1041هـ (1631م)
الاستباحة الثانية لجنود الدولة العثمانية لمكة المكرمة
عاشت عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول عام 1041ه/ 1631م حالة من الفوضى، تمثَّلت بهبوب رياح الثورة ضد السلطان مراد الرابع، التي قادها العساكر والجنود الثائرين الذين اقتحموا بوابة قصر السلطان، وطالبوا بعزل مفتي السلطنة، وقتلوا الصدر الأعظم حافظ باشا صهر السلطان ووزيره المقرَّب والمفضَّل لديه، فكان هذا المشهد المأساوي وغيره من مشاهد الفوضى التي أصابت عمق مركز العثمانيين، فانعكست بدورها سلبًا على بقية أقاليم الدولة المختلفة، ومن تلك الأقاليم اليمن، الذي شهدت إدارته العثمانية عددًا من الهزائم المتلاحقة من قوات الدولة القاسمية في اليمن ومحاصرتها لها، وفشل والي اليمن قانصوه باشا في مواجهتها، مما أدَّى إلى حدوث تمرُّد واسع وكبير عليه من قِبَل جنوده وعساكره، فخرج عليه حوالي ألف عسكري منهم متوجِّهين إلى مكة المكرمة في رجب سنة 1041ه/1631م، يقودهم قائدهم كور محمود بيك، وطلبوا من شريفَي مكة محمد بن عبد الله وزيد بن محسن، وأمير سنجق جدة المقيم في مكة المكرمة آنذاك، السماح لهم بدخول البلد الحرام، ولكنَّ شريفَي مكة رفضَا دخول هؤلاء المتمردين خوفًا من فسادهم.
ولقد قرَّر أولئك المتمرِّدون دخول مكة المكرمة عنوة، مما جعل شريفَي مكة يخرجان بعشيرتهما من الأشراف وأتباعهما، ومعهما مصطفى بيك أمير سنجق جدة؛ لصدِّهم، والوقوف أمامهم إلى بركة ماجن، ثم إلى قوز المكاسة الواقعة جنوب غربي مكة في المسفلة، فوقعت بين الطرفين معركة كبيرة وعنيفة –وصفها معاصروها من المؤرخين المكيِّين بأنها كانت ملحمة عظيمة- انتصر فيها العساكر المتمردون، وقُتل فيها الشريف محمد بن عبد الله وجماعة من الأشراف بلغ عددهم حوالي مائتين، وقُتل معظم رجال أمير سنجق جدة، وفرَّ هاربًا الشريف زيد بن محسن إلى المدينة المنورة، كما قتلوا أمير سنجق جدة أيضًا، ودخل بعد ذلك المتمردون إلى مكة المكرمة، وعاثوا فيها سلبًا ونهبًا دون مراعاة لحُرمتها وقُدسيتها، وحُرمة شهر رمضان الذي اقتحموا فيه مكة، ولم يكتفوا بذلك، بل عيَّنوا شريفًا آخر من جهتهم في تحدٍّ صريح للسلطان، وتحقيرًا لأوامره.
قتلوا واستباحوا وعاثوا في الحرم المكي، وخرَّبوا من دون مراعاة لحُرمة المكان ولا الناس.
وبعدما أشاعوا القتل والفساد والدمار في البلد الحرام توجَّهوا إلى جدة، فنهبوا أسواقها، وصادروا تجارتها، وأهانوا أمين تُجَّارها دولار أغا، ونهبوا منزله في صورة لا يمكن وصفها إلا بالتصرف الهمجي والمغولي، فقد أطلقوه مجردًا، ونهبوا غالب التجار بجدة.
ولقد عبَّر أحد الشعراء المعاصرين لذلك الحدث الجَلَل، الذي عُرف في التاريخ المكي بوقعة ” الجلالية” بقوله شعرًا:
ألا فاسمعوا قولي ورِقُّوا لشكوتي ألَا راحِمٌ يرثي على أهل مكة
ألا غارةٌ لله تفرج كربةً ألا فانجدوا يا قوم أهل المروة
لجيران بيت الله كانت مصيبة بتاريخ عام ألفي فاسمع لقصتي
لمكة جاءت جنود خوارج لخمس وعشرين لشعبان خلت
ولا يُستغرب هذا التصرف من جنود العثمانيين؛ لاعتيادهم مثل تلك التصرفات في البلد الحرام مكة المكرمة، وكرَّروا النهب والسلب والبطش بالخلق دون أن يراعوا في ذلك إلًّا ولا ذِمة.
- عبد الملك العصامي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (القاهرة: المطبعة السلفية، د.ت).
- علي السنجاري: منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم، دراسة وتحقيق: ماجدة فيصل زكريا (مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، 1998).
- علي الطبري: الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء، تحقيق: أشرف أحمد الجمّال (مكة المكرمة: المكتبة التجارية، 1996).
- عويضة الجهني، “السلطة العثمانية في الحجاز في أواسط القرن ال 11/ 17 كما يعكسها عهد شريف مكة زيد بن محسن 1041ه/ 1632م- 1077ه/ 1666م”، عمّان، المجلة الأردنية للتاريخ، ج 2، عدد 2 (2008).