الحزم والعزم والقوة في رد الملك عبدالعزيز على مندوب العثمانيين:

متى كان ابن سعود يقبل الرشوة أو يبيع بلاده ورعيته لأناس يريدون استرقاقها

بعد أن تمكّن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيّب الله ثراه- من استرداد الرياض عام (1902)؛ انطلق بعد ذلك في عملياته الكبرى لتوحيد أرض الجزيرة العربية، مستعينًا بالله أولًا، ثم إيمانه بأن ينال شعب الجزيرة العربية دولة وحكومة تراعي الله فيه وتخافه وتعامله بالحسنى والعدل.

ومن هذا المنطلق بدأ الملك عبد العزيز بتوحيد أقاليم العارض، والوشم، وسدير، وقبلهم جنوب الرياض، ثم اتجه بنظره نحو منطقة القصيم ذات الموقع الاستراتيجي من الناحية الجيوسياسية، من حيث كونها حلقة وصل بين نجد وشمال الجزيرة العربية ومفترقًا للطرق التجارية التي تخرج منها نحو بلاد العراق وبلاد الشام، إضافة إلى ذلك كله توسطها بين حدود الدولة السعودية التي كان يؤسسها الملك عبدالعزيز وبين العثمانيين مع حليفهم عبدالعزيز بن رشيد، الذي سعى جاهدًا لإيقاف مرحلة التوحيد التي كان يقوم بها المؤسس الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه).

شعرت الدولة العثمانية بخطورة الأمر باقتراب الملك عبدالعزيز من القصيم عليها وعلى حليفها في الجزيرة العربية، فعمدت إلى دعمه للحفاظ على كيانه السياسي، فأمدته بعساكر نظامية لمواجهة الملك المؤسس، فكانت معركتا البكيرية والشنانة اللتين تقابل فيهما الملك عبدالعزيز مع العثمانيين وحليفهم وجهًا لوجه عام (1904)، و تشير المصادر التاريخية إلى أن الدولة العثمانية أمدت ابن رشيد بعدد كبير من الجند النظاميين بأسلحتهم الحديثة من المدافع التي بلغ عددها أكثر من ستة مدافع وكميات كبيرة من السلاح و الذخيرة والمؤن.

 وقدّر عدد الجنود بأكثر من ألف وخمسمائة، وصادر ابن رشيد في بداية الأمر ما وجده من إبل عقيلات القصيم، وحمَّل عليها قسماً كبيراً مما حصل عليه من أطعمة ومؤن وأسلحة نقلها من العراق إلى نجد، وأسرع منطلقًا إلى القصيم مع الجيش النظامي العثماني، وقدرت قواتهم بحوالي عشرة آلاف مقاتل لمواجهة الملك عبدالعزيز ووقفه قبل أن يسترد القصيم كاملةً.

 وأمام تلك الجموع، استنهض الملك عبدالعزيز وهو في بريدة أهل البادية والحاضرة ليجتمعوا عنده، وبلغ عدد الوافدين عليه عدة آلاف من المحاربين، خرج بهم من بريدة ونزل بهم في البُصْر ومن ثم ارتحل بهم نحو البكيرية، في محاولة لمنع خصومه من دخولها ومواجهته.

قاتل السعوديون بشراسة، لذا يذكر الأمير سعود بن هذلول في كتابه تاريخ ملوك آل سعود أن القتلى من الجنود العثمانيين بلغوا حوالي ألف وخمسمائة، كان كثير منهم من الضباط، وكان انتصارًا باهرًا للسعوديين الذين أسروا عددًا من الجنود العثمانيين وغنموا بعض المدافع وعادوا إلى البكيرية مع الليل.

انطلق الملك عبدالعزيز في بلدان القصيم كافة كي يؤَمِّنها من بطش الأعداء، وقد أبى أهالي البلدات الخضوع والخنوع للمحتل وقوات ابن رشيد، لذلك تعرضت بعض البلدات ومنها الخبراء لقطع النخيل وقُذفت البلدة بالمدافع، لذلك عمد الملك عبدالعزيز  لإنقاذ الأهالي، وسعى إلى حمايتهم من البطش الذي هددوا به، فسعى إلى طرد الغُزاة وتعقب فلول المنهزمين من جيش العثمانيين وابن رشيد.

كمن العثمانيون وابن رشيد في الشنانة واتخذوا منها معسكرًا وتمركزت قوات الملك عبدالعزيز بن سعود في الرس، وكانت نتائج معركة البكيرية إيجابيةً في رفع الروح المعنوية للسعوديين، وبأنهم قادرين على هزيمة طوابير عساكر الجيش التركي النظامي وحليفهم الذي سُحق في المعركة.

تسابق الملك عبدالعزيز مع العثمانيين وابن رشيد على البلدات في القصيم، ومنها قصر ابن عقيِّل الذي توقع الملك عبدالعزيز أن يتجه إليه المهزومون، وصل إليه قبلهم وكمن فيه، وحين اقتربوا خرج إليهم وحدث قتالٌ شديدٌ، انهزم على إثره الأتراك، وفروا هاربين، وانهزم ابن رشيد وترك مغانم كثيرة من الذخائر والسلاح والأموال والذهب، وظلت قوات الملك تجمعها طيلة عشرة أيام وحملوا صناديق الذهب العثماني إلى عنيزة.

ومن أهم نتائج معركة الشنانة تفكك قوات العثمانيين وحليفهم، نتيجة الاستراتيجية التي اتبعها الملك المؤسس وحنكته في اختيار المواقع واستبساله في القتال، إذ حدث بعد المعركة خلاف بين ابن رشيد والضباط العثمانيين، كما عَلِمَ العثمانيون أنهم أمام شخصية قوية في الجزيرة العربية لا يمكن تجاوزها، أمام الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، حيث أيقنوا أنه الوحيد القادر على إنهاء أحلامهم في السيطرة على الجزيرة العربية، وأيقنوا أنه الوحيد الذي سيطرد حامياتهم منها.

لذلك بدأت الدولة العثمانية اتصالاتها بالملك عبدالعزيز، وأدى ذلك إلى عقد مفاوضات، فأرسل قائد القوات العثمانية حسن شكري إلى الملك عبدالعزيز رسالة فيها إتهام له بإثارة الفتنة في البلاد العربية ويقدم فيها النصيحة له مع تهديد مبطن، وجاءه الرد الصاعق من الملك عبد العزيز حيث عرّى الموقف التركي من أحداث الجزيرة العربية.

المؤسس الملك عبدالعزيز لقن العثمانيين درسًا في المفاوضات بمنطق القوة بعد أن قذف الرعب في قلوبهم على أرض المعركة.

وينقل لنا المؤرخ السعودي عبد الله بن محمد البسام في تحفته المشهورة رد الملك عبدالعزيز، إذ رد على حسن شكري بقوله: “وأما قولك أن أمير المؤمنين بلغه أمر هذه الفتنة في البلاد العربية، وما هان عليه إلا إصلاحها فسبحان الله، هل تخفى عليه حقيقة الأحوال، إنه هو المضرم لها وهي غاية مقاصده، وأما قولك أن الخليفة المعظّم بعثك لتنظر الخلاف الواقع بيني وبين ابن رشيد، فليس إلا لأنكم تريدون غدر إمارتي، ولو كان الأمر كما زعمت لكنت نظرت في الأمر لمن تكون بلاد نجد، وكان يمكنكم التدخل قبل أربع سنوات في بادئ الأمر، وقبل أن يداخلنا الشك في سوء أفعالكم، وأما الآن فلم نقبل لكم نصيحة ولا نعترف لكم بسيادة، والأحسن إنك ترجع من هذا المكان إذا لا تود سفك الدماء، فإن تعديت مكانك مقبلا إلينا فلا شك نعاملك معاملة المعتدين علينا، فإن كنت حرًا منصفًا فلا يخفاك أن سبب عدم طاعتي هو عدم ثقتي بكم، وما يلاقونه وحجاج بيت الله الحرام من السلب والنهب، فأي نصيحة تبديها لي يا حضرة الأمير مع ما أراه من سوء المقاصد في البلاد، وخبث نيات العمال وأمنية عموم المسلمين هي أن يهيئ لهم من يحمي ضيعتهم ويعلي شأنهم، وخلاصة القول إن كل العمال الذين رأينا أنهم خائنون منافقون فلا طاعة لكم علينا، بل نراكم كسائر الدول الأجنبية”.

وأظهر الرد بصورة واضحة الموقف الحاسم الذي اتخذه الملك عبدالعزيز ضد الأتراك، مبيِّنًا الأسباب والدواعي التي جعلته لا يثق بهم، واستعرض بصورة شاملة حال المنطقة العربية التي كانت ترزح تحت حكمهم وظلمهم الاستبدادي والعنجهي، وقد تعامل الملك عبدالعزيز بذكاء وحنكة مع ذلك التهديد، وأدرك الأتراك أن موقفهم قد اختل في نجد، فأرسلوا المشير أحمد فيضي باشا للمفاوضات مع الملك عبدالعزيز في عنيزة، الذي لم يصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، ولم يكمل مفاوضاته لظروف سفره إلى اليمن، وكلّف صدقي باشا ليقوم بتلك المهمة وليحل المشاكل.

تولى صدقى باشا قيادة الجيش التركي في الشيحية، وأقام في مكانه لا محاربًا ولا مسالمًا بل متفرجًا، ثم بدأ التفاوض لاحقًا ووصف الملك عبدالعزيز قائلًا: “وأما ابن سعود فهو دبلوماسي الصحراء، يظهر براعة في التعامل مع الغير”، ثم تم استدعاء صدقي باشا إلى بغداد في (1906)، وتسلّم المنطقة سامي باشا الفاروقي الذي قدم إلى القصيم من المدينة المنورة وبقوة عسكرية قدرها 500 عسكري، في محاولة تحسين وضع الأتراك هناك، فلما وصلها طلب اللقاء مع الملك عبد العزيز للمفاوضة.

وخلال ذلك اللقاء تفوّه حسني باشا بكلام استهجنه الملك عبدالعزيز، وغضب غضبًا شديدا منه وقال: “إني آسف على ما بدا منك بل آسف على الدولة التي تكل أمورها إلى مثلك، ما كان العرب يطيعون صاغرين ولولا إنك ضيف عندنا ما تركناك”، وحاول سامي باشا أن ينتزع اعترافًا من الملك عبدالعزيز بالسيادة التركية على القصيم وأن يكون تابعا للدولة العثمانية، فرد الملك عبدالعزيز ردًّا بقوله: “متى كان ابن سعود يقبل الرشوة أو يبيع بلاده ورعيته لأناس يريدون استرقاقها”. ومثل تلك المواقف القوية من الملك عبدالعزيز أدت إلى قذف الرعب في نفوس الأتراك وتحقيق النصر الاستراتيجي على أرض المعركة عسكريًّا ومعنويًّا على الأعداء.

  1. خالد محمد الفرج، الخبر والعيان في تاريخ نجد، تحقيق: عبد الرحمن الشقير (الرياض: مكتبة العبيكان، 2000).

 

  1. خليفة عبد الرحمن المسعود، الشنانة ودورها التاريخي عبر مراحل الحكم السعودي (الرياض: مطبعة النرجس التجارية، 2006).

 

  1. سعود بن هذلول، تاريخ ملوك آل سعود، ط2 (الرياض: مطابع المدينة، 1982).

 

  1. عبد الله العثيمين، معارك الملك عبد العزيز المشهورة لتوحيد البلاد (الرياض: مكتبة العبيكان ،1995).

 

  1. عبدالله البسام، تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2004).

 

  1. محمد بن عبدالله العبدالقادر الأنصاري، تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد، ط2 (الرياض: مكتبة المعارف، 1982).