" الملك عبد العزيز والحراك السياسي في الجزيرة العربية سنة 1916م "
في خِضَمِّ الأحداث والتطورات المتسارعة على المستوى الاقليمي والعالمي جراء اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م، التي وصلت تداعياتها منطقتنا العربية، وما تبع ذلك من تهافت الإمبراطورية العثمانية وخروجها مهزومة في الحرب، لتترك فراغًا سياسيًّا كبيرًا احتلته القوى الأوربية المنتصرة بقيادة بريطانيا وحلفائها، والواقع لم تكن الجزيرة العربية بمعزل عن تلك الأحداث والتطورات والمتغيرات السياسية، فأحكمت بريطانيا سيطرتها على المياه المحيطة بالجزيرة العربية، وأثرت على بعض القوى السياسية المحلية، بل تلاعبت بها بالوعود المعسولة، ولكنها لم تجنِ منها سوى السراب والشتات. وأمام تلك الظروف الراهنة المختلفة استطاع الملك عبد العزيز آل سعود، الرجل الذي استعادة الرياض ووحد إقليم نجد، واسترد الأحساء من الأتراك عام 1913م، استطاع التعامل بدهاء وحنكة سياسية بل فرض واقعًا سياسيًّا جديدًا في الجزيرة العربية، لقد أدرك الملك عبد العزيز أن ساحل الخليج العربي ارتبطت إماراته العربية بمعاهدات مع بريطانيا العظمى آنذاك، وهي قوة لها أهميتها قبل اندلاع الحرب وبعدها ولتأمين جانبه من سطوتها من خلال الموازنة في علاقته بها، والحقيقة التي لا مناص منها أن الملك عبد العزيز كان يفكر فيما سيكون عليه الحال بعد انتهاء الحرب الكبرى، ولذا حصل على ما لم يحصل عليه غيره من القوى المحلية في الجزيرة، وذلك من خلال حسن التصرف واختيار الموقف المتوافق مع استراتيجيته، وهي توظيف التناقضات العالمية لخدمة مصالحه الوطنية وليس العكس، لذلك نراه لزم الحياد خلال الحرب، وهاجم الأتراك في جميع أحاديثه ومجالسه، حتى أنه قال في إحدى مقولاته المشهورة : “ما من أحد يحق له أن يكره الترك أكثر مني.. ولكن لن يقال: إني طعنت دولة تحمل اسم الخلافة في محنتها..”، ولكنه لم يطلق رصاصة واحدة ضدهم بل اختار أن يحارب في جبهته الخاصة فانشغل في توحيد بقية أجزاء الجزيرة العربية خاصة أجزاء نجد الشمالية، فكانت استراتيجيته واضحة المعالم خلال الحرب وحساباته دقيقة في التعامل مع القوى المحلية والإقليمية، فلقد كان الملك عبد العزيز مستوعبا لما يدور حوله من الأوضاع السياسية في العالم، من خلال متابعة الأخبار من الجرائد ورويتر، وأدرك أيضا أن الدولة العثمانية دولة مشرفة على الانهيار، وأن القوى العظمى قد تمكنت منها في شتى النواحي الداخلية والخارجية، فهي رهان خاسر لكل من يعرف ألف باء في السياسة، وأن الدولة العثمانية مركبٌ متهاوٍ آيلٌ للغرق والسقوط، فالبقاء فيه وهو على تلك الحالة نوع من العبث والهلاك، فكان حياده رغم المحاولات البريطانية لأن يعمل لمصلحتها إلا أنه لم يلتفت إلى ذلك وانشغل بالتركيز على هدفه الرئيس، توحيد أراضيه الدولة السعودية، ولم ينظر إلى تلك المحاولات العثمانية التي كانت مهمتها إثارة العاطفة الدينية وتجييش الشعوب معها وإن كان قد انخدع بها الكثير. كما أدركت بريطانيا أن الملك عبد العزيز رجلُ الجزيرة الأقوى والأجدر بالتعامل معه مقارنة بالآخرين الذين إما خدعتهم بريطانيا أو أرهبتهم، بينما نجد أن الملك عبد العزيز تعامل بدهاء وذكاء فاق تصورهم، حتى المعاهدات التي وقَّوعها معه كان هو من يفرض فيها رأيه ويغيرها بما فيه مصلحة هدفة الرئيس، الوطن بالدرجة الأولى، والحفاظ على سلامة أراضيه، وبسياسة متأنية، واستراتيجية حقيقية تحسب ألف حساب للعواقب قبل وقوعها، ولاستكمال ما بدأه في مشروعه الوطني الكبير دون أن يفقد مكتسباته التي حققها على أرض الواقع وبهذه السياسة والاستراتيجية سار الملك عبد العزيز إلى توحيد بقية أجزاء الجزيرة العربية، وتأسيس دولة قوية الأركان، فتحقق حلمه بالأمن والأمان والاستقرار وحسن الجوار مع المحيط العربي والعالمي، فنهض الملك عبد العزيز لمرحلة مهمة، ألا وهي مرحلة البناء وتأسيس الكيان العربي السعودي الكبير وحفظ مكتسباته الكبيرة.