الملك العربي الذي اقترف أكبر خطأ تاريخي
سيف بن ذي يزن طرد الأحباش وجلب الفرس إلى اليمن
تباينت الآراء التاريخية حول شخصية الملك العربي سيف بن ذي يزن (عاش: 516-574م) الذي صيغت حوله مجموعة من القصص والأساطير التي بالغت في وصفه وقدراته. لكنه في مجمل الرأي سعى إلىى التحرر من الأحباش في اليمن خلال النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، حيث كانت اليمن ترزح لسنوات طويلة تحت حكم الأحباش، الذين حاولوا تهديد مكة على يدي أبرهة الحبشي قبل ظهور الإسلام.
بعض المرويات التاريخية، ومنها مرويات لابن كثير في البداية والنهاية؛ تقول أن جد الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب عاصر بن ذي يزن، وأن عبدالمطلب زار سيف بن ذي يزن في قصره بصنعاء، وجاءت هذه الزيارة باعتبار أن عبدالمطلب من زعامات قريش كان يقود رحلة التجارة إلى اليمن والشام، ومنها ما كان لليمن حيث التقى سيف بن ذي يزن.
الكثيرون يصورون سيف بن ذي يزن بصورة المحرر لأرض اليمن من الأحباش، واستعان بالفرس في طردهم، وبذلك نزع سيف الحبش وغرس سيف الفرس في خاصرة اليمن. وفي تعليقٍ للعراقي عبد الرافع جاسم في كتابه “الغزو الحبشي لليمن” بصدد سبب احتلال الأحباش اليمن بأنه جاء بأمر الإمبراطورية البيزنطية، ردًا على ما قام به الملك اليماني ذو نوس الذي اضطهد النصارى في دياره، وجاءت حملة الأحباش انتقامًا من ذي نواس، ولكن في خلفيات تلك الحمية النصرانية.
لكن التاريخ لا يكتفي بنظرة أحادية للبحث في مسببات الأحداث، فرغم أن ذا نواس فعل ما فعله مع النصارى الذين ترعاهم بيزنطة عن طريق الأحباش في اليمن، إلا أن أهم الأسباب الحقيقية وراء الاحتلال الحبشي والدعم البيزنطي كانت للسيطرة على خطوط الملاحة والتجارة في العالم القديم، إذ كانت اليمن شريانًا رئيسًا فيها عبر طريق البخور، وبذلك جنى الأحباش ومن ورائهم بيزنطة أموالاً طائلة.
وفي مداولة وتكرار للأحداث التاريخية منذ فجر التاريخ إلى يومنا الحالي؛ فإن الجزيرة العربية واليمن تعد هدفًا استراتيجيًا لإمبراطوريات العالم القديم والحديث، وكانت المحاولات للاختراق من اليمن دائمة، فقديمًا الغزو والاحتلال الحبشي البيزنطي تلاه غزو فارسي بعد سنوات قليلة في زمن سيف بن ذي يزن، الذي استعان بالفرس ضد الأحباش وبيزنطة، ووضع الفرس حاكمًا فارسيًا من خلف الستار، وكأن التاريخ يتكرر والزمان يعيد نفسه والقصص يجري تطبيقها من زمنٍ إلى آخر.
يؤكد المصري محمد بيومي مهران في كتابه “الاحتلال الحبشي لليمن” أن المؤرخين يقدمون عدة أسباب لغزو الحبشة لليمن، منها الرغبة في السيطرة على اليمن لضمان توزيع البضائع الحبشية، دون أن تتعرض لاعتداءات الحميريين، ومنها عداوة الحبش للعرب القديمة، التي نشأت منذ أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة ويبيعونهم أرقاء في بلاد العرب، حيث وجد الحبش في الحجاز، ومنها أن بلاد العرب الجنوبية كانت تقوم في ذلك الوقت بهذا الدور المستفز للأحباش.
وتبقى الأهداف الاستراتيجية في مقدمة أسباب الصراع، ولعل أهمية مضيق باب المندب كانت المحرك الرئيس، وفي زمن الإمبراطورية الرومانية الشرقية حرصت على انتزاع مكانة اليمن وإعطائها لمصر، ومختلف الولايات الرومانية الشرقية الأخرى، التي تستطيع الإفادة من مركزها الجغرافي، وخاصة فإن النصرانية كانت قد استقرت في كثير من الولايات الرومانية الشرقية. ومن هنا بدأ الرومان يفكرون في استغلال الدين لضم بلاد العرب الجنوبية إلى إمبراطوريتهم، فعمدوا إلى إرسال البعثات التبشيرية، لنشر النصرانية بين الحاضرة والبادية العربية في اليمن، ولتهيئة الأفكار والنفوس لقبول النفوذ الروماني من جهة أخرى، ومن ثم فلم يكن تعذيب ذي نواس للنصارى في نجران، هو السبب الحقيقي للغزو الحبشي في اليمن، ودليلنا على ذلك أن المصادر الإغريقية -بل والحبشية نفسها- إنما تذهب إلى أن الأحباش قد أغاروا على اليمن قبل قصة التعذيب هذه بسنين، وأنهم قد انتصروا على “ذي نواس” وألجَؤُوه إلى الجبال إلا أنه استطاع بعد فترة أن ينجح في لم شمل جنده، وأن يهاجم الأحباش وينتصر عليهم، وأن يغير على نجران، ثم ينتقم من أهلها شر انتقام، بل إن تدخل الأحباش في شؤون اليمن ومحاولة غزوها، قد بدأ منذ القرن الرابع الميلادي.
كانت الأوضاع في اليمن متردية جدًا في عهد الاحتلال الحبشي، فقد فرض أبرهة الحبشي ومن جاء بعده أسلوبًا قمعيًّا أدى إلى انتشار الفقر والتردي الاجتماعي في اليمن، فعصفت الحاجة بالأهالي بعد تغير خطوط الملاحة وانفراد الأحباش بالمال والإقطاعيات، ذلك الأمر هيأ الفرصة للثورات التي كانت تقوم الواحدة تلو الأخرى، حتى جاءت اللحظة التاريخية بالغلطة التي اقترفها سيف بن ذي يزن، حين جلب الفرس إلى أرضه.
قام سيف بن ذي يزن بعدة تحركات لعله يتخلص من الأحباش ومن احتلالهم لبلاده، فذهب بدايةً إلى الحيرة وإلى بيزنطة، لكنه فشل في إقناعهم بمساندته، وكيف يسانده البيزنطيون وهم حلفاء الأحباش، ثم اتجه إلى الفرس لعله يجد عندهم المساندة، لا سيما أن الفرس كانوا القوة الموازية لقوة بيزنطة في الشرق، حتى أن كسرى الذي تردد طويلاً قال لسيف بن ذي يزن: “بعدت بلادك عنا وقل خيرها، والمسلك إليها وعر، ولست أغرر بجيشي”. إلا أن كسرى في نهاية الأمر، كما يقول محمد بيومي مهران استشار وزراءه في الأمر، وتمت الموافقة على مساعدة سيف بن ذي يزن، ربما تحقيقًا لحلم فارس في السيطرة على طريق التجارة عبر البحر الأحمر، فضلاً عن القضاء على النفوذ البيزنطي -السياسي والاقتصادي والديني- في اليمن.
أصر كسرى على أن تكون الحملة على اليمن من نزلاء السجون الفارسية وليس من الجيش، وأن تكون تحت قيادة الضابط الفارسي “وهريز”، وأن يتزوج الفرس من نساء اليمن، وألا يتزوج اليمنيون من الفارسيات، فضلا عن ضريبة سنوية يحملها سيف بن ذي يزن إلى فارس، وهكذا وجدت فارس في طلب يهود العرب ووثنييهم مؤازرتها ضد الدولة النصرانية، وسيلة للتوسع في بلاد العرب.
تردت أوضاع اليمن الاقتصادية والاجتماعية تحت حكم الأحباش فثار الناس حتى ظهر بينهم سيف بن ذي يزن
كان سيف بن ذي يزن يعلم ماذا سيواجه، لذلك أعد العدّة جيدًا لقتال الزعيم الحبشي مسروق بن أبرهة، الذي قاد جيشًا قوامه مائة ألف، وما أن وصل سيف ومعه الدعم الفارسي حتى انضم إليه الكثير من اليمنيين الذين فاض بهم الكيل من الاحتلال الحبشي لبلادهم، لكنهم لم يعلموا حينها أنهم استبدلوا احتلالاً حبشيًا باحتلالًا فارسيًّا آخر وإن كان من وراء ستار، فالفرس هذا دأبهم يحكمون من خلال حلفائهم، كما في العراق واليمن ولبنان اليوم.
واجه القائد الحبشي “مسروق” ومعه مائة ألف من جنود الحبشة وحلفائه من حمير والأعراب، سيف بن ذي يزن وجيشه المشكل من الفرس واليمنيين، إلا أن المعركة الكبرى سرعان ما انتهت باندحار جيش الأحباش وحلفائهم، ولقى “مسروق” حتفه فيها، ودخل سيف بن ذي يزن، وحليفه القائد الفارسي “وهريز” صنعاء مهللين بالنصر، لكنه نصر منقوص إذ أثبتت الأيام فيما بعد أن الفرس حين دخلوا اليمن لم يعتزموا الخروج منها إلا بالدماء.
نجح اليمنيون في تحرير بلادهم من الاستعمار الحبشي، وقنع الفرس -على ما يبدو- بإقامة حكم وطني في اليمن يدين بالتبعية لهم، ومن ثم أصبح سيف بن ذي يزن، ملكًا على اليمن، في حوالي عام (575م)، ويؤكد مؤرخون أن حكمه لم يشمل أنحاء اليمن، بل حكمها قادة فرس منذ حوالي عام (598م)، وبذلك استبدل اليمنيون احتلالاً باحتلال.
- إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، تحقيق: محيي الدين ديب، ط2 (بيروت: دار ابن كثير، 2010).
- خالد حساني، “الاحتلال الحبشي لليمن”، مجلة سر من رأى، ع. 33 (2013).
- عبدالرافع جاسم، الغزو الحبشي لليمن (بغداد: مركز البحوث والدراسات التربوية، 2009).
- علي الأشبط، الأحباش في تاريخ اليمن القديم (صنعاء: جامعة صنعاء، 2010).
- محمد بيومي مهران، دراسات في تاريخ العرب القديم، ط2 (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، د.ت).
سيف بن ذي يزن بعد أن أجرم في حق اليمن:
"استبدلنا أسيادًا بأسياد وسيحكمنا الفرس كما حكمنا الأحباش"
إن سرد الأحداث التاريخية ليس هدفًا أساسًا بقدر ما يُستخدم لفهمِ التاريخ؛ لأن الفهم التاريخي يبلور النظريات الاستراتيجية انطلاقًا من تحليل التجارب التاريخية، من خلال رصد المواجهات العسكرية وتحليل سيكولوجيا القادة والشعوب. ويبقى فهم التاريخ مقدمة لتوقع التعبيرات السياسية للدول ورسم استراتيجيات قادرة على الدفاع والحفاظ على مصالح الوطن والأمة في ظل بيئة استراتيجية معقدة ومركبة وغامضة.
ومن خلال استعراض العلاقة العربية الفارسية، فإن من يعتمد أو يرتكن إلى الفرس من العرب سيكتشف أنه يستنزف قواه من دون أي مردود لصالحهم، فالفرس منذ فجر التاريخ يعملون بسياسة توسعية واستعمارية تجاه الجغرافيا العربية، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه بعض ملوك العرب في التاريخ القديم، إذ لم يستفيدوا من معرفتهم بتاريخ الفرس القريب لهم ومجازرهم في حق العرب، خاصة في عهد سابور الأول والثاني (ذي الأكتاف).
وباستعراض تاريخ سيف بن ذي يزن (516-574م) يجب فهم التاريخ، وإعادة تشكيل مربعات الصورة، باعتبارها مقدمة لفهم البنية السلوكية العرقية والاستعلائية للفرس، التي تشكلت على مدى قرون من المواجهة الوجودية (من وجهة نظر فارسية) مع العرب.
لقد عاشت اليمن خلال القرن السادس الميلادي على وقع صراع على السلطة بين العرب بقيادة سيف بن ذي يزن والنصارى الأحباش، وزاد من التطاحن حقد سيف على الأحباش، خاصة بعد أن علم أن أبرهةأبرهة الحبشي حَبَس أمه وأخذها من يد أبيه أبي مرة ذي يزن، وهو ما لم يكن يعلمه سيف الذي تربى في بيت عدو والده وعدو قومه.
بعد سنوات، استطاع سيف بن ذي يزن أن يكتشف الحقيقة، وأن القائد الحبشي أخذ أمه من والده اغتصابًا، وعلم أن أباه من أشراف حِميَر وسادتها، لكن سيف لم يستفد من دروس التاريخ ويعتبر من قصة والده مع الفرس، حيث أخبرته والدته كيف أن ملك الحيرة انطلق بأبيه إلى كسرى، فناشده أن يعينه على أبرهةأبرهة والأحباش، فوعده ملك الفرس الوعود، ولكنه ماطله حتى مات حزينًا مقهورًا، خاصة عندما قال له كسرى “أكره أن أغامر بجيش في موامي الأثل والسدر”.
أدرك سيف بن ذي يزن أنه وقع في فخ الفرس الذين قرروا حُكم العرب بعد انتصارهم على الأحباش
قراءة المشهد السياسي العام تقطع بأن سيف بن ذي يزن لم يكن ليغفل عن غدر الفرس، ولذلك اتجه في بادئ الأمر نحو الروم بعدما قدّر أن الظروف الداخلية مواتية لقلب حكم مسروق بن الأشرم أبرهة، وحول هذه النقطة يخبرنا الطبري بأن سيفًا خرج “قاصدًا ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصرة أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يُحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعًا إلى كسرى”.
كان هامش التحرك ضيقًا أمام سيف، فاضطر إلى المناورة واللجوء إلى الفرس لمساعدته على استرجاع ملك أجداده ليناورهم بعدها بالارتكان إلى عصبيته العربية، حتى لا يغدر به الفرس كما فعلوا بأبيه، على اعتبار أن سيف بن ذي يزن لم يكن ذلك الخب الذي قد تخفى عليه ألاعيب الفرس، إلا أن ما كان يمتلكه هؤلاء من أدوات ووسائل (بالمفهوم الاستراتيجي) يتجاوز ما كان يمتلكه بن ذي يزن.
ودون الرجوع إلى حيثيات اعتراض بن ذي يزن لموكب كسرى، وطلبه تنفيذ العهد الذي قطعه لوالده، فإن كسرى استمع إلى نصيحة مستشاره “الموبذان” الذي نصحه بإرسال المغضوب عليهم من السجناء مع بن ذي يزن “فإن أصابوا ظفراً كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم”. ويبدو أن قائد جند كسرى “وهرز” كان رجل حرب وميدان، لذلك تغلب على جيش الأحباش الذي تجاوز عدده المائة ألف مقاتل، حيث اختار “وهرز” استهداف مركز ثقل “العدو” وهو زعيم الأحباش “مسروق” وقتله مع بداية المعركة، ليكون ذلك إيذانًا بانتصار جيش كسرى والعرب.
لكن الفرس لم يكونوا ليتركوا اليمن بين يدي سيف بن ذي يزن، رغم إقرارهم بملكه العربي، لذلك اشترطوا مجموعة من الشروط جعلتهم حكامًا فعليين لليمن، وهو ما جعل بن ذي يزن يقول لعبدالمطلب بن هاشم “اصغ إلي أيها الشيخ…لقد طردنا الأحباش ويخيل إلي أننا استبدلنا أسياداً بأسياد، وسيحكمنا الفرس كما حكمنا الأحباش”.
إن أخبار ما قبل الإسلام يصعب التحقق من صدقيتها، إلا أن الروايات التي تحدثت عن نبوءة سيف بن ذي يزن على أن العرب لن يُعَزُّوا إلا على “يد جديدة” ستخرج من رحم بني هاشم، وهي التي ستُعز وسيعز الله بها العرب قد صدفت وصدقت…ولو بعد حين.
- جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).
- رئيف خوري، مع العرب…في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
- محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبوفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1968).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- هاري يارغر، الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2011).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).
سيناريو تاريخي مكرر في المشهد السياسي المعاصر
تحوَّلت اليمن بعد اغتيال سيف بن ذي يزن إلى مستعمرة فارسية فُرضت فيها قوانين كسرى
لعبت منطقة جنوب الجزيرة العربية دورًا مهمًا في التاريخ القديم؛ ومنها “بلاد اليمن السعيد”، الذي قامت فيه العديد من الحضارات والدول مستفيدة من المناخ الجيد، والأمطار وقيام الزراعة على مدرجات الجبال، هذا فضلاً عن التجارة عبر البحر الأحمر، وبحر العرب.
وكانت دولة حمير من أهم الدول في اليمن حتى القرن السادس الميلادي، حيث طمعت الحبشة في ثروات اليمن، وأراد حاكمها السيطرة على اليمن ليتمكن من إحكام قبضته على جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، ليفرض سيطرته على طرق التجارة الدولية الجنوبية، مدعومًا من البيزنطيين.
عبر الأحباش البحر واستطاعوا السيطرة على اليمن، وقضوا على دولة حمير. وتحكي المصادر التاريخية عن وحشية القائد الحبشي أبرهة، وكيف لجأ إلى بناء كنيسة كبرى في صنعاء، ويقال إنه أراد أن تكون هذه الكنيسة هي كعبة العرب بديلاً عن الكعبة المشرفة في مكة المكرمة.
ويرى بعض المؤرخين أنه كان تحالف دولي بين إمبراطورية الروم الشرقية ومملكة الحبشة من أجل السيطرة على جنوب الجزيرة العربية. ويذكر هؤلاء أن إمبراطور البيزنطيين جستنيان أيَّد الأحباش في حملتهم على اليمن.
يؤكد ذلك أن سيف بن ذي يزن الحميري عندما رفض الخضوع لسيطرة الأحباش على اليمن، التجأ في البداية إلى الروم طالبًا دعمهم لطرد الأحباش من اليمن، لكن الروم رفضوا مساعدة سيف بن ذي يزن، بحجة أن الأحباش نصارى مثلهم، ومن ثم لا يمكن نصرة سيف على الأحباش.
وهكذا اضطر سيف بن ذي يزن إلى اللجوء إلى الفرس طالبًا مساعدتهم في إخراج الأحباش من اليمن، وتَذْكُرُ المصادر تَمَنُّع كسرى فارس عن مساعدة سيف بن ذي يزن في البداية بحجة البُعد الجغرافي لليمن عن فارس، وعدم اهتمام الفرس باليمن، وهو ما يؤكد المناورة الفارسية في الأحداث التالية، فكسرى أعطى سيف بن ذي يزن بعض الأموال وطلب منه الرجوع إلى اليمن. لكن سيف بإباء وشمم العربي رفض ذلك الأمر وقام بنثر الأموال على من كان في قصر كسرى، قائلاً: “إن جبال بلادي ذهبٌ وفضةٌ”.
وتذكر المصادر التاريخية بعد ذلك موافقة كسرى على مساعدة سيف بن ذي يزن، وأنه أمده بالقائد الفارسي وهرز، وكيف سار الجميع في الخليج العربي ليصلوا إلى الجنوب ومنها إلى حضرموت؛ حيث انضم أنصار سيف بن ذي يزن إليهم، ونجح هذا الجمع بالانتصار على الأحباش وطردهم من اليمن في عام (570م).
يرى المؤرخ المصري عبد الوهاب عزام أن الفرس في حقيقة الأمر كانوا يطمحون إلى السيطرة على اليمن في إطار الصراع الدولي بينهم وبين الروم، ومن ثم كانت حملتهم إلى اليمن جزءًا من هذا الصراع لضرب الأحباش حلفاء الروم، وهكذا وقعت بلاد اليمن السعيد تحت حكم الفرس.
"بن ذي يزن" اعترف بخطئه ودفع الثمن أمام عينيه بزوال ملك آبائه لصالح الفرس.
سمح الفرس لسيف بن ذي يزن بحكم بلاد اليمن، ومن ثم عادت الدولة الحميرية من جديد، لكن تزايد التدخل الفارسي في أمور اليمن، حتى أن سيف بن ذي يزن انزعج من هذا الأمر، وحزن إذ كيف يستبدل محتلاًّ بمحتلٍ جديد؟! ويقال إنه أبدى امتعاضه من ذلك، لا سيما مع استقرار الجنود الفرس في اليمن وتزاوجهم مع بنات اليمن؛ حيث نشأت طبقة جديدة من هذه الزيجات تسمى الأبناء.
وسرعان ما تم اغتيال سيف بن ذي يزن على يد أحد حراسه، وقيل إن ذلك كان نتيجة مؤامرة فارسية لإحكام السيطرة تمامًا على بلاد اليمن، ويستدلون على ذلك بأنه من بعد اغتياله زالت دولة العرب ولم تقم لملوك حمير قائمة بعدها، وبالفعل أصبحت اليمن من ذلك الوقت ولاية فارسية يحكمها ولاة فرس، حتى دخول الإسلام إلى اليمن.
وعلى الرغم من اغتيال سيف بن ذي يزن غدرًا، فإن سيرته تحولت إلى واحدةٍ من أهم وأطول السير الشعبية العربية، وتحول سيف بن ذي يزن إلى بطل شعبي، ربما لينسى الناس أنه من أدخل الفرس إلى اليمن. وصنع الخيال العربي منه بطلاً أسطوريًّا، وأنه ملكٌ على الإنس والجن، وأوغلت الأساطير إلى أن أمه كانت من ملكات الجن.
في اللحظات الصعبة من تاريخ الأمم يُستدعى التاريخ لتفسير الحاضر، من هنا يسترجع الكاتب الصحفي فتحي محمود سيرة سيف بن ذي يزن في إطار التدخل الإيراني الحالي في اليمن، واستدعاء الحوثيين للتدخل في الشأن اليمني، قائلاً: “نزل الفرس في حضرموت، وتمكنوا بمساعدة بعض اليمنيين، ومنهم سيف بن ذي يزن، من هزيمة الأحباش وطردهم، ودخلوا منتصرين إلى صنعاء. وبعد فترة وجيزة تواطأ الفرس مع بعض الأحباش وقضوا على سيف بن ذي يزن، وزالت دولة العرب من اليمن، التي تحولت إلى مملكة فارسية يتربع على عرشها وهرز الديلمي. وكأن التاريخ يعيد نفسه الآن، ويعود التدخل الإيراني في اليمن مرة أخرى، على يد بعض أبنائه، وبقوة السلاح، دون أي اعتبار للمصالح العليا اليمنية”.
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- خيري شلبي، سيرة الملك سيف بن ذي يزن (القاهرة: مكتبة الدراسات الشعبية، د.ت).
- فتحي محمود، “عودة سيف بن ذي يزن”، صحيفة الأهرام، القاهرة، السنة 139، ع. 46838، 3 مارس (2015).