الرق في العهد العثماني:
أدوات للاستعباد وسيوف للاستبداد
شكَّل نظام العبودية ظاهرة شاذة في تاريخ المجتمعات الإنسانية دفعت بالدين الإسلامي الحنيف إلى العمل للقضاء عليه بل جعله كفارة لبعض التجاوزات الدينية والمجتمعية الخطيرة (الإفطار العمد في رمضان، كفارة اليمين، القتل الخطأ…) وهو ما جعل هذه الظاهرة تتناقص إلى أن انقرض العمل بها في معظم الدول العربية والإسلامية، باستثناء المناطق التي خضعت للسلطنة العثمانية حيث عرفت تجارة الرقيق انتشارًا عكسيًّا ونشطت لتأخذ طابعا مُهيكلاً خاصة بين القرنين الخامس عشر إلى السابع عشر الميلادي من خلال تقنين هذه الظاهرة، والتطبيع معها في ضرب صارخ لروح الإسلام التي ترفض الاستعباد، ولنهج السلف الذين حاربوا هذه الظاهرة وانعكاساتها السلبية، وهنا نستحضر مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.
في هذا السياق، انتشرت ظاهرة العبودية في السلطنة العثمانية في أعقاب الحروب وحملات الاستيطان التي خاضها العثمانيون في شمال وشرق إفريقيا وأوروبا الشرقية والبلقان والقوقاز، وهو ما أدى إلى اتساع كبير لقاعدة العبيد في السلطنة جعلتهم يؤسسون قاعدة اجتماعية مهمة حتى وإن كانت من غير حقوق اقتصادية أو سياسية تذكر رغم أنهم شكلوا، في وقت من الأوقات، خمس سكان القسطنطينية. وهنا نجد الباحث التركي هايري كوكسين أوزكوراي يؤكد على هذا الطرح بالقول “العبودية كانت حاضرة بقوة داخل الإمبراطورية العثمانية، وتصل إلى 10% من ساكنة الحضر. بسبب الحروب ثم الشبكات التجارية للاستيراد مَكَّنهم ذلك من جلب 15 ألف من العبيد سنويًّا وبشكل مستمر. غير أن عملية الاستغلال هاته لم تكن مؤسسة على بعد عرقي أو إثني لأن العثمانيين قاموا باستعباد شعوب مختلفة حسب السياقات السياسية لكل مرحلة”.
ورغم أن العبيد كان لهم دور مهم في تحريك العجلة الاقتصادية داخل السلطنة بالإضافة إلى الأدوار الكلاسيكية التي كانوا يقومون بها داخل القصور السلطانية، إلا أن جلبهم للعبيد كانت له أهداف ديمغرافية وثقافية وعسكرية، من خلال محاولة توسيع القاعدة العسكرية والسياسية والدينية التي يتحكم فيها السلاطين، على اعتبار أن العبيد الذين اعتنقوا الإسلام لم يكن بإمكان معظمهم، العودة إلى بلدانهم بعد تحريرهم.
من هذا المنطلق، شكل العبيد المفرخة التي أنجبت أحد أهم أدوات البطش العثمانية والتي أطلق عليها بـ “الانكشارية”. ولعل المطلع على تاريخ الجيوش الانكشارية التي أسسها السلطان العثماني مراد الأول، يصل إلى خلاصة بديهية مفادها أن هاته الطبقة العسكرية، التي شكلت -لقرون- حجر الزاوية في المؤسسة العسكرية العثمانية، ليست إلا إحدى مظاهر سياسة الاستعباد التي قام بها العثمانيون في حق الشعوب التي أخضعوها، وهي الجرائم التي ترقى في تقديرنا إلى جرائم ضد الإنسانية، من خلال استهداف الأطفال واستقدامهم إلى الأستانة، ومن ثم إخضاعهم لعملية غسيل دماغ قبل الزج بهم في سلك الجيش حيث الولاء للسلطان فقط، وهو ما يبرر الجرائم الإرهابية التي قامت بها آلة البطش هاته في حق المناطق التي أخضعها العثمانيون والتي كان للعرب النصيب الأكبر منها.
وإذا كانت العبودية -كما أشرنا إلى ذلك- ظاهرة شاذة عند المسلمين فإن من أطلقوا على أنفسهم لقب “الخلفاء” جعلوا منها إحدى ركائز الاستراتيجية التوسعية للإمبراطورية العثمانية، وتعاملوا مع الظاهرة وفق مقاربة هي أقرب إلى “الريالبوليتك” منها إلى الانضباط إلى النص الديني والتوجيه النبوي الشريف. وهنا نسجل بأن السلطان محمود الثاني عندما قرر إلغاء تجارة الرقيق في أوائل القرن التاسع عشر استثنى من القرار العبيد من ذوي البشرة السوداء في حين تحرر جميع الرقيق البيض من يونانيين وجورجيين وأرمن وشركس…ليتحولوا بعدها إلى مواطنين عثمانيين يتمتعون بجميع حقوق المواطنة، بينما ظل الرقيق السود يعانون تحت نير هذا النظام العبودي الذي سلبهم الحق في ممارسة أبسط حقوقهم الإنسانية وحتى الحيوانية، ليستمر الوضع على ما هو عليه إلى أواخر عهد الدولة العثمانية، حيث تؤكد بعض الشهادات بأن تجارة الإماء استمرت حتى سنة 1908م.
وتجدر الإشارة إلى أن من أطلق عليهم “حريم السلطان” كانوا يتشكلن من هؤلاء الإماء اللاتي أثَّثنَ قصور آل عثمان، بل إن منهن من انتهى بها الأمر إلى الزواج برأس الدولة العثمانية ومنهم السلطان سليمان القانوني الذي يُحكى عنه أنه وقع في حب (أمة) أوكرانية تدعى “روكسلان” وتزوج بها لتنجب له السلطان سليم الثاني. كما أن العديد من العبيد الذين استطاعوا أن يستفيدوا من دعم القاعدة الشعبية الكبيرة للرقيق داخل السلطنة بالإضافة إلى معرفتهم بما يدور داخل المطبخ السياسي، استطاعوا أن يصلوا إلى مراكز سياسية مهمة ومنهم العثماني من أصول يونانية علي بك الكبير الذي أصبح واليا على مصر والحجاز قبل أن يتمرد على الدولة العثمانية، بالإضافة إلى أحمد باشا الجزار (أحمد البوشناقي) والذي تعود أصوله إلى البوسنة والهرسك وقد استطاع أن يُخضع مناطق شاسعة من بلاد الشام، إلا أن عقيدة الكراهية تجاه الأتراك جعلته يتصرف باستقلالية فعلية عن مركز القرار في القسطنطينية.
إن المعاناة التي تعرض لها العبيد على عهد الدولة العثمانية تجعل الباحث يتساءل!! هل نحن فعلا أمام كيان سياسي قاعدة التعامل فيه الدين الإسلامي والاجتهادات الفقهية والعرف كما نصت على ذلك دساتير الإمبراطورية التي حددت مصادر التشريع في هذه الأبواب الثلاثة؟!!. وهنا نجد نفس المؤلف هايري كوكسين أوزكوراي يقول في أطروحته المعنونة بــ “العبودية في الإمبراطورية العثمانية (القرن 16م-17م): الأسس القانونية، الحقائق السوسيو-اقتصادية…) ما نصه “وتجدر الإشارة بأن سوء المعاملة من طرف السيد (مالك العبد) تُشكل ممارسة مفرطة للامتيازات التي منحت لهذا الأخير بدلا من اعتبارها خرقا لحق العبد في سلامته الجسدية”. (ص 165 من النسخة الفرنسية).
وحتى نُصور للقارئ الكريم الحالة المؤلمة التي كان يعيشها العبيد داخل الدولة العثمانية في القرن 17م، نضع بين أيديهم حالة إحدى الجاريات التي كانت تدعى “سرتاب” والتي كانت ضحية لمعاملة قاسية من طرف رجل كان يملكها يدعى محمد بن محمد حيث كان يعاملها بعنف مفرط في إحدى أحياء إسطنبول، ليتقدم الجيران بشكاية إلى القضاء العثماني تنص على ما يلي “محمد، بالإضافة إلى أنه يشرب الخمر ولا يصلي أبدًا، فإنه يدخل كل يوم إلى بيته مخمورا ويضرب أمته (أم الوليد) التي تدعى سرتاب. ويذهب بها إلى سوق العبيد في مناسبات عديدة قصد بيعها. فما كان من المحكمة، بعد الاستماع إلى إفادات الشهود، إلا أن حكمت على محمد بن محمد بالإبعاد عن الحي بتهمة الإخلاء بالسكينة العامة وليس بجريرة المعاملة غير الإنسانية في حق الأمة سرتاب التي اضطرت إلى مصاحبته إلى مكان آخر علَّه يتوب، من تلقاء نفسه، عن ممارساته الوحشية العنيفة اتجاهها.
ولعل هذه القصة “الواقعية” يمكن أن تشكل خلاصة عامة لواقع العبودية في الدولة العثمانية، ذلك الواقع شكل نظامًا قانونيًّا معترفا به أنتج جيوشا من المخلفات البشرية نكَّلت بكل من وقف في طريقها، وأذاقت الشعوب ألوان العذاب والإبادة. وأما من قويت شوكته منهم فقد تمرد عن السلطة العثمانية مع أول فرصة سنحت له وأعلن استقلاله الفعلي عنها وكفر بالانتماء إلى هذا الكيان الذي لم ينتج إلا ثقافة القتل والإرهاب والاستعلاء العرقي والعنصري.