عبدالحميد وقصة إصابته بـ " Paranoia"

والده عبدالمجيد:

"ولدي سوداوي"

من يدرس بتعمق شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، سيجد فيها الكثير من الأمور التي تستوقفه ويبدو له شكلها وتكوينها الفكري والعقلي والنفسي ومدى تأثير ذلك وانعكاسه بوضوح على سلوكياته وتصرفاته في مراحله العمرية المختلفة بما فيها فترة حكمه التي دامت قرابة ثلاث وثلاثين سنة.

وفاة والدة السلطان وأثرها في تكوين شخصيته:
إن النشأة والتربية التي عاشها عبدالحميد الثاني بعد فقدانه لوالدته وهو في سن الحادية عشرة من عمره، أثرت فيه تأثيرًا بالغًا، بالرغم من معيشته في كنف زوجة والده السلطان عبدالمجيد، إلا إن عبدالحميد أصيب بحالة من الحزن والاكتئاب النفسي، حتى غدا شابًّا منعزلًا عن الناس يتصف بالعناد ويفر هاربًا من زحام الناس محبًّا للانزواء بعيدًا عنهم، حتى أنه كان يخجل من مشاركة أقرانه في اللهو واللعب، وغالبًا ما كان يقضي الوقت في لجة الأحزان والبؤس، انعكس ذلك بشدة خوفه من المجهول، وكان الخوف وهاجس الشر شيئًا فطريًّا في جبلّته، وهي امتداد لعلة النشأة والطفولة، ولهذا كان أبوه السلطان عبد المجيد يقول عنه: “إن ولدي مصاب بمرض الوسوسة والشك، إنه ولدي السوداوي”. لذا كان أخوه مراد يتسلى ويلهو بهذا الخوف المرضي المفرط الزائد عن حده عند أخيه الأصغر عبد الحميد، فمثلاً كان يمزح معه قائلاً: مالي أرى وجهك شاحبًا، ماذا أصابك؟ فتزداد عند عبد الحميد المخاوف وحالة الارتباك وحالة الوهم والشك أكثر فأكثر ويزداد أخوه مراد في إثارة مثل تلك المخاوف وتأخذه النشوة من ردة فعل عبدالحميد وانفعالاته.

عاش انطوائيًا يملؤه العناد... هاربًا من الناس.

ويقول عبد الحميد في مذكراته وخواطره مدافعًا عن نفسه والحالة التي كان يمر بها من الوهم والشك وسوء الظن بالآخرين: “دائمًا ما يغفل الناس عن أي ظروف تربيت ونشأت رازحًا تحت وطأتها، وحينما كان أبي يفرط في حب إخوتي ويبالغ في تدليلهم والحدب عليهم، فإني لم أكن أدري لأي سبب كان أبي يُسيئ معاملتي؟”. ويبدو أن حالة الوهم والشك في شخصيته استمرت معه طيلة حياته، ويذكر تحسين باشا رئيس دائرة الكتابة بقصر يلدز الذي عاصر وخدم السلطان وكان من المقربين إليه في مذكراته عن عبدالحميد قوله: “هذا الوهم المعروف عن السلطان عبدالحميد والذي يظهر أثره على كل أحواله وإجراءاته لم يفارقه طول حياته. وكان لهذا الوهم آثار مهمة وأليمة أحيانًا في تصرفاته بشكل عام”. 

السلطان عبد الحميد الثاني وجنون الارتياب (Paranoia):
حالة الوهم والشك والارتياب التي كان يمر بها السلطان عبارة عن حالة نفسية مزمنة عُرفت عند المختصين في علم النفس والعلاج النفسي بأنها حالة مرضية مزمنة تسمى “البارانويا” (Paranoia) وهو مصطلح مشتق في الأساس من كلمة إغريقية قديمة يُقصد بها سابقًا “الهذيان المزمن”، بيد أن هذا المصطلح، قد اتسع معناه فيما بعد ليشمل المريض الذي تلاحقه الأوهام والشكوك، أو ما يعرف بجنون الارتياب، وهو نمط تفكير ينجم عنه الشعور غير المنطقي بفقد الثقة بالناس، والريبة منهم والاعتقاد بوجود تهديد ما، مثل الإحساس بأن هناك أشخاصًا يراقبونه أو يحاولون إلحاق الأذى به بالرغم من عدم وجود دليل على ذلك، فيسقط المريض مشكلاته على غيره من الناس، ويرى نفسه ضحية لتآمرهم عليه.

رغم تظاهره بالدكتاتورية كان مصابًا بالرهاب والخوف.

أثَّرت حالة “البارانويا” على تصرفات السلطان عبدالحميد وسلوكياته منذ أن كان أميرًا ووليًّا للعهد حتى اعتلى سدة السلطنة، فقد استمرت تلك الحالة معه طيلة فترة حياته وخلال حكمه وأثرت في إدارته للحكم من الناحية الإدارية والسياسية. وقد استغل المحيطون به تلك الحالة المرضية لزيادة حالته في الارتياب والوهم والشك في نقلهم للأحداث الداخلية والخارجية، وكان بعض رجالات الدولة ممن تبوؤوا مناصب عُليا في الدولة يلجؤون إلى تخويف السلطان وقذف الرعب في قلبه وافتعال صور من التمرد والعصيان في شتى أركان الدولة من أجل توطيد وظائفهم ومكانتهم لدى السلطان، وخير مثال على ذلك الصدر الأعظم سعيد باشا الذي تولى منصب الصدارة العظمى أكثر من سبع مرات في عهد السلطان، بسبب استفادته من حالة جنون الارتياب التي كان يمر بها السلطان عبدالحميد، وأسهم في زيادة تلك الحالة لديه وترسيخها أكثر وأكثر، وكان ما كان من الضرر على البلاد. فالبعض من المعاصرين لفترة عبدالحميد يُحَمِّلون سعيد باشا مسؤولية كثير من المشكلات الداخلية والخارجية التي مرت بها الدولة، والواقع أنه قد يكون في ذلك قدر من الصحة ولكن الملام بالدرجة الأولى السلطان نفسه، فقد وصفه تحسين باشا بأنه حاكمٌ مستبدٌ ومطلقٌ بفطرته، وبقاؤه تحت تأثير سعيد باشا وإيحائه من يوم جلوسه على العرش.

وبتلك النفسية المريضة حكم عبدالحميد الإمبراطورية العجوز المترامية الأطراف وشدد في حكمه على حريات الناس من خلال هيئة الشرطة السرية والاستخبارات والتجسس على الناس وكتابة التقارير السرية عنهم، ولم يسلم حتى أخيه مراد الخامس من تلك المراقبة والتجسس وكتابة التقارير عنه رغم أنه كان مسلوب الإرادة محبوسًا في قصره، كما حارب حرية الصحافة وألجمها بشتى السبل والطرق بحجة الحفاظ على المجتمع العثماني وأمنه.

بعد أن شوَّه سمعته وسيرته

عبدالحميد قهر إنسانية أخيه مراد

مُراد الخامس بن عبدالمجيد الأول (1840-1904م)، الذي قُدِّر له أن يُعَاصِر الفترة الفوضويَّة من تاريخ الدولة العثمانية التي تركز فيها الصِّراع بين التيارين الإصلاحي والمُحافظ. وشخصية مراد لم تكن بعيدة عن شخصية أخيه عبدالحميد من حيث التأزم النفسي والعُزلة والرهاب، فالظروف التي شكَّلت شخصية مُراد، وأرخت بِظلالها عل انفعالاته وتفاعلاته، تتركز في عدم قدرته على التعاطي مع من حوله أو فهم المجتمع المحيط حوله، خاصةً من رجال الحكومة، وعلى رأسهم المتنفذين. 

والاسم الأكثر تداولاً خلال فترة حكم ثلاثة سلاطين: عبدالعزيز، ومراد، وعبدالحميد؛ هو مدحت باشا، وكانت له اليد الطولى في عزل عبدالعزيز ومراد، وتولية عبدالحميد الثاني، وكان يشغل منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، ومهندس المطالبة الدستورية. يُضاف إليه وزير الحربية حسين عوني باشا، وهو الذي اقترن اسمه بمدحت في أحداث الفوضى السياسية منذ عزل عبدالعزيز حتى اغتيال عوني في عهد مراد الخامس.

تولى السلطان عبدالعزيز الحكم سنة (1861م) بعد أخيه عبدالمجيد، وكعادة العثمانيين فإنهم كانوا يمارسون ما يُسمى بأقفاص الأمراء، لكل من هو مؤهل بأن يتولى السلطنة، بحيث يصبح معزولاً عن المحيط العام حتى لا يؤثر على سير السلطان في حكمه، إما بثورة أو تنظيم قد يقلقه، وقد جاء نظام الأقفاص نتيجةً لتخفيف قانون قتل الإخوة الذي كان معمولاً به فترة طويلة من تاريخ الدولة العثمانية، الذي أحدث أزمة سلالية في الأسرة العثمانية، وبناءً عليه كانت ولاية العهد والسلطنة تؤول إلى من هو أكبر سنًا من بني عثمان المهيَّئين للسلطنة من أبناء السلاطين السابقين.

عصفت بالدولة مجموعة من الأحداث، منها التدخلات الأوروبية من خلال رجال الدولة المؤثرين على رأسهم مدحت وعوني، اللَّذَين كان لهما تأثير واضح على وريثه مراد الخامس، الذي أبدى رغبته في اعتلاء العرش بعد زياراته الأوروبية بمرافقة عمه، التي عُمِّد خلالها في المحافل الماسونية، وأبرز موهبته الموسيقية في تأليف معزوفات أصبحت عالمية بعد ذلك.

غير أن مرادًا لم يكن يجنح إلى العُنف، لذلك كان اتفاقه مع الوزراء أن يتم عزل عمه فقط، في الوقت الذي كان فيه يطمح إلى أن تسير الأمور بسهولة، فوجئ بأن عزل عمه عبدالعزيز جرى بطريقة انقلاب عسكري، انتهى بقتل عبدالعزيز والإشاعة بأنه انتحر، الأمر الذي أثر على مراد وأصبح يعاني من سيطرة الوزراء، لدرجة أنه كان يخافهم ويتوقع بأنهم سيقومون بتكرار الأمر معه وإعدامه. 

لذلك لم يكن مراد متوازنًا، وأبدى بعض التصرفات غير العقلانية وغير المنطقية، خاصةً بعدما حدث من حالات اغتيال في مجلس الوزراء، التي راح ضحيتها وزير الحربية حسين عوني أمامه.

في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تعيش فترة الفوضى والارتباك بالعزل والقتل واعتلال مراد العقلي؛ كان عبدالحميد يعمل من خلف الكواليس ليُهندس الوضع لصالحه، فباعتباره ولي العهد الثاني في عهد عمه عبدالعزيز والأول بعد مراد؛ كان باستطاعته أن يتدخل بعمل توازن لموقفه الذي بدأ يتدهور ويتسارع بأحداثه، غير أن عبدالحميد كان يسعى لفرض نفسه، في الوقت الذي كانت فيه الظروف تجعله خيارًا حتميًّا لجميع الأطراف لإنقاذ الموقف.

منع عنه الأقلام والصحف والأوراق وأشاع أنه أمُّي.

راقب عبدالحميد الأحداث من بعيد، لكنه كان حاضرًا في المشهد مع أصحاب القرار، ولم يُبيِّن أيَّ ردة فعل تجعل المحيطين به يتَوَجَّسون من موقفه. لذا عُرف عنه أنه دائمًا ما يجتمع مع مدحت باشا، وفي اجتماعاتهم التي كانت تُعقد؛ كان مدحت يعي أن عبدالحميد هو الخيار الماثل أمامهم في الوقت الذي كان فيه مراد يخفت نجمه سريعًا، بينما كان عبدالحميد أيضًا يعي جيدًا أنهم مهما استبدوا وصاغوا الموقف السياسي، سيضطرون إليه في النهاية ليعتلي عرش السلطنة العثمانية. لذلك حرص أن يكون على اتفاق واتساق مع كل من كانت بيده السلطة، فاتصل بأكبر عدد ممكن من المسؤولين، وحرص على معرفة كل ما كان مثار نقاش على الساحة كي يبقى حاضرًا مستوعبًا للحدث، وهذا ما جعله يستفيد من ذلك في صياغة الموقف بعد أن تولى السلطنة، بحكم معرفته بنقاط الضعف لجميع من كانوا حوله. 

كان عبدالحميد شديد الشَّك والتَّوهُم الذي يُعدّ فوق العادة، وقد اشتُهر بذلك منذ فترةٍ مبكرة من عمره، فقد كان أخوه مراد يتندَّر بشكِّ عبدالحميد، ويمازحه بإيهامه بشكوك غير حقيقية، كان عبدالحميد يتعامل معها بكل جديَّة.

وخلال فترة ارتباك وزراء مراد الخامس؛ كان عبدالحميد يتعامل معهم بحذر ويدقق في نقاط ضعفهم جيدًا، لذلك لم يكن يستجب لضغوطهم عليه بسهولة، ولم يُبدِ لهم حرصه على عزل أخيه مراد وتوليه العرش بدلاً عنه، حيث جعلهم من يحاولون إقناعه بما كان هو يتأمله بشكلٍ غير مباشر.

تردَّد مدحت وأصدقاؤه على عبدالحميد قبل عزل مراد، وعرض عليه فكرة تنصيبه سلطانًا، غير أن عبدالحميد طلب التريث في ذلك، وحاول أن يضغط هو بدوره على مدحت بفكرة أنه ربما يتعافى مراد مما ألمَّ به، لذلك اضطر مدحت إلى عرض مراد على طبيب نمساوي وقيل إنجليزي اسمه ليدرز دورف، متخصص بالأمراض العقلية والعصبية، وقدَّم تقريرًا بأن حالة مراد العقلية قد تتحسن، ولكنه قد يحتاج إلى وقت كي يعود إلى طبيعته، لكن مدحت أعلن الخبر في الصحف بأن السلطان مصاب بمرض عقلي من دون أن يشير إلى قول الطبيب بأنه قد يتشافى خلال أسابيع، ومن ثم ألحَّ على عبدالحميد لمعرفة رأيه في الدستور، ومدى حماسته لإعلانه فيما لو أصبح سلطانًا، واستجاب عبدالحميد وأبدى قناعته بالدستور مبدئيًّا بفتور غير متحمس.

ومع الوقت وازدياد تدهور الوضع؛ بدأ عبدالحميد يؤكد بأنه لو أصبح سلطانًا سيُعلن الدستور ويُصادق عليه، ثم انتقل من مرحلة الظِّل إلى الميدان السياسي، حيث أصبح موجهًا لمدحت بأن يطلب مصادقة العلماء على عزل مراد، وأن يُقدِّم له دراسة عن مشروعه الإصلاحي والدستور، وبالفعل قام مدحت بجمع رجالات الدولة في منزل شيخ الإسلام، وبعد التدوال؛ ارتأى الجميع مناسبة المشروع وضرورة إعلانه، وبقي قليل منهم متحفظًا، غير أنهم في النهاية وافقوا رأي الأغلبية.

بعد ذلك فوَّض عبدالحميد الوزراء بمهمة خلع مراد، وإصدار فتوى شيخ الإسلام بخلعه ومبايعة عبدالحميد، بعد أن حكم مراد 93 يومًا فقط، وذلك بعد أن انتزع مدحت وعدًا من عبدالحميد بإعلان الدستور، وهو الدستور الذي صاغه عبدالحميد ليكون تحت سلطته المباشرة، مستغلاً اضطرار مدحت إليه.

حينما أُعلن عن عزل مراد، كان عبدالحميد يعلم بتقرير الطبيب، الذي قال بأنه يحتاج إلى أسابيع كي يتعافى من مرضه العقلي. لذلك سارع بأن بإسكانه في قصر جيرغان، وهيأ له ترفيهًا محدودًا، بعد أن أنقص عدد أفراد حاشيته، ووفر له كل متطلباته كي ينشغل بها عن التفكير في السلطنة، ويستمر في حياة الفوضى والارتباط العقلي الذي كان يعانيه.

ومن جهة أخرى، تفرَّغ عبدالحميد لمدحت ورجال الدستور، وحوَّله إلى وثيقة استبداديَّة، فعلى الرغم من أن مدحت استفاد من الدستور البلجيكي والروسي في صياغة دستوره، إلا أن عبدالحميد أصرَّ على حقه كسلطان بتعيين أعضاء الحكومة بشكلٍ مباشر، لذا كانت الحكومة مسؤولة أمام السلطان وليس أمام البرلمان، الذي لم يكن بمقدوره سنَّ القوانين، ولم يكن متاحًا له سوى مناقشتها قبل صدورها، واحتفظ السلطان بحقِّه المُطلق في عقد أو حلّ البرلمان، لذلك ما أن هُزم أمام روسيا بعد سنتين من حكمه حتى عطَّل الدستور، الذي بقي معطلاً فعليًّا، وساريًا بشكلٍ فني.

عبدالحميد يظلم أخاه مراد الخامس:

حين نُقل مراد إلى قصر جيرغان مُنع من الاختلاط بالناس، وحُرِّم عليه الخروج من قصره بأمرِ أخيه عبدالحميد، كما مُنعت عنه الصُّحُف والكُتُب، ووصل الأمر أن مُنع حُرَّاسه من إدخال أدوات الكتابة إليه في قصره، لذا يُقال بأنه استخدم الفحم لتعليم أولاده وأحفاده، بعد أن استعاد قواه العقلية بعد مدة بسيطة من عزله، وطوال فترة بقاء مراد في قصره لم تطأ قدمه خارج قصره حتى توفي سنة (1904م)، ووصل به الحال أنه كان يعاني هو وأسرته قلة الطعام، ولم يكن لديه مالاً يكفيه الطعام، بل وصل الأمر أن أصبح هو وعائلته في حالٍ يُرثى لها، إذ كان قصره من القصور التي يزورها الأجانب بقصد السياحة، ففي الوقت الذي يأتي فيه وفدٌ سياحيٌ لقصره؛ كان يُحظر عليه وأسرته من الخروج من غرفهم، حتى لا يراهم أحد. 

وكانت لدى عبدالحميد أزمة تجاه مراد، فقد صوَّره في مذكراته بأنه غير واعٍ وغير مثقف أو مُتعلِّم، وهذا بخلاف الواقع الذي يطلع عليه كل قارئ لسيرة مراد الخامس، وكانت له آراء متناقضة تجاه مراد، ففي الوقت الذي كان يصفه فيه بالإسراف، يقول بأنه عُرف عنه الطمع الشَّديد، وهذا بحسب ما ذكره تحسين بك المقرَّب من عبدالحميد، إذ ذكر أن مرادًا كان أكثر إخوة عبدالحميد قربًا وحبًا، بسبب أن عبدالحميد كان معجبًا برأي مراد وذهنه المتفتح. وهذا أيضًا تناقض آخر من عبدالحميد تجاه مراد، إذ وصف عبدالحميد في مذكراته شفقته على أسلوب أخيه مراد الركيك في كتابة الرسائل، وأخطائه الإملائية التي لا تُغتفر.

ومما يُعطي دلالةً على ثقافة مراد الخامس؛ أنه كان على اتصال واسع بأهل الفكر والأدب، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بكونه محبًّا للأدب والثقافة والعلم، ومما يؤكد ذلك علاقته الوطيدة بنامق كمال، التي كانت تُضايق عبدالحميد، حين كان يقول لنامق الذي يعتبره رأس الفساد: “اعلم يا كمال بك أنك ستتسبب في موت أخي معنويًا وعقليًا”.

ويتضح من خلال تتبع الأحداث وتدخلات عبدالحميد فيها قبل توليه؛ أنه كان يُهندس لبقاء أخيه مراد على حاله العقلية السيئة، حتى يتمكن من الوصول إلى السلطنة، إذ كان موافقًا ومتناغمًا مع الطَّرح الذي كان يبرزه مدحت باشا للإعلام العثماني، في المبالغة بعرض حالة مراد العقلية المتدهورة، وحياكة الأخبار المغلوطة عنه، وقد ثبت من خلال المصادر بأنها كانت ملفقةً في كثير من تفاصيلها.

ومن الواضح أن تفاصيلَ درامية عدَّة كانت تُصاغ عن حالة مراد الخامس قبل توليه السلطنة وبعد عزله، لكنها في الغالب دراما كئيبة جدًّا ومأساويَّة، خاصةً بعد حياة العُزلة التي فرضها عبدالحميد عليه، إذ كان يُعتبر سجينًا لدى أخيه، وبذلك سُقحت إنسانيته بطمع السُّلطة والسلطنة على مدى 19 عامًا قضاها على هذه الحال، التي كان يُمارس فيها حياةً صامتة، بعيدًا عن جميع أصدقائه وأقاربه والناس جميعًا، لذلك كانت تمرّ أيامه حزينة وبائسة، يُعاني فيها من مرض السُّكري.

كما منع عبدالحميد دخول الكتب والصحف لمراد؛ وذلك يعطي مؤشرًا على أنه لم يكن كما وصفه أخوه في مذكراته، بل إنه معروف بأنه يمارس الكتابة ولو مُكِّن له الأمر لأصبح أشهر كُتَّاب الأتراك على الإطلاق، إذ يروى عنه الكثير من الشواهد التي تؤكد ذلك وتشهد بتفكيره الحرّ وحكمته. ثم إن كان يخشى عبدالحميد إدخال الصحف والكتب عليه لسببٍ أو آخر ممكن تحليله؛ لماذا منع عنه جميع أدوات الكتابة من أقلام وأوراق؟.

وإجابة هذا التساؤل تؤكد حالة الرُّعب التي كان يعيشها عبدالحميد من أن يكتب مراد ما في مخزنه الفكري من تحليل وأحداث وتحليلات، حتمًا ستتناقض مع ما كان يحاول أن يصوره عبدالحميد عنه، والأكثر رعبًا أيضًا لو أنَّ مُراد كتب مُذكراته، كما فعل عبدالحميد الأمر نفسه بعد عزله حين مُكِّن له أن يكتب مذكراته، إن صحَّت نسبتها إليه، مع أنه كان يفترض أن يُجازى بجنس ما فعله مع مراد، ولو أن أمرًا كهذا قد لا يكون مرغوبًا لدى المؤرخين والمحللين السياسيين.

يبدو أن الظروف كانت أقوى من مراد الخامس ومن آماله، فالحالة التي صُوِّر بها والحياة التي فُرضت عليه تُخبئ الكثير من الأسرار التي لم يتم الكشف عنها حتى الآن، ولو أن شيئًا تُرك خلف مراد؛ فمن المؤكد أن عبدالحميد أخفاه أو أتلفه؛ لأن مثل هذا الفعل يتواءم كثيرًا مع شخصية عبدالحميد الاستبداديَّة، التي تؤكد معاناته بفوبيا المؤامرة، وإحاطته نفسه بعددٍ كبير من الجواسيس والحرس ورجال الشرطة، بل إن كل من كان في خدمة مراد في منفاه في القصر كانوا من جواسيس عبدالحميد، وعلى اتصال تام به يفيدونه بكل تفاصيل حياة مراد، لذلك كل من كان يعمل في خدمة مراد بعد عزله؛ يُحكم عليه بالعُزلة مثله، ولا يمكن أن يخرج من جيرغان حيًّا. فهذه الهالة والعُزلة جرَّت معها الكثيرين من أسرة مراد ومن كانوا يعملون في خدمته.

وعلى الرغم من بؤس مراد؛ إلا أنه عُرف عنه أيضًا أنه كان موسيقيًّا من طرازٍ فريد، بل إنه كان شغوفًا بالبيانو والعزف على الكمان، فقد قدَّم أكبر عدد من المؤلفات الموسيقية الغربية، يقال: إنها بلغت ما يقارب ثلاث مجلدات، إضافةً إلى حبِّه وتعلقه بالعمارة والفن المعماري والرسم.

ظلَّ مراد ما يقارب 28 عامًا في جيرغان حتى توفي، متأثرًا بالمرض، واستمر وضع عائلته تحت الإقامة الجبرية كما كانوا في حياة مراد، حتى قامت الثورة على عبدالحميد الثاني سنة (1908م) خلال الانقلاب العثماني، عندما خرجوا للشارع أول مرة بحالة من الابتهاج والفرح الهستيري بخلاصهم من سجن السلطان العم، وهذا أيضًا يؤكد أن عبدالحميد لم يكن يريد لمراد ولا أسرته أن يخرجوا من عزلتهم، ولا أن يدلوا بأي شيء عما يختزلوه في ذاكرتهم من أحداث أو تفاصيل.

وكان عبدالحميد يتظاهر بحُبِّ مراد، ويحاول أن يُشيع ذلك، سواءً في مُذكراته المزعومة، أو ما كانت ابنته تحاول إشاعته عنه بأنه تأثر كثيرًا عندما علم بوفاة مراد، وبكى بكاءً غزيرًا، بينما يدين الواقع والأحداث والشواهد عبدالحميد فيما قام به من قهرٍ لإنسانية مراد وعائلته ما يربو على ربع قرنٍ من الزمان، كما أنه لم يشعُر بالندم، ولم يتخذ إجراءً يُكفِّر فيه عن جريمته الإنسانية بفكِّ أسرِ أُسرة أخيه، بل استمرَّ في حبسهم ونفيهم في قصر أبيهم إلى أن كان الثُّوار خلال الانقلاب العثماني أرحم منه بكثير في حالهم، حين فكوا قيود الجبروت التي فرضها عبدالحميد باستبداده وسلطويته، التي كانت أبعد ما يكون عن المعاني الإنسانية، مهما ادعى هو أو ابنته أو من يبررون له فعلته، فإن كان يرى بأن مرادًا كان مُجرمًا في انتمائه للماسونية؛ فإن عبدالحميد نفسه كان يعرف كثيرًا من أعضاء المحافل وعلى اتصال بهم، وقد مكنهم من السلطة في عهده، وسمح لهم بممارسة نشاطهم تحت سيطرته التي كان يتوهمها، ولا أدلّ على ذلك من عفوه عن علي سعاوي الذي انقلب عليه، وهو يعي تمامًا ماسونيته وارتباطاته بالمحافل، بل إنه مكَّنه من السلطة والسطوة حتى خرج عن مساره. 

حبسه في قصره وعزله عن العالم الخارجي وادعى تأسيه عليه وحبه له.

لذلك فإن الجريمة الحقيقية التي دعت عبدالحميد لحبس مراد وإغراقه بالانعزال، وقهر إنسانيته وسحق بشريته مع عائلته؛ كانت تنصب على أنه كان مهددًا لبقائه على عرشه، وهذا ديدن عبدالحميد فيمن يشك في تهديدهم لسلطويته. 

تشغيل الفيديو

في الوقت الذي يعشق فيه كل ما هو ألماني

السلطان "الشوفيني" يعاني من فوبيا "العرب"

هفوة أخرى من هفوات السلاطين العثمانيين، فعندما نشاهد كثرة الكتب والمؤلفات التي تحدثت عن السلطان عبدالحميد الثاني ومذكراته، التي اختلفت مسمياتها وتعددت لغاتها، وبرزت اتجاهاتها بين الواصف له بالمظلوم، والمادح له بعاطفة جياشة، والناقد لعصره وحكمه بتعقل وروية. وفي الحقيقة عندما نرصد تلك المذكرات أو الخواطر السلطانية، ونقرؤها بعين غير مؤدلجة سنجد فيها الكثير من التناقضات.

إن أبرز الهفوات والمتناقضات ما ذكره السلطان عبدالحميد في مذكراته بشأن تعظيم العنصر التركي دون غيره من العناصر الأخرى في الدولة والحرص عليه والاهتمام به اهتمامًا كبيرًا كقوله: “علينا أن نبدي اهتمامنا في تقوية العنصر التركي، ومن الضروري تقوية العنصر التركي في بلاد الروم والأناضول، وصهر الأكراد وضمهم إلينا، إن أكبر الأخطاء التي ارتكبها أسلافي من الحكام الأتراك هو عدم سعيهم لصهر العنصر السلافي وعثمنته، ولكن والحمد لله تمكنت دماؤنا من الإبقاء على تفوقها”.

عبدالحميد الثاني بالغ بتعظيم التركي وقارن بين الأتراك والألمان بتباهي وفخر.

وهذا الكلام في النصف الأول من فترة حكمه، يمجد ويتفاخر بعنصريته التركية إلى درجة التعصب المقيت، وكأن الأتراك هم وحدهم الذين يشكلون سكان الإمبراطورية العثمانية دون غيرهم! وبالغ عبدالحميد بعقد المقارنة بين العنصر التركي والعنصر الألماني فنراه يتباهى ويفتخر بالقول: “يقال عن الأتراك أحيانًا إنهم الألمان الشرقيون، والحقيقة أن بيننا وبين الألمان شبهًا في الصفات، وقد يكون هذا التشابه سببًا في ميلنا نحوهم. فالهدوء والحيطة والصبر على المشاق هي الصفات المميزة لهذين الشعبين، وشعبنا بطيء ورزين ويسبق حلمه غضبه فيحتمل الأذى طويلًا، ولكنه إذا غضب كان شديدًا، والجرأة والاستقامة واللطف والكرم هي صفات الألمان مثلما هي صفاتنا”، ولا شك أن مثل هذا القول نابع من نظرة إعجاب بالعرق الألماني الذي كان يرى نفسه من أصفى الأعراق البشرية، وتلك النظرة الاستعلائية توحي للقارئ أن السلطان ينهج ذات النظرة الشوفينية “Chauvinism” والفوقية للعرق التركي، وهو أمر يثير الكثير من علامات التعجب لدى القارئ ممن يدعي أنه خليفة المسلمين، المسؤول الأول عنهم، والذي نادى بالجامعة الإسلامية، التي -على ما يبدو- لم تُستدعَ إلا في محاولة الخلاص من الأزمات الداخلية والخارجية التي اجتاحت أركان دولته. بالفعل إن شخصية السلطان عبدالحميد بحاجة إلى دراسة سيكولوجية لمعرفة سلوكه وتفكيره وانفعالاته، وردود أفعاله التي صدرت عنه خلال تلك الحقبة من التاريخ الحديث، خصوصًا مع ما اشتهر عنه من حالتي الشك والتوهم اللَّتَين كانتا تسيطران عليه وعلى تصرفاته وسلوكه، وعن ذلك الأمر تحدث تحسين باشا رئيس دائرة الكتابة بقصر يلديز، والرجل المقرب من السلطان، في مذكراته عن عبدالحميد فيقول: “وتوهُّم السلطان عبد الحميد، خَلقيًا كان أو مكتسبًا، وهو توهم فوق العادي بكثير، وكان لهذا التوهم آثار مهمة وأليمة أحيانًا في تصرفاته بشكل عام. ومع عدم وجود أي شك في أن قسمًا من هذا الوهم ناشئ عن طبعه، بأنه من المؤكد أن الناس من حوله أيام كان أميرًا أو وليًّا للعهد أو سلطانًا لم يكفوا عن تحريك أوهامه، إذ أظهروا له أوهامًا تفاقم تلك الأوهام”.
ومرة أخرى نرى السلطان يذكر في خواطره قوله: “علينا أن نعترف -وبكل أسف- بأن الإنجليز استطاعوا بدعايتهم المسمومة أن يبثوا بذور القومية والعصبية في بلادنا. وقد تحرك القوميون في الجزيرة العربية وفي ألبانيا”، والسؤال هنا لماذا تحركت تلك الشعوب ضد الحكومة العثمانية ذات النظرة العنصرية لغيرها من الشعوب؟ فهذا مثال كبير للتناقضات التي كان يعيشها السلطان في تعاملاته مع شعوب وأعراق إمبراطوريته، وهو هنا يصح فيه قول المثل العربي الشهير “رمتني بدائها وانسلت”.

باعترافه في مذكراته: "إذا أضعنا إسطنبول ستؤول الخلافة حت ًما للعرب".

ولعل الشيء بالشيء يذكر، فمن متناقضات عبدالحميد الثاني التي تلفت النظر تعليقه على المقترح الذي قدمه له الصدر الأعظم الوزير سعيد باشا، بشأن نقل مقر الحكومة من إسطنبول إلى بورصة في حال مهاجمة الروس مرة أخرى للعاصمة بالقول ما نصه: “إذا أضعنا إسطنبول أضعنا معها الخلافة، ستؤول الخلافة حتمًا للعرب”، وهنا يقف الإنسان متعجبًا وحائرًا أمام هذا الربط الغريب للعاصمة التركية بالخلافة والعرب تحديدًا وحتمية عودة الخلافة إليهم يومًا ما مرة أخرى، فهل كان السلطان عبدالحميد يخشى من أمة العرب فعلًا؟ أم كان يكن لهم الاحترام والتقدير كما كان يظهره لهم في المناسبات، أم هي الخشية من فقدان الشرعية لحكمه وعودة الخلافة لمن اغتصبت منهم؟ أم هو ما كان يدور بالفعل في خلد السلطان ووجدانه من أوهام نطق بها اللسان؟ ولا شك أن الوهم والشك قد بلغ من السلطان عبدالحميد الثاني مبلغه وعاش في ظل تلك الأوهام بقية فترة حكمه لينتهي مخلوعًا.