجزائريين ينضمون إلى صفوف العثمانيين في فترة من الفترات، خصوصًا على عهد قلج علي، الذي أعلن النفير العام للتوجه نحو الأندلس، حيث قام بتجنيد أربعة عشر ألف تركي وستين ألف جزائريٍ لهذا الغرض.
وإذا كانت الرواية التركية تعتبر أن ما قام به قلج علي هو محاولة جادة لم يُكْتَبْ لها النجاح لتحرير الأندلس، فإن واقع الأمر يقطع بأن الحاكم التركي استغل استعداد الأندلسيين للقيام بثورة شاملة في الداخل لاسترداد الحكم هناك من أجل توجيه جيوشه المتعطشة لتحرير الأندلس لإخضاع مدينة وهران التي كانت تحت الحكم الإسباني، ورغم أن قلج علي كان على علم بجميع تفاصيل الثورة إلا أنه ترك الأندلسيين يُذبحون من دون أن يفي بوعوده للتدخل لمساعدتهم وفضل -بالمقابل- مواصلة مشاريعه التَوَسُّعِيَّة غرب الجزائر.
ويبقى الثابت، أن العثمانيين كانت لهم مآرب عديدة في توجيه هجماتهم على السواحل الجنوبية لإسبانيا بعيدًا عن الرغبة في إعادتها إلى الحكم الإسلامي، ولعل من أهم هذه الأهداف تكسير المشاريع الإسبانية التي كانت تروم الهجوم على قلب الدولة العثمانية، فقد سجلنا بأن الأتراك جهَّزُوا لمجموعة من الهجمات على السواحل الإسبانية كان أهمهما محاولة قلج علي السيرَ إلى إسبانيا على رأس قوات ضخمة تنفيذًا لتعليمات السلطان سليم الثاني الذي قام باستدعائه إلى القسطنطينية وقدم له مساعدات مهمة للهجوم على الشواطئ الإسبانية، وهي الهجمات التي كان الغرض منها دفع ورد هجوم واسع كانت القوى المسيحية تستعد لتنظيمه ضد السلطان العثماني.
من الواضح أن استرداد الأندلس لم يكن يومًا أولوية في الأجندات العثمانية رغم اهتمامها بجنوب إسبانيا؛ كونها منطقة استراتيجية تخدم مشاريعها التوسعية، إلا أنها -ربما- كانت تنتظر تحرُّكًا داخليًّا من الثوار الأندلسيين وفي حالة نجاحهم فإن الأتراك كانوا -قطعا- سيقومون بالركوب على هذه الثورة لبسط حكمهم في الأندلس دون أن يضطروا إلى إعلان المواجهة المباشرة مع إسبانيا، التي كانت في ذاك الوقت قوة استعمارية لا يُسْتَهَانُ بها.
في مذكرات خير الدين بربروسا
للسبب نفسه...
قتل العرب وعفى عن خونة التُّرك
تضاعفت قوة البحرية العثمانية بعد الجهود التي بذلها البحارة المهرة الذين تربوا على القرصنة، ففي القرن الخامس عشر الميلادي كان القراصنة الأتراك يقومون بنشاطاتهم على سواحل أفريقيا الشمالية، وقسم منهم كانوا يعملون لحسابهم الخاص والآخر لصالح العثمانيين بهدف الحصول على الغنائم والأسلاب، ومنهم خير الدين “بربروسا” أحد أبرز قراصنة البحر، الذي كان له دور في الغزوات البحرية في البحر الأبيض المتوسط ومهاجمة السفن الأوربية وإرعابها خلال القرن السادس عشر الميلادي، بل أسهم في تسهيل وصول العثمانيين لاحتلال أجزاء من شمال أفريقيا كتونس والجزائر وغيرها. بعدما عينه سليمان القانوني قائدًا عاماً للبحرية العثمانية.
خلّف “بربروسا” وراءه مذكرات شخصية لتلك المرحلة التاريخية، التي تضمنت أحداثًا واقعية وحوادث فيها من الغرائب والعجائب والمبالغات التي لا يقبلها العقل، فمن خلال إطلالة سريعة على تلك المذكرات تتوارد الكثير من التساؤلات الجديرة بالمناقشة والتعليق لفهم حقيقة الموقف في فترة القرصنة العثمانية.
عنصريته التركية أملت عليه أن يحتقر العرب بالسب والشتائم.
نُشرت مذكرات “بربروسا” لأول مرة باللغة العربية سنة 2010م، ترجمها من اللغة التركية إلى العربية محمد دراج، في (طبعتها الأولى، الأصالة للنشر والتوزيع، الجزائر). والنسخة التي اعتمدها هي إحدى النسخ المخطوطة المنتشرة في مكتبات استانبول، كما أن هناك نسخة أخرى في الفاتيكان تعد هي الأقدم منها، وفي برلين، وباريس، ومدريد، ولندن، والقاهرة إضافة إلى تلك النسخ المتوفرة في الجزائر. وأما النسخة الأصلية فهي مفقودة؟.
ومن هنا يكتنف الغموض حقيقة هذه المذكرات مع غياب الأصل عن أعين الباحثين والمهتمين. وأشار أحد الباحثين الجزائريين إلى وجود نسخة في المكتبة العامة في الجزائر العاصمة تحت عنوان “خبر قدوم عروج إلى الجزائر وأخيه خير الدين” وقد تُرجمت من اللغة العثمانية إلى العربية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وبأمر من مفتي مدينة الجزائر آنذاك ابن علي محمد العلج (ت: 1755م)، باعتبارها لمؤلف مجهول، وعند مطابقتها مع مذكرات “بربروسا” وُجد تطابق في موضوع الكتاب واختلاف كبير في ألفاظ النص. وبذا تكون الترجمة للعربية في القرن الثامن عشر الميلادي هي الأقدم نسبياً مع ما فيها من اختلافات في النصوص.
وأمام ما ذكرنا من تعدد النسخ التي دونت لهذه المذكرات وترجمتها بلغات أوروبية مختلفة، هل ستكون النسخة المخطوطة أو حتى المترجمة على ما هي عليه من أهمية للمؤرخ والباحث؟ وقد اختلفت مصطلحاتها وزِيد أو أُنقص في نصوصها واختلفت معها صياغاتها ومدلولاتها في التدوين والترجمة، والتي هي في الأساس لم تُكتب من قبل “بربروسا”، مما يفقدها قيمتها التاريخية والعلمية وقد تصبح معلوماتها مثارًا للشكوك وعدم القطع أو الجزم بما نسب فيها من أحداث ووقائع تاريخية، ناهيك عن أن المذكرات كتبت بأسلوب قصصي وملحمي ملفت للانتباه.
"المذكرات"... دعاية سياسية لـ "القانوني" كُتبت بأمر ٍ سُلطاني.
أظهرت المذكرات حب “بربروسا” للسلطان العثماني وولاءه المطلق بصورة مُبالغ فيها، وعلى النقيض من ذلك أظهرت المذكرات بغضه للعرب بصورة واضحة للعيان، ففي تعامله مع الجزائريين الثائرين ضده استعمل ألفاظاً فيها من العنصرية المقيتة كقوله:” ابن الكلب، البدو، الأعراب” وغيرها من الأوصاف، وبغض النظر عن الدواعي والأسباب التي دعته لذلك فلا يليق برجل اشتهر على أنه المجاهد والبحار العظيم (القرصان) أن يصدر منه مثل ذلك السقوط في العبارات، أو القدح في العرب والانتقاص منهم بوصفهم بقوله: “من العرب والبربر والأندلسيين غير أنهم لم يكونوا يعرفون فنون القتال مثل الأتراك”،وأرى أن ذلك انتصارًا لعنصريته التركية، ولوحظ شدته على العرب في مواطن عديدة، ففي إحدى نصوص المذكرات يقول: “وكان على رأس الثائرين الذين وقعوا في الأسر شيخ مدينة الجزائر، أمرت بإعدامه وقطع جسده اللعين إلى أربع قطع، وتعليق كل منها على باب من أبواب المدينة ليكون عبرة لغيره”. وهل يصح مثل هذا القول والفعل ممن يوصف بكونه مجاهدًا كبيرًا؟ أم هي أخلاق القراصنة؟! . ذكر أنه استشار علماء الجزائر الكبار بشأن ماذا يعمل مع 185 أسيرًا جزائريًا لديه، فطلب العلماء منه العفو بأن الكثير منهم كان له الفضل في محاربة الإسبان. إلا أنه استشار البحارة الأتراك فطلبوا “من الحزم أن تضرب أعناقهم ليكونوا عبرة لغيرهم”. ثم قال “فأمرت بضرب أعناق زعماء التمرد”.
في المقابل نجده وبلسانه يعفو عن الخونة الأتراك كما يسميهم هو والذين وقفوا مع ابن القاضي ضده وتمردوا على السلطان، والسبب في ذلك “أن فيهم من قدم خدمات كبيرة لنا وفيهم من يعود إليه الفضل في القضاء على الكثير من رؤوس الإسبان والاستيلاء على سفنهم”. وهنا تظهر بوضوح ازدواجية المعايير في التعامل مع قومه من الأتراك الخونة وهي نفس الأسباب التي دفعته لإعدام 185 جزائريًا وبنفس الأسباب التي جعلته يرفض طلب العفو الذي قدمه علماء الجزائر باعتبارهم أصحاب السبق في محاربة الإسبان ولم يأخذ برأيهم وأعدمهم، هو نفس السبب الذي جعله يعفو عن الخونة الأتراك لأسبقيتهم في محاربة الإسبان من قبل.
إن هذه المذكرات رغم ما فيها من أحداث ووقائع إلا أنها لا تخلو من تجاوزات وسلوكيات غير مقبولة ممن يدعي أنه أنقذ الآلاف من مسلمي الأندلس من الحرب التي شنتها عليهم إسبانيا، وذلك من باب الرحمة والأخوة في الدين، أم هي مصالح خاصة لم تفصح عنها المذكرات الشخصية . وكما يقال في المثل “من لسانك ندينك” بل من مذكراتك ندينك .
حر ًصا على الازدهار الاقتصادي والاستفادة منهم
"العثمانية" استقطبت
يهود الأندلس وأبعدت المسلمين
بعد أن توسعت حدود العثمانيين وتمددت إلى عاصمتهم الجديدة بورصة دخل عدد من أتباع الديانات المختلفة، ومنها اليهودية التي باتت ضمن الأديان التي رعاها العثمانيون؛ إذ سمحوا لهم بإقامة معبدهم، وحين نقلت العاصمة من بورصة إلى أدرنة ازداد عدد اليهود في حدود الدولة.
ومما يبدو أن اليهود كانوا على تواؤمٍ مع العثمانيين، إذ إن أعدادًا كبيرةً منهم هاجرت إلى مناطق النفوذ العثماني من المناطق المحيطة القريبة من حدودهم، وازدادت هذه العلاقة قوةً بعد أن فُتحت القسطنطينية فصار اليهود جزءًا مهمًّا من تاريخ الدولة العثمانية، فصار توافد اليهود غير مقصورٍ من المناطق المحيطة بالعثمانيين بل جاؤوا من بلدان بعيدة للعيش تحت ظل العثمانيين.
تجاوزوا عن اليهود جرائمهم وعاقبوا المسلمين بالظن والقمع
وأبرز الهجرات اليهودية إلى الدولة العثمانية كانت سنة (1492م)، وهي السنة التي سقطت فيها الأندلس من حكم المسلمين نهائيًّا وانتقلت إلى الإسبان، وجاءت الموجة الثانية من المهاجرين اليهود من أرض الأندلس سنة (1496م) من البرتغال، إذ عانى اليهود ما عاناه المسلمون من اضطهادٍ وتعرضٍ لمحاكم التفتيش والحرق.
ومما يُلحظ هنا أن اليهود الذين توافدوا على حدود الدولة العثمانية بعد سقوط الأندلس لم يأتوا فقط من جراء الاضطهاد الإسباني، بل تشجع يهود الدول الأوروبية الآخرون للهجرة إلى الدولة العثمانية بعد أن رأوا ذلك الترحيب العثماني باليهود من دون فرض قيود أو شروط تذكر.
ومما يلفت الانتباه أن السلطان بايزيد الثاني الذي قابل وفود المسلمين الأندلسيين بقلبٍ بارد وعدم مبالاة، هو نفسه الذي كلف (كمال رئيس) سنة (1492م) بقيادة أسطول عثماني مخصص لإنقاذ اليهود من الفناء في الأندلس، وقد أشير تجاوزًا أن الإنقاذ لليهود والمسلمين، بينما استفاد من هذا الأسطول المنقَذ اليهود وحدهم، ولم يُذكر أن حاول هذا الأسطول الوصول إلى الشواطئ محاربًا لإنقاذ المسلمين، إذ لم يكن دوره سوى النقل والترحيل.
والرواية العثمانية تصور هذا الأسطول على أنه أسطولٌ محاربٌ، بينما أنه بحسب العلاقة المبنية على المصلحة في أوروبا مع العثمانيين لا يمكن أن تؤيد مسألة محاربة أسطول العثمانيين للإسبان، بل الأكيد أنه كان بعلم الإسبان، ونقل من خلاله اليهود والمسلمين الفارين من العذاب والتطهير والتنصير.
حرص العثمانيون على اليهود أكثر من حرصهم على المسلمين، إذ زجوا مسلمي الأندلس الفارين في المغرب العربي لإعادة تدوير جهودهم في تثبيت الحكم العثماني في الأندلس بعيدًا عن حلم العودة للوطن والأرض الأندلسية، بينما استأثر العثمانيون باليهود في أراضيهم: سالونيك وأدرنة وإزمير؛ لأنهم أهل تجارةٍ واقتصاد ومعرفة وعلوم، فكانت استفادتهم بالقرب منهم أكبر بكثير من الاستفادة من بكاءات المسلمين الفارين، الذين لم يكن همهم سوى الانتقام والعودة إلى أرضهم.
وفي الوقت الذي زج به العثمانيون مسلمي الأندلس في حروب وتصفيات وحسابات سياسية؛ كانوا قد منحوا اليهود في المقابل الامتيازات والمناصب العليا، الأمر الذي استثار ضغينة النصارى المماثلين لهم بالقرب من العثمانيين من الروم والأرمن؛ لأنهم دخلوا في تنافس شرس مع اليهود بالتقرب للبلاط العثماني.
بل إن العثمانيين كانوا أكثر تسامحًا وتناغمًا مع اليهود، ففي الوقت الذي كانوا يتغاضون فيه عن تجاوزاتهم وأخطائهم؛ كانوا يمارسون أقسى أنواع الظلم والجور والتشفي مع المسلمين من العرب وغيرهم، ومما يؤكد ذلك تغاضيهم عن الحركة التي قام بها سبتاي سيفي اليهودي سنة (1648م)، الذي ادعى أنه المسيح، وأعلن نبوته من فلسطين، واحتوته الدولة بعد أن أعلن إسلامه ثم ارتد ثم أعلن إسلامه مرةً أخرى، وفي الوقت نفسه أسس ليهود الدونمة (بمعنى العائدين)، ومن حركته صار من ضمن مسلمي الأتراك ممن ينتمون لطائفة الدونمة اليهود بأسماء إسلامية وهوية إسلامية، ومن خلالها كانوا يمارسون كل أنشطتهم وسيطرتهم على العثمانيين مقابل ما كانوا يمنحونهم إياه من صلاحيات ومناصب عالية.
وجميع يهود الدونمة في الدولة العثمانية هم من يهود الأندلس الذين احتوتهم الدولة العثمانية، وبالمقارنة بين موقف العثمانيين تجاه الأندلس؛ نجد أنهم قاموا باحتواء اليهود لأنهم يحققون لهم مصالح مختلفة، بينما أهملوا المسلمين الأندلسيين ومن استقبلوهم وظفوهم في خدمة مصالحهم الاستعمارية في المغرب العربي، ما يعني أن الحسابات العثمانية كانت تُغَلِّب مصلحة الدولة على الدين وكل ما يتعارض معها مهما كانت أبعاده العقدية أو الدينية.