"الأكراد وتركيا الحديثة"
من ينظر إلى الواقع الكردي من منظور تاريخي بحت، فسيجد أن وضعهم لم يكن أفضل حالاً بعد قيام الجمهورية التركية على أنقاض الدولة العثمانية في سنة 1923م. فبعدما تبوأ حزب الاتحاد والترقي السلطة في الدولة العثمانية بعد انقلاب 1908م، اتَّبع الحزب سياسة التتريك ضد الأقليات والقوميات القاطنة في الدولة بمختلف أعراقها وأجناسها بمن فيهم الأكراد، وكانت تلك السياسة تقضي بإدماج تلك الأقليات مع العناصر الأخرى في العنصر التركي من خلال سلبهم ثقافتهم ولغتهم وتهجيرهم من مناطقهم الأصلية، ونشرهم في ولايات الدولة. وقد تم استصدار مرسوم بذلك يقضي بنفي جميع الأكراد من بلادهم وتشتيتهم في الولايات التركية على ألا تزيد نسبة المهجرين والمبعدين في أي بلدة تركية عن 5% من السكان الترك؟! وعلى أن يجبر الزعماء وأصحاب التأثير والنفوذ من الأكراد على العيش والإقامة في المدن التركية الكبيرة، ويُوَزَّعُ أتباعُهم من رجال العشائر والقبائل الأخرى على القرى البعيدة لضمان عدم تواصلهم مع تلك الزعامات والقيادات في المدن. وبهذه العقلية الممزوجة بالعنصرية الطورانية المقيتة والآلية المجحفة بشأن الأقليات تم تشتيت الأكراد بين الترك حتى تضيع مقوماتهم القومية وتراثهم الشعبي مع مرور الوقت.
وتشير المصادر التاريخية المأخوذة من إدارة قيود المهاجرين إلى أن عدد المُهَجَّرين الأكراد من كردستان إلى الولايات التركية قد بلغ حوالي 700,000 مهجر. ووا أسفا فإن تلك القيود لم توضح الجهات التي أجبروا على الهجرة إليها؟ وهذا الأمر فيه الكثير من التعمد الواضح المقصود لبتر أوراق الشجر وأغصانها عن الجذور والتاريخ والتراث. وقد انتقد هذا السلوك التركي مع الأكراد وبشدة رئيس وزراء فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى ” كليمنصو” حين قال عن الأتراك: “أثبتوا بأجلى برهان أنهم بفضل إدارتهم السيئة ومظالمهم المتنوعة من عصور عديدة، عديمو الكفاءة والأهلية في إدارة العناصر غير التركية، فيجب والحالة هذه ألا نترك أمة ما في إدارتهم”.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع تصريح “كليمنصو” المشبع بالروح الاستعمارية المتوثبة على تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) إلا أن ما قام به حزب الاتحاد والترقي من تهجير ونفي لمئات الآلاف من الأكراد يعد كارثة إنسانية ليس لها مثيل وانعدام وفقدان للرحمة. وعموما كان لذلك التصريح أثره على نشاط الجمعيات الكردية في المطالبة بحقوقهم والحصول على الاستقلال الذاتي والانفصال عن الدولة. وهنا بدأت الحكومة اللعب على أوتار الإخاء الإسلامي والوطنية العثمانية. وفي محاولة كبح جماح النشاط الكردي تم عقد لجنة عليا من أجل النظر في مطالب الأكراد وصدر عنها: منح كردستان الاستقلال الذاتي، الذي لم يتحقق لهم أبدًا.
ومن الغريب أن القضية الكردية كانت من ضمن البنود المطروحة في معاهدة “سيفر” الشهيرة 1920م، التي اعترف الحلفاء فيها بحق الحياة للأكراد والاستقلال لكردستان، وذلك لمدة عامين تحت إشراف تركيا تمهيدًا لإعلان استقلالها العام. إلا أنه كانت المماطلة في تنفيذ القرارات المهمة من أجل تنفيذ ذلك البند، وتلكؤ حكومة مصطفى كمال على تنفيذ المطالب الكردية. مما اضطر زعماء العشائر الكردية إلى إرسال برقية إلى المجلس الوطني في أنقرة، للمطالبة بما نصت عليه معاهدة سيفر على إنشاء دولة كردستان المستقلة التي تضم ولايات شرق تركيا وإلا فإنهم سيضطرون لتحقيقها بالسلاح. وفي 1923م، اعترف مصطفى كمال نفسه بالحكم الذاتي للأكراد وأنه يجب منحهم ذلك في المناطق التي يشكلون فيها كثافة سكانية. استجابة لمعاهدة “لوزان” التي تضمنت هي الأخرى نصوصًا على أحقية الأكراد بالاستقلال.
إلا أن جميع ما أُخِذ لهم من عهود ذهب أدراج الرياح ومعه الحلم الكردي، فالجغرافية السياسية اسهمت بشكل كبير في صعوبة تحقيق ذلك الحلم، فوعود الحلفاء لم تتحقق بسبب اختلاف المصالح الجيوسياسية في المنطقة. إضافة إلى أن الحركة الوطنية الكمالية تنصلت من تحقيق ذلك الوطن القومي المنشود للأكراد، المنصوص عليه في أكثر من معاهدة دولية. بل تعاملت معهم ومع مطالبهم بكل قسوة وعنف من أجل إخماد ذلك النفس الثائر، وتبع ذلك سياسة التهجير القسري للأكراد من مناطقهم، ومنعهم من استعمال كلمة “كرد” ولقبوهم بالأتراك الجبليين. وأقاموا عمليات تطهير واسعة على كافة الأصعدة الحكومية والصحافية. ومع ذلك لم تخفت الثورات الكردية التي استمرت بصورة متتالية فيما بين 1925-1930م، والتي ترتبت عليها خسائر كبيرة بين الطرفين في الأنفس والأموال ولكن حكومة “عصمت أينونو” تعاملت مع الثورات الكردية بعنف غير مسبوق اضطر الثوار إلى اللجوء إلى قمة جبل “آغري داغ”، إلا أن ذلك الجبل لم يسلم من الحملة العسكرية الكبيرة التي أرسلها “أينونو” لمهاجمته ومهاجمة ثواره، وتم ذلك بالفعل لكن بعد تدمير أكثر من 112 قرية كردية بطريقه وحشية لا يمكن أن يتصورها الإنسان. ولازالت القضية الكردية مفتوحة كجرح غائر في تاريخ تركيا الحديثة يلتهب بين حين وآخر.