العثمانيون والأحاديث الضعيفة
عندما تنشأ الدول والممالك على أحلام وأساطير لا نعلم مدى مصداقيتها من عوارها فلا نستبعد أن تقوم تلك الدول والممالك باستغلال العواطف الدينية والطرق الصوفية ومسالكها من أجل تثبيت دعائم حكمها وتوظيفها لمصلحة الدولة، وهو ما حدث بالفعل مع الدولة العثمانية التي تبنت أسطورة من الأساطير وجدت فيها بغيتها من أجل قيام الدولة وتأسيسها، وعن ذلك يشير الباحث والبرفيسور حاتم الطحاوي المختص في التاريخ العثماني المبكر فيقول: وهكذا تبدو أسطورة ” حلم عثمان “الموجودة بالمصادر التاريخية العثمانية والتي تؤسس للتاريخ العثماني كله، مجرد تقليد متعسف في إطار تقاليد الكتابة التاريخية الإسلامية والبيزنطية، وذلك من أجل إسباغ هالة أسطورية على صاحبها وعلى سلالته من بعده. ومن أجل توصيل رسالة مفادها أن دولتهم لم تكن إلا تعبيرًا عن إرادة السماء خاصة بعد اصطباغها بالدين، اعتمادا على مبيت عثمان وهو يقرأ القرآن في منزل الشيخ “أده بالي” . كما أن هذه الأسطورة، كسابقاتها التي اعتمدت على “حلم الشجرة”، قد تم ابتداعها في زمن تال من أجل اصطناع شرعية سياسية وعسكرية مباركة من السماء لأمير من أصل اجتماعي متواضع تتيح له – ولأسرته – التمدد تحت مظلة روحية تتطلب الدعم والطاعة من جميع الأتباع والرعايا”.
وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مهم جدًّا ومثل هذه الدولة التي قامت على أساس أسطورة من “حلم الشجرة” فهل يعجزها أن تزيف التاريخ أو تستغل الأحاديث النبوية الشريفة لمصلحة بقائها وتمددها، وإضفاء الهالة والقدسية على قيام دولتهم؟ ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير صحيح، أورده الإمام السيوطي في الجامع الصغير: “فَارِسُ نَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ، ثُمَّ لَا فَارِسَ بَعْدَ هَذَا أَبَداً، وَالرُّومُ ذَاتُ الْقُرونِ كُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ خَلَفَهُ قَرْنٌ، أَهْلُ صَبْرٍ، وَأَهْلُهُ لآخِرِ الدَّهْرِ هُمْ أَصْحَابُكُمْ مَادَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ”، وقد فسره بعض الأتراك بأن المقصود “بأصحابكم أن فيهم السلطنة والإمارة على العرب إلى آخر الدهر”. وهذا الحديث يتداوله بعض المتعصبين للأتراك العثمانيين، ويؤولونه بأن المقصود بالروم هم الأتراك العثمانيون. وعلى أية حال فإن هذ الحديث من الأحاديث التي ضعفها الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة. ومن جهة أخرى وعلى افتراض صحة الحديث فهل العنصر الرومي المقصود في متن الحديث يقصد به هنا العنصر التركي أم هي محاولة توظيف بعض النصوص ولَيِّ أعناقها بما يناسب الدولة العثمانية وتطلعاتها في البلاد العربية وإيجاد الحجج للولوج إلى مناطقهم والاستيلاء عليها بالزخم الديني والشحن العاطفي؟ أم هي محاولة لتزييف الحقائق وتجييرها لمصلحتهم؟
ومن الأمثلة على حرف سياقات الأحاديث النبوية الشريفة عن مسارها الحقيقي لمصلحة تضخيم قيادات وسلاطين الدولة العثمانية من غير وجه حق، الحديث الشهير “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”، والذي ضعفه علماء الحديث لوجود علتين فيه من جهة الاسناد أولهما؛ أن الراوي للحديث (عَبْدُ اللهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ) يُصَنَّف عند علماء الجرح والتعديل على أنه راوٍ مجهول، ولم ينقل عنه هذا الحديث إلا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الحاكم في مسنده، وضعفه الشيخ الألباني والأرناؤوط. لذلك يشار إلى أن هذه الزيادة بأنها ضعيفة لجهالة الراوي، أما العلة الثانية: فمن رواة الحديث زيد بن الحباب، وقد اختُلف في اسمه واسم أبيه ونسبه. ولتلك العلل المذكورة تم تضعيف الحديث لدى علماء الجرح والتعديل.
وقد يطرح تساؤل آخر على افتراض صحة الحديث فهل المقصود بالأمير هنا محمد الفاتح أم خلاف ذلك؟ فالمقصود هنا ليس السلطان محمد الثاني، وإنما أمير آخر في آخر الزمان ومن علامات قرب يوم القيامة، فقد ثبت في صحيح مسلم أن القسطنطينية ستفتح في آخر الزمان في زمن المهدي، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بالأعْماقِ، أوْ بدابِقٍ، فَيَخْرُجُ إليهِم جَيْشٌ مِنَ المَدِينَةِ، مِن خِيارِ أهْلِ الأرْضِ يَومَئذٍ، فإذا تَصافُّوا، قالتِ الرُّومُ: خَلُّوا بيْنَنا وبيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقاتِلْهُمْ، فيَقولُ المُسْلِمُونَ: لا، واللَّهِ لا نُخَلِّي بيْنَكُمْ وبيْنَ إخْوانِنا، فيُقاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عليهم أبَدًا، ويُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ، أفْضَلُ الشُّهَداءِ عِنْدَ اللهِ، ويَفْتَتِحُ الثُّلُثُ، لا يُفْتَنُونَ أبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبيْنَما هُمْ يَقْتَسِمُونَ الغَنائِمَ، قدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بالزَّيْتُونِ، إذْ صاحَ فِيهِمِ الشَّيْطانُ: إنَّ المَسِيحَ قدْ خَلَفَكُمْ في أهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وذلكَ باطِلٌ، فإذا جاؤُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبيْنَما هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إذْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأمَّهُمْ، فإذا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذابَ كما يَذُوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلوْ تَرَكَهُ لانْذابَ حتَّى يَهْلِكَ، ولَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بيَدِهِ، فيُرِيهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ”. وورد في حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه قوله: “ثم يخرج إليهم روقة المسلمين أهل الحجاز، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، حتى يفتح الله عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير”، فالفتح المقصود في الحديث ظاهر أنه لا يكون إلا على أيدي العرب؛ لأنه مرتبط بالملحمة الكبرى قبل خروج المسيح الدجال.
ومن جهة أخرى تشير المصادر التاريخية إلى أن جيش محمد الفاتح الذي فتح به القسطنطينية كان يتضمن عددًا غير قليل من النصارى المؤيدين للعثمانيين فهل تشملهم مثل تلك الخيرية؟!وهناك عدد من العلماء والمؤرخين المعاصرين لمحمد الفاتح لم يربطوا بين حديث الخيرية وفتح القسطنطينية، بمحمد الفاتح رغم أنهم أثنوا على جهوده في ذلك ومنهم الإمام السيوطي والإمام السخاوي، لعلمهم بضعف تلك الزيادة في الحديث أو ارتباطه بملاحم آخر الزمان. ومن هنا يمكننا القول بأن الأتراك العثمانيين أسقطوا الأحاديث النبوية الشريفة على سلاطينهم بما يناسب رفع مكانتهم السياسية والدينية لأجل إعطائهم حيزًا من الهالة الدينية لدى عموم المسلمين، ولعل في ذلك تعويضا لهم على عدم أدائهم فريضة الحج، أحد أهم أركان الاسلام، وقد يعلل البعض بأنهم مشغولون بالجهاد؟ ألم يكن الخليفة العباسي هارون الرشيد يحج سنة ويغزو السنة التي بعدها فلم يمنعه الجهاد أبدًا عن أداء الفريضة فأين الخلل؟ وهل جاءت الأحاديث الضعيفة لتنقذ سلاطين آل عثمان وتضفي عليهم شيئًا من الصبغة الدينية والهالة المقدسة؟