"الدراما" التركية..

أول ضحاياها المراهقون العرب وآخرهم الرئيس التركي

مهَّد الأتراك لعبور أفكارهم إلى يقين السلوك للفرد العربي، ثم محاولة توجيهه من خلال الإضاءة المدروسة، والمكياج الفاتن، مع قليل من مشاهد “البلاج” الموجودة في الأفلام العربية القديمة، وكذلك الأجنبية، من أجل الفن، وليس بنوايا سياسية، فقد استطاع المنتجون الترك أن يبتكروا طريقة أخرى لحقن السياسة في الوريد الاجتماعي العربي والإسلامي، وخصوصًا في مجتمعات الخليج العربي من خلال “الفن”، وفن المسلسلات بالضبط، فمهند لم يكن إلا “مهندًا” لذبح الحياء والغيرة، وإدخال المُشاهد العربي في متاهة من العاطفية المفرِطة، وتأجيل العقل، وقبله ذبح رسالة الفن الخالدة التي أشار إليها مالرو عام (1901م) بأن الفن وحده هو الذي يستطيع أن يمنح البشر إحساسًا حقيقيًّا بتلك العظمة التي طالما جهلوها عن أنفسهم. 

وإذا كانت الدراما جزءًا من الوعي والحرية التي ينادي بها الفن، فإن دراما المسلسلات المدبلجة التركية هدفها الأخير التعمية والاستحواذ، عن طريق تصوير المجتمع التركي بأنه قطعة من الرومانسية الناعمة، مع بث مَشاهد لأجمل المناظر الطبيعية في بلادهم؛ لتتَّحد الرومانسية ودعوات السياحة في رسم جمال للروح التركية، كمرحلة من ضمن مراحل تحسين الصورة وتذويقها من خلال باب غير متوقَّع لا ينتبه له أعتى المحلِّلين السياسيين والنقاد الفنيين، متجاوزين عقبة اللغة بالدبلجة بالعربية، إضافة إلى الدبلجة الاجتماعية للمجتمع التركي، وإظهاره مثاليًّا.

وإذا كان صحيحًا ما يقال بأن المسلسلات التركية المدبلجة قُدِّمت لقنوات عربية بالمجان في البداية، بل وتُحمِّل المنتج السياسي الفني تكلفة نَقْلها المباشر للقطة والمشهد إلى اللغة العربية، فإن الأمر يحتاج إلى التوقف والتساؤل بمرارة: مَن كان خلف هذا “التسريب “؟

وإذا كانت هذه المسلسلات تفوَّقت في جَذْب أرقام عالية من المتابعة العربية؛ لغرابة أجوائها وسيناريوهاتها التي تعتمد على المفاجأة والإطالة، واستطاعت أن تُشرك المشاهد العربي في قضايا الإنسان التركي، وذلك كان هدفًا متقدمًا للدراما التركية، فبعده زاد الاستثمار العربي في عقارات إسطنبول وأنقرة وطرابزون وغيرها، بل وانتقلت وجهة السياح العرب إلى جبال الأناضول ومنمنمات إسطنبول، وإلى حاناتها القذرة، وشوارعها المؤدية دائمًا لدائرة السياسة، إلا أن ضحاياها كانوا من المراهقين، بعد أن انتبه الرُّوَّاد الغيورون من العرب في السياسة والفن والفكر للعبة الدراما التركية، فأشاروا إلى الهدف المخبأ في ثنايا السيناريو التركي وديكوراته الفخمة، و”مكياجه” الفاخر، وهو تقديم صورة سياسية نقية لتركيا غير واقعها.

الفن التركي سعى إلى تعبيد الطريق بـ "الزفت" لتنمية السياحة السياسية.

كانت المسلسلات التركية المدبلجة غالية الثمن مثل أي مسلسلات مدبلجة في تاريخ الفن، وبعد أن كانت بديلًا جاذبًا للأفلام المترجَمة ساعدها في ذلك تشابُهها الكبير مع أصل المسلسل، واعتمادها على السماع الأسهل من القراءة، وكان لغلاء أسعارها دور في شراء القنوات الخليجية “المقتدرة” ماليًّا لزيارة الأماكن والمواقع الطبيعية في تركيا، فقد استطاعت تلك الأعمال الفنية – التي لا ينقصها بالفعل عناصر التشويق والجذب- الدخولَ للقلوب العربية، وبالتالي صناعة رأي عام عربي عاطفي مؤيِّد للحالة التركية الغريبة، بعد تفريغ العقل العربي من أصول أفكاره وأيديولوجياته بواسطة الفن هذه المرة، أو السبق لتعبئته بالسلع الفكرية التركية.
من جانب موازٍ فإن القسم الآخر من الدراما التركية، وهو الدراما “التاريخية” يجد بونًا شاسعًا بينها وبين الدراما العربية؛ فالدراما العربية تهدف إلى أن تقدِّم للمُشاهد مادة ثقافية وفنية بغرض المتعة أولًا، والمنفعة ثانيًا، وثالثًا تقوم على قاعدة معلومات تاريخية مُتَّفَق عليها في الغالب عن التاريخ العربي والإسلامي، أما الدراما التركية التي تُرجِمت ودُبلِجتْ إلى العربية بأصوات شخصيات عربية، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: (حريم السلطان، ومسلسل أرطغرل، وقيامة عثمان والمحافظ، وغيرها كثير)، فقد اتخذت من الإخراج الضخم، والمَشاهد المُبهرة، والمحتوى اللغوي القوي؛ لخدمة السياسة التركية في إعادة العثمنة التي يُلمح لها تارة المسؤولون الأتراك، وتارة يعلنونها صراحة ووقاحة.

سطو على التاريخ بملايين الدولارات من أجل إعادة العثمانية إلى الواجهة.

وكل هذا الإنتاج الباهظ الذي يمكن تعويضه بإنتاج أقل إنما هدفه ليس مزاحمة دور الإنتاج الغربية، ومحاكات منتجاتها، بل لتمجيد الخلافة العثمانية المزعومة وتلميع سلاطينها، وإعادة تغذية الشخصية العثمانية في الإنسان التركي بإحياء العنصرية المقيتة في نفوس الشعب التركي تجاه الآخر، وإعطاء الحاكم التركي صفة الحامي والمحافظ على دعائم الخلافة العثمانية، والوريث الشرعي لها، فمنذ عشرين عامًا توغَّلت الدراما التركية في عقول المراهقين العرب، وأصبحت تديرها بالريموت، حتى إذا كبِروا أصبحوا في صف الجوقة التركية.

بعض المثقَّفين والباحثين من العرب الذين صنعتهم الدراما التركية مالت بهم إلى المؤازرة والتأييد للمعلومات المغلوطة التي تَبُثُّها وتَسُوقها بمهارة السياسة، ووفق منهج مبرمَج قد يصل إلى البرمجة الاستخباراتية، فها هو باحث عربي في جامعة عربية وإسلامية يُشهر عن رسالة علمية عنوانها: ، يصف فيها (أرطغرل) بأنه جدُّه الأول الغازي، وأن جدَّه (فخر الدين باشا) هو المدافع الأخير عن شرف المدينة المنورة، كما وصف العثمانيين بأنَّ أجداده شرفاء وصلحاء البشرية وحكماء الأمة. 

المتأمل في المشهد السياسي التركي يستطيع القول بكل سهولة وعفوية بأن السحر انقلب على الساحر، وأصبح السيد رجب أردوغان من حيث لا يدري من أبطال المسلسلات التركية المدبلجة وضحاياها، فهو يغطي شخصيته بإخراج فني مُبْهِر، ويشتري ظهوره بشقاء الشعب التركي، في محاولة أخيرة ومتأخِّرة، فبدل أن يبني للتاريخ التركي الحديث ذهب يستحلِب التاريخ العثماني بعد طمس الحقائق، وإخفاء العلمانية في ملامح وجهه السياسي بالإسلامَوية في مسلسل طويل جدًّا، سينتهي لا محالة بمشهد موت المخرج والبطل، الذي بدأ الشعب التركي بكتابة السيناريو له بإظهار غضبه على واقع الحال الاقتصادي والسياسي.

الناقد مصطفى الكيلاني لـ "حبر أبيض":

نحن سمحنا بتموقع الاستعمار التركي الدموي لمنطقتنا بترويج "دراما العصملي"

تتعالى نبرة الأسى في طرح الناقد الفني المصري مصطفى الكيلاني تجاه ما وصلت إليه الدراما العربية من تراجع في ظل تغلغل الدراما التركية في العالم العربي، لذلك بين الرأي العلمي في الطرح التاريخي، وبين ما يُترَجْم من الدراما التركية أو ما يجابهها من دراما عربية؛ يظهر الرأي الفني المتخصص الذي يتوافق مع الهم العام للمنطقة العربية. 

مصطفى الكيلاني يقسو على الدراما العربية وداعميها بقوله: “يجب أن نعاقب أنفسنا، كصناع دراما، ومؤسسات إنتاج، حكومية وخاصة؛ بسبب سماحنا بعودة الاستعمار التركي الدموي لمنطقتنا، بعد أن فتحنا لهم الباب طواعية، عن طريق الدراما التركية، في بداية الألفية الثانية. فالمستعمر التركي لم يبذل أي مجهود في التموقع داخل بلادنا، سوى أنه قدم لنا مسلسلات، دعم وجودها غلمانه الذين زرعهم في القنوات العربية، سوقت لنا الحلم التركي”.

أبرز تحدياتنا في تصحيح وعي أجيال كاملة تُركت للدراما التركية تبعث بها.

وعن عدم استشعار الخطر يؤكد “كتبت عدة أقلام منذ بداية الألفية الثانية عن الغزو التركي، وقدمت وصفًا تفصيليًّا لما سيحدث بعدها، ولكن لا أحد استطاع أن يستوعب مدى الخطر المقبل، حتى أصبحت تركيا الآن تسيطر فكريًّا على شريحة كبيرة من العرب، وفعليًّا تتحرك في ليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان، وأصبحت على حدود بقية الدول العربية”. 

ويشير الكيلاني إلى أن سوريا فتحت الباب أمام غزو تركي من خلال الدراما “عملت الدولة السورية ضد نفسها، لدرجة تجريم الحديث عن مذبحة الأرمن، من الأرمن السوريين، وسمحت بدخول المسلسلات من بوابتها إلى باقي الوطن العربي، وكانت هي أولى ضحايا ذلك الاستعمار. استُقْبِلت الأعمال التركية وكأنها المنقذة، فأوقفت القنوات الخليجية شراء المسلسل المصري لصالح التركي، وتوقفت بعض قنوات شمال إفريقيا عن الإنتاج وفتحت الباب لاستعمار أدمغتها، مع وجود ظهير «إسلامجي» يتغلغل في المجتمع ليطرح المستعمر التركي بديلاً عن الأوطان، ويقدم النموذج التركي بديلاً عن القيادة الوطنية”.

بينما يرى أنه أصبح لـ”العصملي” ظهيرٌ سياسيٌّ وشعبيٌّ قويٌّ، وأجيالٌ كاملة تكوَّن وعيها على ما يقدمه المسلسل التركي من عنف ودموية وزنا محارم ومهانة للمرأة “لدرجة أن الممثلة التركية الشهيرة لدى العرب بيرين سات أشارت في أكثر من لقاء صحفي أنها غير راضية على ما يُعرَض على الشاشة التركية من مسلسلات تشجع على تعنيف النساء واضطهادهن”.

باعتراف التركية بيرين سات: الدراما التركية تشجع على تعنيف المرأة.

وعن الأجيال التي تربت على المسلسل التركي يؤكد الكيلاني “تخرج جماعات في مظاهرات وداخل صفحات التواصل الاجتماعي لكي تدعم المستعمر التركي ضد بلدها، بحجة ما أسموه “الخلافة الإسلامية”، وكأن الخلافة الراشدة كانت في تركيا، وكأنه لم تكن هناك خلافة في المدينة المنورة ودمشق وبغداد والقاهرة، ولا عجب في أنهم يحرفون القرآن والحديث لكي يثبتوا أن تركيا فقط تمثل الإسلام، ولا نستغرب أن هناك أجيالاً ستخرج فيما بعد لتحدثنا أن نبي الإسلام كان تركيًّا، مثلما يتحدث مجتمع السود في أمريكان أن النبي محمد كان من إفريقيا. وبعيدًا عن الخسارات في المجتمع العربي من تبعية الأدمغة لما تقدمه تركيا، فهناك مكاسب على الجانب الآخر، أهمها أن تركيا بلغت إيراداتها من بيع مسلسلاتها ما يقترب من مليار دولار عام 2020 من العرب فقط”. 

ويشير إلى مقالة على أحد المواقع التابعة للحلف التركي أن الأعمال الدرامية التركية أدت إلى وصول عدد السائحين العرب إلى ما يزيد عن ثلاثة ملايين سائح عربي في العام، ومن الخليج وحده أكثر من مليون يزورون تركيا سنويًّا، حتى بعد المقاطعة، مازال هناك الكثيرون من مسلوبي العقل ممن يدعمون الاقتصاد العصملي والسياحة التركية. وبخلاف زيادة صادرات تركيا من الملابس والإكسسوارات في دول الشرق الأوسط، وافتتاح فروع كثيرة للماركات التركية في معظم الدول العربية بعد زيادة الإقبال الشعبي على ما يشاهدونه في المسلسلات والأفلام التركية، وتحول “العصملي” إلى علامة مهمة في “الموضة الإسلامية” التي اخترقت الأسواق العربية مؤخراً بالتزامن مع الغزو الدرامي.

وبحسب الكيلاني فإن “مسلسلات العصملي أدت أيضًا إلى إقبال المواطن العربي على اقتناء الأثاث الذي يشاهده فيها، ما أدى إلى زيادة واردات إحدى الدول العربية من الأثاث التركي من 81.2 مليون دولار عام (2013م) إلى 159.7 مليون دولار عام (2015م). ووصل الأمر بتأثير الدراما التركية إلى أن العرب أصبحوا يسمون أبناءهم بأسماء شخصيات المسلسلات، أو الممثلين الأتراك، وتناسوا تمامًا الجرائم التي ارتكبها الاستعمار التركي ضد المنطقة، وجعلها تتراجع أكثر من 1000 سنة في سلم التطور البشري، بعدما سحب منها كل الأدمغة الأطباء والمهندسين والعمال المهرة، لكي يبني مدنه ويعالج شعبه، وتعمد إفقار مستعمراته وتجهيلها.

الدراما المستوردة دعمت جيش الأطماع التركية في المنطقة العربية حسب رأي الناقد الفني، لذا يرى أنه يجب مواجهتها بقوة، وغلق كل الأبواب أمامها، سواء على القنوات أو في وسائل التواصل، وتقديم منتج من المسلسلات والأفلام يغطي جوع المواطن العربي لمنطقتي الرومانسية والبطولة، التي غلف العصملي رسائله المبطنة داخلها. 

ويختم الكيلاني رأيه “لدينا الكثير من الأبطال العرب، وبدلاً من أن تُصرْفَ المليارات على تقديم منتج درامي ضعيف، علينا فتح الباب أمام دعم كامل لمنتج مصري سوري لبناني خليجي بمواصفات عالمية، وترويجه بكل الطرق، ولدينا مثال مسلسل “الاختيار” في مصر، لو صنعنا مسلسلات على مثاله من كل قطر عربي، لكان لدينا حصيلة كبرى تقف أمام الغزو الثقافي العصملي”.

استوردنا جيش الأطماع التركية إلى عالمنا العربي.

تشغيل الفيديو

فيلم (الفاتح 1453)

النقاد: من يستغني عن الحقيقة التاريخية.. تتركه عارياً

إغفال الحقيقة التاريخية إما بطمرها أو المرور عليها بخفة وتغليب القيمة الإخراجية الفنية عليها في قائمة طويلة من الأفلام التاريخية التركية هو ما يمكن تسميته بسينما “الخيال السياسي” قياسا على سينما “الخيال العلمي”، ويعبر عن توجه تركي سياسي باتخاذ الفن قوة ناعمة لتمرير الأفكار المختلفة التي تريدها حكومة اسطنبول من خلال إضفاء البطولات والألقاب على السلاطين العثمانيين وتلميع شخصياتهم، وكذلك تحسين صورتهم السياسية الملطخة بأكثر من سبعة قرون من القتل والبطش والتفرقة العنصرية، فصارت توزع الوجبات السياسية مع تذاكر دخول السينما.
كثير من النقاد الفنيين والمؤرخين توجس مبكرًا من مخرجات الصناعة الدرامية التركية، ففي مواجهة نرجسية فيلم (الفاتح 1453) التركي؛ آخر الأفلام التركية المشهورة الذي تحدث باسم حزب العدالة والتنمية عن غزو السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية وعرض لأول مرة يوم 16 فبراير 2012م في بلاده، وكان قبل ذلك قد عرض أمام رجب طيب أردوغان في منزله حين كان يعمل رئيساً للوزراء، وعلّق قائلاً لفريق الفيلم: “أعجبني كثيراً، سلمت أيديكم” وهذا يدل على أن تكلفة الفيلم البالغة (18,200,000) دولار قد دفعتها أمانة اسطنبول الكبرى التي يحكمها حزب أردوغان نفسه، كما يؤكد الإرادة السياسية في تركيا على صناعة سينما مسيسة ومسبقة الدفع تروّج للطموح في إعادة العثمانية للوجود ضمن منظومة الخيال التي تعيشها تركيا الحالية الحالمة بعد أن مرّت مئات السنين على فشل بني عثمان الانضمام إلى أوروبا ثم إلى الاتحاد الأوروبي بسبب فظائعهم الإجرامية مع شعوب الدول العربية والأوروبية وأبرزها مذبحة الأرمن، والاستبداد العنصري، والنهب المالي، والتجريف الثقافي لتلك الأمم، هذا الفشل جعل الحزب السياسي الحاكم يلجأ إلى شعوب الرعايا المسلمين في الدولة العثمانية البائدة من خلال استثارة غريزتهم الدينية بالسينما والدراما التلفزيونية خاصة في وجود آهات مصطنعة لأتباع الإخوان المسلمين في العالم للعودة إلى الإسلام السياسي.

دشنه أردوغان من منزله.. وحزبه دفع أكثر من (18) مليون دولار.

الدكتور فتحي عبدالعزيز محمد

يشير الدكتور فتحي عبدالعزيز محمد الباحث في السينما التاريخية بأن هذا الفيلم وغيره من الأعمال الفنية التركية يتضمن مخاطر هائلة على العقلية العربية فقد يودي بها إلى ما أسماه: “الأُمية التاريخية” فقد دفعت هذه المنتجات الفنية المبهرة في إخراجها بعض المتلقين إلى الاكتفاء بما يراه من مشاهد ومعلومات في تلك الأعمال ويعتقد أنها الحقيقة التاريخية، داعيًا المتلقي العربي إلى إحياء الجانب الإيجابي للأعمال الفنية المرئية وهو العودة إلى المصادر التاريخية بحثًا عن الصواب في أمهات الكتب في موضوع الفيلم المشاهد أيّا كان موضوعه . 

إن الخطورة التي أشار إليها الناقد المصري الدكتور فتحي محمد تدعو إلى ما أسماه -أيضاً- بالرد السينمائي المماثل على منتجات الماكينة السينمائية التركية بمثل تكلفتها المادية العالية وإمكاناتها الفنية الحديثة، ولكن بالبعد عن تكلفتها التاريخية الرخيصة.

كلايزر:

الفيلم أكثر إسلامية من أبطاله الحقيقيين.

يلماظ كورت:

ضحى بالواقع التاريخي من أجل أهداف تجارية

وعلّق الناقد الفني كلاوس كرايزر على الفيلم الذي يُعَدُّ الثاني عن السلطان محمد الفاتح: “من الملاحظ أن العثمانيين الذين فتحوا القسطنطينية في هذا الفيلم في عام 2012م كان فكرهم إسلامياً أكثر من فكر أسلافهم الذين فتحوها في عام 1453م” ويوضح ذلك بالحديث عن مخرج الفيلم فاروق أكصوي: بـ “وضع المخرج مشهدًا يتم فيه إجراء مداولات حول الوضع السياسي في حمَام يشاهد فيه القيصر الروماني قسطنطين الحادي عشر وهو يسبح بالماء مع ثلاث فتيات يرتدين ملابس سباحة، فهل كان يريد إظهار لعنة “العاهرة بيزنطية”؟ أم أنّه كان يريد السخرية من لوحات الفنانين المستشرقين الذين رسموا الحكام العثمانيين منغمسين في مثل هذه الملذات؟” في إشارة منه إلى ملاهي وملذات السلاطين الأتراك التي أغفل الفيلم تصويرها والموثقة بفنون تشكيلية، ويكمل: “وفي آخر المطاف لا يتم حتى التلميح إلى أعمال السلب والنهب التي تعرّضت لها القسطنطينية على يد الجيش العثماني واستمرت ثلاثة أيام”، وفي سياق الحقيقة التاريخية المغفلة في الفيلم قال يلماظ كورت مدير كلية التاريخ في جامعة أنقرة من وجهة نظر أكاديمية: “إن الفيلم حدثٌ على مستوى كبير من النوعية والتقنية، لكن التضحية بالواقع التاريخي تمت لاعتبارات تجارية” واستدل على ذلك بمشهد في الفيلم ظهر فيه الإمبراطور البيزنطي يأمر جيشه بالخروج من المدينة لقتال العثمانيين معلّقاً عليه: “إخراج الجيش من المدينة أمر سخيف في مدينة كانت في موقع الدفاع، فلم تكن القسطنطينية تملك القوة للقيام بذلك”. 

الفيلم الذي تبلغ مدته حوالي ( 165 دقيقة) مازج بين براعة التقنيات الحديثة والحقائق الناقصة فدمرت كل منهما الأخرى ليكون في النهاية فيلمًا للاستهلاك السياسي باتخاذه وسيلة للعثمنة الجديدة بهدف الوصول إلى استمالة عاطفة الجيل الجديد الناشئ بمؤثرات سينمائية على أمل أن هذا الجيل العربي قد انفصل عن ذاكرة أجداده وآبائه الذين يدركون حجم الجريمة العثمانية الكبيرة على حياتهم إلا أن ذلك -وبشهادة نقاد سينمائيين- لن يتجاوز مداه في التلميع والتلميح لطموحات أردوغان في الخروج من القمقم الذي أوقع فيه شعبه إلى إمبراطورية” سينمائية فقط، فمن يستغني عن الحقيقة تستغني عنه ولو بعد حين.