سقوط أكذوبة
"الخلافة العثمانية"
إن الخوض في موضوع الخلافة الإسلامية يحمل في طياته مخاطرة حقيقية تفرض على الباحث امتلاك أدوات التحليل السياسي مع الانضباط لمحددات الإطار الشرعي الذي يحدد مفاهيم الدولة في الإسلام. ويمكن القول بأن مفهوم “الخلافة” تأرجح بين الفقهاء والباحثين والسياسيين، بين من يرونه ضرورة دينية وفريضة شرعية وبين من يرونه اجتهادًا سياسيًّا أملته مجموعة من الشروط الموضوعية والبيئات الاستراتيجية ولا يمكن رفعه إلى أصل من أصول الدين، وجعل إقامته فرض عين على جميع المسلمين.
لقد استغلت بعض التنظيمات العرقية الأحاديث التي تُنسب إلى الجناب النبوي الشريف وقامت بتطويعها؛ خدمة لأجندات سياسية صِرفة، عن طريق عملية الحشد والتعبئة حول مفاهيم الخلافة الإسلامية والجهاد والفتح وهو ما سهَّل عليها مهمة إخضاع مجموعة من الدول الإسلامية التي خُدعت بتلك الشعارات البراقة التي أخفت من ورائها مشاريع تمكينية مهدت لإخضاع البلدان العربية والإسلامية لأحد أبشع الدكتاتوريات التي شهدها العالم على الإطلاق.
في هذا السياق، فإن تناول فترة الحكم العثماني بنَفَسٍ أكاديمي وتعاطٍ علمي يجعلنا نتحفظ على إطلاق لقب “الخلافة” على الحكم العثماني وهو اللقب الذي لم يُعتمد -حسب بعض الكتابات النادرة- إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، ليس لأن الأتراك العثمانيين لم يطلبوا الخلافة لأنفسهم وإنما وجدوا أنفسهم في مواجهة نصوص الأحاديث النبوية والتي يرى معظمها بأن شروط الخلافة المتمثلة في “العروبة” و”القرشية” لا تتوفر في سلاطين آل عثمان وهو ما جعلهم يتشددون في التمسك بالمذهب الحنفي على اعتبار أن أبا حنيفة -حسب زعمهم- كان لا يأخذ بهذه النصوص ويرى من الجائز أن تكون الخلافة في غير قريش. وفي هذا الصدد نجد حسن العلوي يقول “جاء الاعتقاد بأن الأتراك العثمانيين كانوا قد أخذوا بمذهب أبي حنيفة، لأنه يجيز لغير العربيّ، كالتركي والفارسي، أن يكون خليفة” (حسن العلويّ، الشيعة والدولة القوميّة في العراق، فرنسا: طبع خاص 1989 ص13).
إن القول بأن أبا حنيفة يُسقط من الخلافة شرط العروبة والقرشية هو قول غير دقيق، ويدخل في خانة الإشاعات التي روَّجها العثمانيون؛ لمحاولة البحث عن شرعية مفقودة لحكمهم، والثابت عند الحنفية أن القرشية شرط من شروط صحة الخلافة، وهنا نجد -على سبيل المثال لا الحصر- الفقيه حافظ الدّين الكردريّ (ت 827 هـ) وهو من فقهاء المذهب الحنفي يقول: “رجع الكل إلى هذا الحديث (يقصد الأئمة من قريش)، دل على أن المراد بالإمامة الخلافة الكبرى بالإجماع، فلا يراد غيره”. ولعل ما يسند هذا الطرح عند المدافعين عن الخلافة كأصل من أصول الدين ما جاء في الحديث الصحيح من رواية عبدالله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان” (رواه البخاري ومسلم).
ورغم اتساع رقعة السلطنة العثمانية إلا أن عقدة “الخلافة” ظلت تلاحق حكامها خصوصا عند اصطدامهم بالمشروعية الدينية للأسر الشريفة في شبه الجزيرة العربية والمغرب الأقصى حيث اجتمعت في الأسر الحاكمة هناك شروط العروبة والقرشية وانتساب بعضهم إلى البيت النبوي الشريف. ويمكن الاستدلال على هذا الطرح بالموقف الحازم للأشراف السعديين في المغرب من ادعاء العثمانيين الخلافة حيث كانوا يعتبرونهم أدنى مرتبة من الناحية الدينية؛ لكونهم مجرد معتنقين جدد للدين الإسلامي، وهو ما جعل السلطان المغربي محمد الشيخ يطلق على السلطان العثماني سليمان القانوني لقب “أمير القوارب” بدل أمير المؤمنين؛ تحقيرًا وتصغيرًا له ولدولته.
على مستوى الممارسة والحكم، تُجمع الكتابات التاريخية على أن سلاطين الدولة العثمانية كانوا أبعد ما يكونون عن تجسيد وتنزيل جوهر العقيدة الإسلامية، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن معظم سلاطينهم أسقطوا ركنًا أصيلاً من أركان الإسلام ألا وهو الحج؛ إذ لم يسبق لسلطان عثماني واحد أن أدى فريضة الحج مع توفر جميع الشروط وعلى رأسها الاستطاعة.
ولعل الآثار التي خلفها السلاطين العثمانيون تقطع بأن هذه الدولة خلَّفت من المآسي والمذابح ما تعجز عن احتوائه هذه المقالة، وبالمقابل لم يتركوا آثارا لحضارة ولا عمران، اللهم إلا قصور السلاطين وكبار قادة الجيش. ويكفي التذكير بما قاموا به في بلاد نجد وخاصة في الدرعية إذ استباحوا الأرض والعِرض وارتكبوا مجزرة لا زالت فصولها تُحكى أبًا عن جد. أما في شمال إفريقيا فقد دخلها العثمانيون بناءً على طلب سكان وحكام المنطقة قبل أن ينقلبوا على أهلها ويُنَكِّلوا بهم، ويسجل التاريخ قتلهم لسالم التومي حاكم الجزائر واغتيالهم للسلطان السعدي محمد الشيخ وذبحهم لقبيلة الجوازي في ليبيا وإبادة قبائل بكاملها في تونس.
إجمالا يمكن القول بأن الحكم العثماني لم يكن في يوم من الأيام “خلافة إسلامية” لا على مستوى استيفاء الشروط الشرعية، ولا على مستوى أساليب ممارسة الحكم التي تميزت باستعلائهم العرقي ونظرتهم الدونية إلى كل ما هو عربي، وفي هذا يقول عبدالرحمن الكواكبي “وكما فعل الأعاجم الذين قامت لهم دول في البلدان الإسلامية كآل بوية والسلجوقيين والأيوبيين والغوريين والأمراء الجراكسة وآل محمد علي، فإنهم ما لبثوا أن استعربوا وتخلقوا بأخلاق العرب وامتزجوا بهم وصاروا جزءا منهم…فلم يشذ في هذا الباب غير المغول الأتراك أي العثمانيين فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم فلم يسعوا باستتراكهم كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا… ولا يُعقل لذلك سبب غير شديد بغضهم للعرب كما يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال في حق العرب كإطلاقهم على عرب الحجاز (ديلنجي عرب) أي العرب الشحاذين وإطلاقهم على المصريين (كور فلاح) بمعنى الفلاحين الأجلاف… وتعبيرهم بلفظة (عرب) عن الرقيق وعن كل حيوان أسود وقولهم (يس عرب) أي عرب قذر”. (كتاب أم القرى، ص 150/151).