الدولة السرية داخل القصور العثمانية

خفايا آغاوات القصر

فشل العثمانيون إلى حد بعيدٍ في السياسة الاجتماعية، وتأسيس طبقات مغذية لمناصب الدولة وأفراد الجيش، ذلك حينما اعتمدوا على أسرى الحروب من الأطفال، وشكلّوا منهم جنودًا يدينون بالولاء لهم، لكن هؤلاء الأطفال كبروا وأصبحوا فيما بعد يُعرفون بجنود الإنكشارية، وبدلًا من أن يدينوا بالولاء لسلاطين العثمانيين، صار سلاطين العثمانيين رهينة في أيديهم يحركونهم كما يريدون. 

الأمر ذاته حدث مع “الآغاوات” الذين جلبهم سلاطين العثمانيين من كل حدب وصوب، واستأمنوهم على القصور وأسرارها وظنّوا أنهم ببعض الإجراءات كالإخصاء يمكن السيطرة عليهم، لكن كالعادة خاب ظنهم فقد أصبح الآغوات دولة موازية داخل القصور العثمانية، بل أصبحوا طرفًا أساسيًّا في المؤامرات التي تُحاك، والوسيلة الأقرب لأزواج السلاطين لتحقيق ما يُرِدْنَ تنفيذه من مؤامرات وجرائم.

وقبل توضيح دور الآغاوات وكيف شكّلوا دولتهم الموازية، نشير أولًا أن كلمة “آغا” متعددة المعاني، وبالنظر إلى القواميس التركية العثمانية نجدها تعني السيد، أو رئيس الأسرة، ورئيس الخدم في قصور الطبقة الأرستقراطية.

ولعل البعض يظن أن آغاوات الجيش هم الأعظم شأنًا في هذا النظام، لكن هذا إن كان سلاطين العثمانيين يهتموّن بالحرب وتأمين بلادهم من الأساس، فالحقيقة التي تشير إليها المصادر التاريخية أن أعظم الآغاوات شأنًا وأخطرهم من حيث الأدوار التي لعبوها كانوا آغاوات القصر، أي الذين عملوا داخل قصور الحكم العثمانية.

والآغاوات هم في الأصل من طبقة العبيد المملوكين، أنشأ لهم سلاطين العثمانيين مؤسسة كاملة لتكون أول مؤسسة عبودية عرفها التاريخ الإنساني، تعمل من خلال قوانين بعينها وقواعد غير مسموح الخروج عنها. 

أما آغاوات القصر فهم الحلقة الأهم في تلك المؤسسة، وكانوا يُجلبون من نواحٍ شتى، فالعبيد أصحاب البشرة البيضاء يُجْلَبُون من المجر وألمانيا، ويطلق عليهم “آق أغا” أي الخصي الأبيض، والعبيد أصحاب البشرة السوداء يسمون بالخدم الطواشي “المخصيين”، وكانوا يُجْلَبون من أسواق مصر وإفريقيا، وقد تأسس لهؤلاء العبيد ثكنات في القصور العثمانية سميت بـ”حريم آغاسي” للعبيد السود”، و”قابي آغاسي” للعبيد البيض.

أسس العثمانيون أول مؤسسة مكتملة للعبودية عرفها التاريخ الإنساني وهي مؤسسة الآغاوات.

ولكي يطمئن سلاطين العثمانيين أن جواريهم ونساءهم لن يَخُنَّهم مع هؤلاء العبيد الذين سيعملون داخل قصور آل عثمان، أقدموا على أبشع جريمة عرفها التاريخ ونهى عنها الدين الإسلامي بنصوص صريحة واضحة، وهي جريمة الإخصاء، فكان كافة العاملين من العبيد في القصور العثمانية الذين يعملون في خدمة النساء يخضعون للإخصاء فبذلك يفقدون قدرتهم الجنسية. 

ويشير كتاب “لمحة عامة إلى مصر” الذي ألفه الطبيب الفرنسي “أ.ب. كلوت” رئيس مصلحة الصحة في مصر أيام حكم محمد علي (1805-1849) أن مصر كانت المورد الأكبر الذي يستورد منه سلاطين العثمانيين الخصيان للعمل، وكانت مدينتي أسيوط وجرجا المصريتين مشهورتان بتلك العملية التي كان يوكل بها إلى جماعة من المسيحيين مهمتهم اختيار الضحايا من صغار العبيد الذين تختلف أعمارهم من ست إلى تسع سنوات، وتأتي بهم قوافل من السودان.

وكما يوضح مؤلف كتاب “لمحة عامة إلى مصر” أن الجماعات المسيحية التي شاركت في تلك الجريمة من أجل الكسب المادي كانت موضع احتقار من السكان، وكان عدد من يُشَيَّعُون سنويًا إلى قصور آل عثمان من المخصيين 300 من مصر فقط.

وبعد عملية الإخصاء البشعة يصل الآغاوات إلى قصور سلاطين العثمانيين ويُسَجَّلون في دفاتر تُسمى “أوجاق العبيد”، وبعدها يُقبل يد مربيه ويبدأ في تلقى التوجيهات المفروضة عليه، وكانت تلك التوجيهات تتعلق بكل شيء بداية من طريقة الحركة، كيفية الانحناء أمام السلطان أو السلطانة، مستوى نظره، إضافة إلى منعه من توجيه أي سؤال، أو الحديث مع فرد.

ويشمل نظام الآغاوات عشرة مناصب من الحد الأدنى إلى الأعلى، وهو ما خلق تنافسًا بين الخصيان لأقصى درجة كي يحصل على ترقية تمكنه من الحصول على أموال أو نفوذ أكثر، وبسبب هذا النظام شارك كثيرٌ من الآغاوات في الجرائم التي دبرنها حريم السلطان والمتحكمات في حركة ترقيات الآغاوات بما يملكن من سلطة أنثوية على سلاطين العثمانيين.

ويعد منصب “كيزلار آغا” بداية التدرج للمخصيين، وقد استُحْدِث هذا المنصب في عهد مراد الثالث عام (1574-1595)، إذ اختير أحد الخصيان ليكون مشرفا ومسؤولاً عن العبيد المخصيين في جناح الحرملك إذا كان من أصحاب البشرة السوداء، أما أصحاب البشرة البيضاء مهمتهم تعليم أمراء السلاطين والاهتمام بهم إلى حين البلوغ.

بالإضافة لمنصب “كيزلار آغا” هناك منصب آخر وهو الـ”أندرون” والمقصود به الآغاوات الذين تتلخص مهمتهم في تعليم أطفال فرقة الدوشرمة التوجيهات العثمانية، وتلك الفرقة تتكون من أطفال يخضعون لتدريبات قسرية ليكونوا جنودًا يحمون العرش السلطاني بعد ذلك.

أما أعلى منصب يصل إليه آغاوات القصر، فهو منصب آغا السعادة وينقسم إلى قسمين: آغا باب السعادة وهو المشرف على الآغوات البيض، وآغا دار السعادة وهو المشرف على الآغوات السود داخل الحرملك، أي مقر النساء في القصور العثمانية.

وتعددت أدوار الآغاوات داخل قصور آل عثمان، فلم تقتصر على الخدمة فقط، فمن هؤلاء اختار سلاطين العثمانيين جواسيسهم، وجندوا آغاوات لمراقبة كافة العاملين في قصور الحكم، كما كلفوهم بمراقبة النساء وتتبع حركاتهن وأحوالهن، ورغم أنه كان من الممنوع على آغاوات القصر المغادرة، فإن من يصل منهم إلى درجات متقدمة في الترقيات كان يُسمح له بالخروج لتأدية مهام يحددها سلاطين العثمانيين.

استخدمهم سلاطين العثمانيين جواسيسَ ولعبوا أدوارًا خطيرة لصالح الجواري.

وتشير المصادر التاريخية إلىى أن محمد الفاتح (1446م-1481م)، هو أول من استخدم الآغاوات كجواسيس له في قصور الحكم، خاصة في الاقتتال الداخلي بين أسرة آل عثمان طمعًا في كرسي العرش، كما سلك زوجات السلاطين مسلك أزواجهن فاستخدمن بعض الآغوات جواسيسَ لهن، كما فعلت زوجة السلطان مراد الخامس حين استعانت ببهرام آغا من أجل مقابلة عشيقها.

تعاظم دور الآغاوات منذ عصر محمد الفاتح الذي اعتمد عليهم في تنفيذ المؤامرات.

وشيئًا فشيئًا زادت تلك الأدوار ما بين الجاسوسية والمراقبة وحبك المؤامرات، حتى بات آغاوات القصر هم المتحكمون في كل شيء داخل قصور آل عثمان، ويعرفون ماذا يدور وعليهم يعتمد سلاطين العثمانيين فيما بات يشبه الدولة الموازية، خاصة أن ولاء الآغاوات لم يكن مخلصًا بالكامل فبعض منهم حاك مؤامرات ضد آل عثمان، بل إن بعضهم أحب عشيقة السلطان مثلما فعل نديم آغا حين عشق زبرجد جارية ومحبوبة السلطان عبد الحميد الثاني. 

وكأي دولة سرية، شهدت دولة آغاوات القصر داخل قصور الحكم العثمانية تنافسًا شديدًا بين آغا دار السعادة المسؤول عن العبيد السود داخل الحرملك، وآغا باب السعادة المسؤول عن العبيد البيض، واستمر هذا الصراع حتى وصل ذروته في آواخر القرن السادس عشر الميلادي، حين وصل محمد آغا الحبشي إلى منصب آغا دار السعادة وحسم الصراع لصالحه.

وساهم في حسم هذا الصراع قرب آغا دار السعادة من حريم السلطان، فساندْنَه، وتلك المعركة قد تبدوا للبعض أنها لا تتعلق بأحوال الناس في الإمبراطورية العثمانية، لكن هذا غير صحيح، فآغوات دار السعادة بعد أن حسموا الصراع لصالحهم أصبحوا مسؤولين عن أمور شتى في الامبراطورية العثمانية منها إدارة أوقاف الحرمين الشريفين، وإدارة بعض أوقاف السلاطين، وذلك زاد من نفوذهم، وكان أشهر هؤلاء الحاج بشير آغا الذي توفى عام 1746 بعد أن تولى منصب آغا دار السعادة لمدة ثلاثين عاما، كما أن هناك بعض الآغاوات استطاعوا جمع أموال طائلة بطرق غير مشروعة بسبب نفوذهم.

تحكّم الآغاوات في إدارة أوقاف الحرمين الشريفين وكافة التعيينات داخل الإمبراطورية العثمانية.

أضف إلى ذلك آن آغاوات باب السعادة لم يفقدوا نفوذهم بالكلية، فقد كان آغا باب السعادة هو من يشير على السلطان بكل التعيينات والترقيات داخل الجهاز الحكومي للدولة العثمانية، وهو ما يعني مفاصل الدولة الحقيقية باتت في يد هؤلاء، أو بالأحرى بات سلاطين العثمانيين رهينة في يد الآغاوات سواء كانوا بيضًا أو سودًا، وتكلل ذلك بأن أصبح آغا دار السعادة مُقدمًا على الوزراء في البروتوكول العثماني في الحفلات والاجتماعات الرسمية.

1. أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، المجلد الأول، استانبول، 1999. 

2. خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: محمد الأرناؤوط، بيروت، 2002.

3. حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، القاهرة، دون تاريخ.

4. أحمد آق كونديزوآخر،الدولة العثمانية المجهولة، (استانبول: وقف البحوث العثمانية، 2008م).

5. إيلبيرأورتالي، إعادة اكتشاف العثمانيين، ترجمة: بسام شيحا (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون 2012م).

6. ماجدة صلاح مخلوف، الحريم في العصر العثماني، (القاهرة: دار الآفاق، 1998م).

7. عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة، (الدار البيضاء: اتصالات سبو، 2008م)

آغاوات الحرملك

مخصيون

في خدمة نساء السلاطين

لم يدخر سلاطين العثمانيين جهدًا لتلبية رغباتهم الدنيئة وشهواتهم التي لا تنتهي، بل لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد سخّروا كافة إمكانات الدولة العثمانية من أجل مجالس اللهو والجلوس على الأسرّة للتمتع بالنساء، في الوقت الذي كان يعاني فيه المسلمون من الجوع والفقر.

وضمن أنظمة الدولة العثمانية الاستعبادية كان نظام آغاوات الحرملك الذي استحدثه سلاطين العثمانيين من أجل نسائهم وجواريهم، والمقصود بآغاوات الحرملك هم العبيد الذين يُجلبون للخدمة في حرملك قصور آل عثمان حيث النساء والجواري. 

ولضمان ألَّا تحدث أي خيانة بين النساء وهؤلاء العبيد الذين جلبوهم من كافة أنحاء العالم، أقدم سلاطين العثمانيين على أبشع جريمة بشرية عرفها التاريخ، ونهى عنها الدين الإسلامي بنصوص واضحة وصريحة، وهي جريمة الإخصاء، إذ كان العبيد المؤهلون للعمل في الحرملك يُخْصَونَ قبل البلوغ وذلك يفقدهم القدرة والرغبة الجنسية تمامًا تجاه النساء.

أقدم سلاطين العثمانيين على إخصاء آغاوات الحرملك في أبشع جريمة إنسانية نهى عنها الإسلام.

لكن جريمة الإخصاء لم تكن الأخيرة التي يتعرض لها هؤلاء العبيد الذين ساقهم حظهم البائس للعمل في قصور الحرملك، فبدخولهم هذا الجزء الغامض من قصور حكم آل عثمان، يخضعون لكافة التعليمات التي لا يمكن وصفها سوى بالاستعبادية، بداية من منعهم من الخروج من القصر، وعدم النظر في عين أي امرأة داخل الحرملك، ومنعهم من توجيه أي أسئلة لأي جارية، ويصف خير الدين آغا، رئيس الآغاوات في عصر عبد الحميد الثاني، في مذكراته، تلك التعليمات بأنها تجعل الآغا في النهاية مثل “الكلب” لا يمكن أن يفارق سيدته. 

وتوضح المصادر التاريخية أن أول من بدأ استخدام الآغوات للخدمة في الحرملك كان السلطان مراد الثاني 1420-1451 ميلادي، لكن تطور هذا النظام في عهد ابنه السلطان محمد الفاتح 1451-1481، الذي توسع في شراء العبيد والنساء من كافة أنحاء العالم. 

ورغم أن الله لم يميز بين الناس إلا بالعمل والتقوى، لكن آل عثمان الذين اعتادوا على مخالفة الدين، قسَّمُوا هؤلاء الآغاوات حسب لون بشرتهم، فكان العبيد أصحاب البشرة البيضاء الذين يُجْلَبون من المجر وألمانيا يسمون “آق آغا” أي الخصي الأبيض، أما أصحاب البشرة السوداء يسمون “الطواشي” ويُجْلَبون من مصر وإفريقيا، وقد اعتمد سلاطين العثمانيين على الطواشي في خدمة الحرملك.

أول من أسس نظام آغاوات الحرملك كان السلطان مراد الثاني وتوسع فيه ابنه محمد الفاتح.

وفي عهد السلطان مراد الثالث عام 1547 ميلاديًا، استُحدث منصب جديد داخل الحرملك وهو “كيزلار آغا” وتكون مهمة من يتولى هذا المنصب الإشراف على العبيد المخصيين المسؤولين عن جناح الحرملك داخل القصر العثماني، وامتاز براتب مرتفع وبيت واسع فسيح ونفوذ داخل القصر العثماني. 

دور آغاوات الحرملك في الدولة العثمانية لم يقتصر على خدمة النساء فقط كما حاول سلاطين العثمانيين ترويجه، بل اتسعت مهامهم حتى أصبح ما يفعله آغاوات الحرملك هو الأهم في تاريخ امبراطورية آل عثمان.

وفي البداية استخدمهم سلاطين العثمانيين جواسيسَ على النساء والجواري إذ إن هؤلاء النساء اللاتي تخطى عددهن الآلاف كما تؤكد المرويات التاريخية، جُلِبن من كافة أنحاء العالم ومنهن من ينتمين إلى دول وامبراطوريات عدوة للدولة العثمانية، ومن ثم لم يأمن سلاطين العثمانيين على أنفسهم داخل الحرملك خشية الاغتيال على يد امرأة، فجندوا آغاوات الحرملك لمتابعة كل حركات النساء وسلوكهن. 

لكن انقلب السحر على الساحر، هذا ما يمكن قوله بعد أن نشأت علاقات بين بعض الجاريات ونساء الحرملك، وبين آغاوات الحرملك الذين -رغم فقدهم للقدرة الجنسية- لم يفقدوا قلوبهم التي تعشق وهو أمر لم يدركه آل عثمان الذين ظنوا أن بإمكانهم امتلاك البشر.

استخدمهم آل عثمان جواسيسَ على نسائهم فانقلبت الصورة وأصبح الآغاوات شركاء النساء في المؤامرات.

ومن هنا بدأت المؤامرات التي اشترك فيها آغاوات الحرملك مع بعض نساء وجواري سلاطين العثمانيين ولعل أشهرها ما فعلته “بورتو سلطان” زوجة السلطان مراد الخامس التي استعانت ببهرام آغا لمقابلة عشيقها، وتطور الأمر إلى أن أصبح مؤامرة كبرى كادت أن تطيح بالسلطان العثماني مراد الخامس من على عرشه، وكان المتولي لكافة الأمور هو بهرام آغا. 

كما زاد من نفوذ آغاوات الحرملك أيضًا أن حركة ترقياتهم كانت في يد نساء الحرملك، وهو ما دفع هؤلاء العبيد إلى التقرب من الجواري المفضلات للسلطان، وتنفيذ ما يردن من جرائم، وكانت النتيجة دائمًا مثمرة بعد أن سيطرت النساء على عقول سلاطين العثمانيين، وأصبحن المتحكمات في كل شيء.

ويعد منصب، آغا دار السعادة، هو أعلى منصب يصل إليه آغاوات الحرملك، فمن يتولى هذا المنصب يُصبح مسؤولاً ومتحكمًا في كافة الآغاوات العاملين في الحرملك، وأيضًا يصبح مقربًا من السلطان ويمتلك نفوذًا كبيرًا داخل الإمبراطورية، وقد استطاع بعض آغاوات دار السعادة أن يجمعوا أموالاً طائلة بطرق ظالمة من الأهالي بفضل نفوذهم هذا.

تعاظم نفوذ آغاوات الحرملك حتى أصبحوا متحكمين في الإمبراطورية العثمانية.

ويصف المؤرخ العثماني كوالين إنبير في كتابه “الإمبراطورية العثمانية الدور المركزي الذي كان يقوم به آغاوات الحرملك في المطبخ السياسي السلطاني فيقول: ” كان السلطان على اتصال وثيق مع آغوات الغرفة الخاصة وآغا البوابة وآغوات الحريم أكثر بكثير مما كان على اتصال مع وزيره الأعظم أو آغا دار السعادة الذي كان يتلقى التماسات من الوزراء والوزير الأعظم من أجل تسيير أمر أو شأن في الدولة أو حتى السعي له عند السلطان، وبعض السلاطين كانوا أكثر ميلًا إلى أخذ النصيحة من آغاوات الحرملك أكثر من أخذها من الوزراء أو الوزير الأعظم. 

وحديث المؤرخ العثماني “إنبير” هو الصورة التي وصل إليها آغاوات الحرملك الذين جلبوهم سلاطين العثمانيين من أجل خدمة النساء، فأصبحوا شريكًا رئيسًا في الحُكم، وبات آل عثمان رهينة بأيديهم.

1. أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، مركز الأبحاث للتاريخ والثقافة الإسلامية، استانبول، 1999م)، المجلد الأول 159، 161-162. 

2. كولين إنبير، “الإمبراطورية العثمانية” 1300-1650: هيكل القوة، الطبعة الثانية 2009، نيويورك.

3. إيلبيرأورتالي، إعادة اكتشاف العثمانيين، ترجمة: بسام شيحا (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون2012م).

4. أسرار الحرم.. مذكرات خير الدين آغا رئيس الآغوات في عصر عبد الحميد الثاني.

تشغيل الفيديو

تمرد على القوانين وأحبته جارية السلطان المفضلة

نديم آغا..

عاشق زلزل عرش عبد الحميد الثاني

كيف يمكن أن تُقنع رجالاً لم يعرفوا في حياتهم أي مشاعر إنسانية بالحب، بل كيف تُقنع قتلة امتهنوا هتك الأعراض ونشر الفسق والفجور، أن الإنسان لم يُخلق للشهوة فحسب؛ بل هو قلب يشعر، وعقل يفكر، وإرادة تتمرد على كافة القوانين. 

بالطبع لم يتمكن أحد من أن يُقنع سلاطين العثمانيين بأي شيء من ذلك، فمنذ اللحظة الأولى لحكمهم، شرعنوا قوانين الاستعباد، فاتخذوا لأنفسهم آلاف الجواري وحبسوهن في أماكن بعينها في القصور السلطانية، أطلق عليها “الحرملك” أما من يقوم على خدمة هؤلاء النسوة، رجال جرى إخصاؤهم خصيصًا لهذا الغرض، في أبشع جريمة عرفتها البشرية ونهى عنها الدين الإسلامي.

وظنّ سلاطين العثمانيين أنهم بتلك القوانين الظالمة والجرائم البشعة، يستطيعون امتلاك الجميع؛ لكن لأن الإنسان ليس مجرد شهوة، وأنه لا يمكن لأي ظالم مهما بلغ من جبروت أن يمتلك القلوب، جرت وقائع عشق كثيرة بين “آغاوات الحرملك” وهو لقب الرجال الذين يُخْصَوْنَ للخدمة في “الحرملك” وبين جواري سلاطين العثمانيين، بعض تلك القصص ظلت طي الكتمان ضمن أسرار القصور العثمانية، لكن بعضها كُشف وعُرفت تفاصيله كما حدث في قصة “نديم آغا” وحبيبته “زبرجد”.

تعود القصة لطفل صغير ضمن ملايين الأطفال الذين ولدوا في عهد الدولة العثمانية فلم يجدوا سوى الجوع والقهر، فلا تعليم ولا حياة كريمة للمواطنين، وسرعان ما أوقعه حظه البائس في يد سماسرة سلاطين العثمانيين الباحثين عن أطفال يصلحون للخدمة في الحرملك وبالطبع يخضعون قبل ذلك إلى الإخصاء.

دخل الطفل نديم آغا إلى القصور العثمانية وقت حكم السلطان عبد الحميد الثاني فترة (1876- 1909) ميلادي، وبسبب إخلاص نديم آغا وتفانيه في خدمة مولاه، قرّبه السلطان عبد الحميد الثاني منه وخصّه بعنايته، فأصبح لنديم آغا شأنٌ في أروقة القصور العثمانية.

وبلغ نديم آغا مكانة تُعد عظيمة في قوانين القصور العثمانية، حين أصبح مسؤولًا عن دعوة الجارية التي يقع عليها اختيار السلطان العثماني لقضاء الليلة معها، وكان نديم آغا يؤدي تلك المهمة على أكمل وجه غير مكترث بدلال الجواري ومداعبتهم له بكل أريحية لأنه تعرض للإخصاء فلا ضرر منه. 

ومن جهة أخرى كانت هناك فتاة فاتنة سوداء تُسمى “زبرجد” أتى بها تاجر الرقيق عثمان بك الكردي وبلغ ثمنها 100 قطعة ذهبية، ولم يكن يبلغ ثمن الجواري في ذلك الوقت هذا الثمن الباهظ، لكن زبرجد تمتعت بجسد متناسق ولمعان في عينيها ذلك جعلها تستحق المبلغ الكبير، وعندما رآها السلطان عبد الحميد الثاني انبهر بها وأمر آغاوات الحرملك أن يعطوها مكانة مميزة.

وقع عبد الحميد الثاني في غرام الجارية زبرجد ومنحها مكانة خاصة بين نساء الحرملك.

توضح الروايات التاريخية أن أول لقاء في قصة العشق التي زلزلت قصر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، كان في إحدى ليالي شتاء عام 1897، فأثناء تأدية نديم آغا، لعمله اليومي من جلب الجواري للسلطان العثماني، وجد تلك الجارية التي يشترك معها في لون البشرة السمراء، وسرعان ما أخذه جمالها وتلك العناية التي تحظى بها في الحرملك، وكان أول شعور يولد في قلب نديم آغا هو الفخر بتلك الفتاة السوداء التي تفوقت على حريم السلطان من بيض وشقر. 

وبسبب هذا الفخر سارع نديم آغا في خدمتها، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، دون أن يدور في خلد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فصحيح أنه أخصى نديم آغا وأفقده قدرته الجنسية، لكنه لم يفقده قلبه ومشاعره الإنسانية فأحب زبرجد وقابلته الفتاة بالمثل، فالحب لا يعترف بشيء اسمه سادة وعبيد أو ضعيف وقوي.

آنذاك، روت زبرجد لنديم آغا كيف أن النخاسين المجرمين أغاروا على قريتها في زنجبار وأخذوها لتباع في أسواق النخاسة التي روّج لها سلاطين العثمانيين بصورة كبيرة، ضمن سياسة استرقاق الناس. 

تطورت العلاقة بين العاشقين وزاد من قوتها هذا القهر والجوع الذي عاشه العاشقان في طفولتهما، كما وجدت فيه زبرجد رفيقًا لرحلة البؤس والشقاء.

جمع بين زبرجد ونديم آغا الفقر والجوع وكراهية العبودية للسلاطين العثمانيين.

ولكن لا شيء يعكر صفو الناس سوى الظلم، خاصة إذا ما كان الظلم من أناس كالسلاطين العثمانيين الذين تفننوا فيه وجعلوا أشكاله متعددة، ففي يوم حزين طلب السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، من نديم آغا أن يجلب له زبرجد لقضاء ليلة معها وأمره أن تخضع الجارية للطقوس السلطانية من اغتسال وارتداء أثواب بعينها يختارها السلطان العثماني. 

فجأة وجد العاشق نفسه مطالبًا أن يقدم محبوبته هدية إلى وحش لا يهمه سوى التهام لحوم النساء، والأمرّ من ذلك أنه لا يستطيع الرفض وإلا انكشف أمرهمها وقُتلا كما هي القوانين العثمانية التي لا تعطي لحياة الإنسان أي قيمة، أو يقبل بذلك ويعيش بشعور مخزي يميته كل يوم وهو يتصور حبيبته في سرير عبد الحميد الثاني.

بتلك الحالة التي هي أقرب إلى الهذيان التقى حبيبته، أخبرها الخبر وارتمى في حضنها يبكي بكاءً شديدًا، وأدركت زبرجد أنها قد تقضي على حبيبها فتماسكت في موقف نادر وحاولت أن تُهدئ من روعه وتُذكره بأن تلك مهمتها في الحرملك وأنهما لا يملكان الرفض، لكن نديم آغا انتفضت فيه الرجولة التي ليس لها علاقة بالإخصاء كما يظن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، ورفض أن يُسلم حبيبته بتلك الطريقة الذليلة قائلًا: “لن تذهبي إليه، يمكنه أن يسجنني أو يجلدني أو أن يلقي بي في الماء إلى حيتان مضيق البوسفور الماضي كي أموت؛ لكن لن أتخيلك في أحضان رجل آخر يعبث بجسدك”.

لكن حالة الهيجان التي سيطرت على نديم آغا لم تنتقل إلى زبرجد التي حاولت أن تجعله يعدل عن رأيه؛ لأن المصير هو الموت، وأثناء النقاش والجدل العنيف علا صوتهما وأتت باقي الحريم وأحد آغاوات الحرملك، زميل نديم آغا في عمله، وانكشفت قصة الحب تلك بين العاشقين، فأسرع زميل نديم آغا لإخبار السلطان بكل شيء.

لكن زبرجد لمحت زميل نديم آغام وهو يتحرك فهرولت إليه لتمنعه من الخروج وإخبار السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وفي تلك اللحظة اعتقد نديم آغا أن زبرجد تحاول الهروب منه فتناول مسدسًا وأطلق رصاصة استقرت في جسد زميله الآغا فسقط قتيلًا وارتفع الصياح والصراخ.

طال انتظار السلطان عبد الحميد الثاني للفتاة زبرجد، فكما هي عادته لقد ارتدى ثوبًا أبيض وجلس في سريره يصغى إلى جواسيسه وهم يخبروه بكل شيء دار في القصر، ومن حين لآخر يستنشق بعض المنبهات، وفي وسط ذلك كله فوجئ بانفتاح باب غرفة نومه بشدة ويقف على سريره نديم أغا وهو ممسك مسدسًا ويقول صائحًا: “اؤمرهم بقتلي يا مولاي”.

ارتعد عبد الحميد الثاني حين رأى نديم آغا يدخل عليه وفرّ إلى أبواب سرية للهروب.

لكن ما سيطر على عبد الحميد الثاني في تلك اللحظة هو الفزع من هذا الرجل الذي يمسك مسدسًا ويقف على حافة سريره، فضغط على زر خلف سريره فانفتح باب سري خرج منه سريعًا مرتعشًا وهاربًا من نديم آغا. 

وكما كان عنوان قصة العاشقين في البداية هو البؤس والقهر، كانت النهاية أكثر بؤسًا وقهرًا، فنديم آغا قتل وشنق في أحد الميادين العامة، أما زبرجد وجدوها قد شنقت نفسها ولحقت بحبيبها إلى العالم الآخر، هاربة من سلطان عثماني لا يُدرك أن للبشر قلوبًا وحياةً لا يحق لأحد أن يمتلكها سوى الخالق.

أمر عبد الحميد الثاني بشنق نديم آغا في ميدان عام وانتحرت زبرجد لتلحق بحبيبها.

1. حبيب جاماتي “بين جدران القصور”، الدار القومية للطباعة والنشر، تاريخ النشر 1963م، القاهرة. 

2. حبيب جاماتي “”خفايا القصور: تاريخ ما أهمله التاريخ”، نور حوران للدراسات والنشر والترجمة 2009م.