بعد أن مرغ العرب تاريخهم
سعى الفرس إلى تحقيق الاحتراف الديني والمذهبي لتحقيق أهدافهم العرقية
اعتادت البُنى العِرقية على السقوط ضحيةً للأجندات السياسية التي ترى في العِرق حاضنة شعبية، وعاملا لتوحيد المكونات الشعبية، خاصة في ظل بيئة استراتيجية قلقة، وحدود جغرافية غير مستقرة وعقيدة توسعية ترسخ فكرة الدولة الوطنية والحدود الترابية.
في هذا السياق، نلحظ أن هنالك تراكمات تاريخية ساهمت في بلورة وتقوية “الأنا العرقي” عند الفرس وتوجيهه، لإخضاع مجموعة من المناطق التي رأى فيها الفرس امتدادهم الحيوي، كذلك مواجهة الفتح العربي الإسلامي الذي استطاع أن يخرج الفرس من ظلمة جهلهم إلى نور الهدى وهدي الإسلام.
ساهمت السلطات الفارسية في تقوية الارتباط العِرقي، ورفعه إلى درجة التقديس. وكان الفرس يرون في أنفسهم فوق الجميع ويقدمون وطنهم الأوحد ويؤمنون بأن عِرقهم الهندوأوروبي أنقى وأصفى الأعراق البشرية، وهو ما انعكس على طبيعة تعاملهم ورؤيتهم للعرب.
في هذا الصدد، يصف لنا المؤرخ الفارسي أبو بكر الصولي في كتابه أدب الكاتب بعض مظاهر الاستعلاء العرقي الفارسي فيقول: “ناظَرَ فارسي عربيًّا…فقال الفارسي ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمينا”.
وقد ساهمت السلطات الحاكمة في بلاد فارس خلال المراحل التاريخية باحتضان مجموعة من التعبيرات الدينية التي ساهمت في تقوية المعطى العرقي و”فرزه” عن باقي التعبيرات العرقية الأخرى، ورأينا من خلال التأصيلات السابقة، كيف دعمت الحكومات الفارسية “الديانات” التي كانت تنتصر للمعطى العِرقي كالزرادشتية على حساب الديانات ذات التوجه الشيوعي كالمزدكية والخرمية.
وربما يُخطئ بعض المحللين في تصوير الفرس أو إيران اليوم على أنهم كيان سياسي متأثر بمذهب إسلامي، وأسقطوا من تحليلاتهم المعطى العرقي، حين تحولت إيران إلى كيان “يحترف” الدين لتحقيق أهدافه العرقية، وهنا لا يهم أن تكون المرجعية شيعية أو بهائية أو زرادشتية، إذ إن المهم هو وحدة العِرق واستعلائه في مواجهة باقي الأعراق التي تقف أمام تحقيق أوهام التوسع والهيمنة.
إن الحقد الفارسي على كل ما هو عربي انتقل من تراكم سلوكي مجرد إلى تحُّرك مادي يهدف إلى إخضاع البلدان العربية لساسة فارس الذين لم يستسيغوا -إلى اليوم- كيف نجح العرب في إذلال ملك كسرى وإنهاء حكمه، وهنا نجد أحد الباحثين يؤكد على هذا الطرح بالقول: “إن حقد الفرس على العرب له سبب آخر بالإضافة إلى هزائمهم النكراء، ففي ثقافتهم أن العنصر الفارسي هو السيد وأما العربي فلا يصلح إلا أن يكون عبدًا وتابعًا، وفجأة يُطيح العربي التاج عن رأس كسرى ويفتت إمبراطوريته، ويذل قادتهم وكبراءهم، ويمرغ أنوفهم في الوحل”.
تحول الحقد الفارسي من مجرد تراكم سلوكي إلى تحُّرك يهدف إلى سياسة إخضاع وتدمير البلدان العربية.
ساهمت التراكمات العقدية في تصلُّب النزعة العرقية للفرس ورسختها الفتوحات الإسلامية، التي حركتها الدوافع الدينية بعيدًا عن كل نزعة عنصرية تتعارض، بالضرورة مع الهدي النبوي الشريف الذي اعتبر التعصب للعرق أو اللون أو اللسان من مخلفات الجاهلية الأولى التي قطع معها الإسلام، وحذر من الوقوع في براثنها.
من هذا المنطلق، شكّلت ملاحم ذي قار، والقادسية، والجسر، ونهاوند محطات تاريخية ساهمت في إسقاط عرش ساسان وإنهاء عهد إمبراطوريتهم، كما أن الملاحم العربية مع الفرس شكلت منعطفًا تاريخيًّا في طريق “أدلجة” الحقد الفارسي على كل ما هو عربي، وهو الحقد الذي تلقفته أيدي بعض من يُحسبون على المذهبية، والذين عملوا على “عرقنة المذهب” وتحويله إلى مذهب ديني جديد في خدمة الأجندة الفارسية ولو ادعوا -كذبًا- انتصارهم لأيِّ مُعطى ديني.
آثار الحقد الفارسي ظلت لقرون باقية تتمدد، من ذلك ما دعا أحد الوجوه الإيرانية البارزة وهو الأستاذ في جامعة طهران صادق زيبا، إلى أن يعبر عن هذه الحقيقة بالقول: “نحن لم ننسَ بعد هزيمتنا أمام العرب في القادسية، ففي أعماقنا حقد تجاه العرب، وكأنه نار تحت الرماد تتحول إلى لهيب كلما سنحت الفرصة”.
وإذا كان الحقد عند تروتسكي يبقى من أهم معاول الصراع الطبقي، فإن الحقد عند الفرس قد ارتفع إلى مستوى المحرك الوجودي للحرب ضد العرب والعمل على إسقاط منهجهم الديني الأصيل، وهو الهدف الذي لا يمكن أن يتحقق -حسب زعمهم- إلا بإسقاط مركز ثقل العالم العربي والإسلامي.
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- محمد الصولي، أدب الكاتب (القاهرة: المطبعة السلفية، 1341ه).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).