الدرعية.. حرب العثمانيين لإسقاط إمبراطورية ناشئة !!
كانت مواجهة السلطنة العثمانية مع الدولة السعودية الأولى حتمية ومنتظرة، قياسًا إلى السلوك العثماني المضطرب المتشكك في أي حركة نهضوية عربية، خاصة مع صعود الدولة الإصلاحية الجديدة من معقل العرب الأول الجزيرة العربية، ومن حيث لا يتوقع العثمانيون بزوغ نجمها.
بل إن من يقرأ العقلية العثمانية المفرطة في أنانيتها وتوحشها، يستغرب تأخرها في إرسال قوات ضخمة بعدما استهانت بداية بالقوة السعودية، ذلك الأمر الذي اضطرها لاحقا -وهي صاغرة- إلى الاستنجاد بوليها في مصر محمد علي باشا.
فلم تكن تقبل السلطنة العثمانية التي سرقت الخلافة العباسية من مقرها الثاني في القاهرة، أن تولد في جزيرة العرب حركة إصلاحية نهضوية سُنِّيَّة تنافسها، خاصة أن الحركة الإصلاحية السلفية التي حمل لواءها السعوديون كانت سريعة الانتشار بين القبائل وفي الأقاليم المجاورة أو التي خضعت للنفوذ العثماني.
بلا شك، كان ذلك تهديدا حقيقيًّا يأتي لأول مرة على أيدي أبناء الجزيرة الذين ورثوا عن آبائهم (الصحابة) هذا الدين، دون أن تعكر صفوه الأفكار الدينية التي جلبها الأتراك من أواسط آسيا والهند وفارس.
ولعل إرهاصات المواجهة بدأت إثر تمدد الدولة السعودية خارج إقليم نجد، فقد كانت تنظر الآستانة إلى نجد في بداية استعمارها واحتلالها للعالم العربي باعتباره أقليمًا مهملًا نائيًا لم تحاول السيطرة عليه لأسباب اقتصادية، فالأتراك العثمانيون يعيشون على الحروب والاستعمار والاستئثار بثروات الشعوب والأقاليم التي يحتلونها، ولأن نجد في تلك الفترة كانت إقليمًا قاحلاً لم تمثل أي اهمية استراتيجية للعثمانيين.
لكن بدو الصحراء القادمين من الدرعية يحملون لواء أول حركة نهضوية عربية بعد سقوط الأندلس على صهوات جيادهم استطاعوا ضم أقاليم الأحساء وجبل شمر في طريقهم لإنشاء دولتهم الأولى، ووصل نفوذهم إلى العراق شمالاً وساحل عُمان شرقًا، الأمر الذي دفع الأتراك لاتخاذ قرارهم الحاسم بالمواجهة، بل وصل حقدهم إلى الاندفاع لاقتلاع الدولة ومحاولة استئصالها.
عملت الدولة العثمانية على خطين متوازيين في مواجهة الدولة السعودية الأولى، بداية من تشويه الدعوة الإصلاحية والدولة والتحريض عليها ورميها بتهم دينية لاغتيالها معنويًّا ولتحضير العالم الإسلامي للقضاء عليها، ولذلك حوّلت السلطنة العثمانية جنوب العراق إلى مركزٍ للانقضاض على السعوديين.
بدأت أولى الحملات العثمانية على يدي ثويني بن عبدالله، رئيس قبائل المنتفق جنوب العراق، بهجوم مباغت على نجد العام 1201هـ/1786م، تسانده قوات كبيرة من قبائل المنتفق وحلفائها، أدى هذا الهجوم إلى ردة فعل عسكرية سعودية، وفي كتاب مقاتل من الصحراء تأتي تفاصيل انفجار الخلاف حين أرسل الإمام عبدالعزيز بن محمد رسالة إلى الوالي العثماني في العراق سليمان باشا الكبير، مصحوبة بنسخة من كتاب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، “التوحيد الذي هو حق الله على العبيد”، وطلب منه أن يجمع علماء بغداد، للنظر في الكتاب، والإيمان بما جاء فيه. إلا أن الوالي، استخف بهذه الدعوة، وكان رده سلبيًّا، مقللاً من شأن الدعوة الإصلاحية. وبذلك أصبح الصدام حتميًّا.
ولأن العثمانيين ماهرون جدًّا في الوقيعة بين أبناء الأقاليم والقبائل العربية فقد قرر والي بغداد سليمان باشا، أن الحل الوحيد لإيقاف الدولة السعودية القادمة بقوة هو إيقاع الخلاف بين العراقيين والسعوديين، فدفع ثويني بن عبدالله، أمير المنتفق السابق، إلى حرب الدولة السعودية من جديد وغزوها في ديارها، وفي هذا الغزو العثماني توجه “ثويني” إلى الأحساء في محاولة لعزل نجد عن أي إطلالة بحرية وكذلك عن واحة الأحساء المورد الغذائي الكبير، إلا أن الغزو حمل في ثناياه عوامل فشله واندحاره بسبب الخلافات بين المتحالفين لحرب السعوديين الذين تقاتلوا مع بعضهم البعض، ولأن القوات العثمانية تراجعت أمام فرسان الدرعية، ذلك الأمر أدى إلى أن تقوم القوات السعودية بملاحقتها حتى أواسط العراق بل وصلت إلى السماوة.
لم يصدق العثمانيون تلك الهزائم التي تلاحق مرتزقتهم وعملاءهم، بعدما ظنوا أن السعوديين قبائل بدوية مجردة تبحث عن المغانم، لقد كان تفكيرًا سطحيًّا ساذجًا، لم يتعامل مع السعوديين باعتبارهم دولة طامحة تسعى لتأكيد سيادتها على الجزيرة العربية وإيمانها العميق بدعوتها الإصلاحية التي تعود في أصولها إلى العقيدة السلفية الصافية، بعدما شاعت الطرق والأفكار الدينية القادمة على أيدي العثمانيين.
لم يتوقف العثمانيون عند تلك المحاولة البائسة الفاشلة، بل جاءت أوامر أخرى من الباب العالي، إلى سليمان باشا، بأن يعد حملة منظمة من العسكر النظاميين وليس من القبائل في جنوب العراق، لكنها فشلت كسابقتها، ونتيجة للفشل المتتالي لحملات والي العثمانيين في العراق وصلت الآستانة إلى قناعة تامة بإسناد مهمة القضاء على الدولة السعودية إلى إقليم مصر تحت قيادة محمد علي باشا.
لقد كان قدر الدولة السعودية الأولى أن تواجه عداوات وتشويهًا متعمدًا لدعوتها لدرجة رفض السماح لحجاجها القادمين من أقاليمها أو حتى العابرين بأراضيها أن يؤدوا فريضة الحج، خاصة بعدما اعتبر والي مكة العثماني الدولة السعودية عدوة له، و بالرغم من محاولة السعوديين بناء علاقة فكرية مع والي مكة بإرسالهم 30 عالمًا من علماء الدعوة الإصلاحية لمناظرة علماء سكان مكة، إلا أن الوالي العثماني أمر بحبسهم إثر المناظرة التي لم يحصل فيها وفاق بين الطرفين.
بقيت العلاقة بين الدرعية ووالي مكة متوترة، بين شد وجذب تتغير بتغير العلاقة بين مكة وإسطنبول، فإذا تحسنت ساءت مع الدرعية وإذا ساءت مع العثمانيين تحسنت مع الدرعية، وبعد هزيمة الشريف غالب بن مساعد الذي سيّر حملة كبيرة للقضاء على الدولة السعودية دفع علماء مكة والمدينة لطلب النجدة من السلطان العثماني وتحريضه ضد الدولة السعودية الأولى.
بالطبع استمرت المناوشات بين الدرعية ووالي مكة حتى ضاق الحال بنجد وسيرت حملة ضخمة بعد انضمام قبائل عديدة في الحجاز تحت راية الدولة السعودية، عندها فقط جرى ضم مكة والمدينة المنورة لتمتد نفوذ الدولة الجديدة إلى معظم الجزيرة العربية وصولاً إلى جنوب الشام والعراق، ولتكون الشرارة التي اطلقت كل نيران الحقد العثماني، إذ كلفوا واليهم في مصر محمد علي باشا بإسقاط الدرعية والقضاء على الدولة السعودية مهما كلفهم الأمر .
والسبب؛ فلأن الدولة السعودية الأولى كانت الدولة العربية الوحيدة المؤهلة لإسقاط الاحتلال العثماني للعالم العربي والقادرة على أن تكون إمبراطورية بديلة للعثمانيين الذين استشعروا الخطر الداهم المولود في قلب صحراء الجزيرة، على أيدي فرسان الدرعية الأوائل بقيادة الإمام محمد بن سعود وأبنائه من بعده.