بعد أن افتعل الأزمة مع ملك الحيرة
فشل كسرى الفرس في تفريق العرب أجبره على حربهم
لم يزل العرب ينظرون إلى معركة ذي قار بأهمية، خاصة في تاريخهم قبل الإسلام؛ لأنها تجسد لحظة مهمة في أيامهم وتوحد كلمتهم قبيل الإسلام. ومن المثير أن هذه المعركة لا تقل أهمية في التاريخ الفارسي، ولذلك يذكر المؤرخ الإيراني الشهير حسن بيرنيا أنه: “رغم أن العادة جرت على اعتبار معركة القادسية المعركة الأولى للعرب مع إيران في ذلك الوقت، لكن إذا أخذنا في الاعتبار نتائج المعركة، فإننا نعتبر معركة ذي قار هي أول معركة لهم مع الإيرانيين”.
ولأهمية ذي قار في التاريخ، سنحاول الإحاطة بالظروف التاريخية التي أدت إلى هذا الحدث المهم. ويرى بعض الباحثين أن هناك أسبابًا مباشرة وأخرى غير مباشرة وراء الصدام بين العرب والفرس في ذي قار. ويُرجع هؤلاء السبب المباشر إلى الخلاف الذي دب بين كسرى والنعمان بن المنذر نتيجة رفض الأخير زواج ابنته من كسرى. من هنا استدعى كسرى النعمان إلى بلاطه وغدر به وقتله. وعلم كسرى أن النعمان كان قد استودع نساءه وماله عند هانئ بن مسعود أحد أكابر العرب من بكر بن وائل. لذلك أرسل كسرى رسله إلى هانئ مهددًا إياه قائلاً: “إنما النعمان كان عاملي على الحيرة، وقد استودعك ماله وأهله، فابعث بها إليَّ، ولا تكلفني أن أبعث إليك، ولا إلى قومك بالجنود، تقتل المقاتلة، وتسبي الذرية”.
لكن هانئ بن مسعود، المُشَبَّع بروح الكرامة العربية، رفض خيانة عهده للنعمان بن المنذر، ومن ثم غضب عليه كسرى، ودقت طبول الحرب، وتصاعدت الأمور إلى حد المواجهة.
ويرى العراقي خالد الدوري أن هذا الخلاف ربما يكون السبب المباشر لمعركة ذي قار، إلا أن هناك أسبابًا غير مباشرة وراء ذلك، ربما تكون أكثر أهمية من السبب المباشر. إذ إن المسألة بدأت بسياسة النعمان بن المنذر وتوجهه نحو تزعم قبائل العرب، ومواجهة التدخل المباشر للفرس في شؤون مملكة الحيرة، حتى تحول النعمان إلى أحد الرموز العربية المهمة المناوئة للفرس، والساعية إلى لم شمل القبائل العربية، فكان لا بُد من الصدام بين العرب والفرس. ويسوق الدوري تأكيدًا بالتفاف الشعراء العرب حول النعمان بن المنذر، حتى أن النابغة الذبياني قال في مكانة النعمان:
وعلى الجانب الآخر نهج كسرى سياسة عنصرية تجاه العرب، ومما يذكر عنه أنه قال في هجاء العرب: “لم أَرَ للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم، ولا قوة”. إضافةً إلى أن كسرى طبق سياسة فرق تسد؛ إذ عمل على الاستعانة ببعض العرب على العرب، لذلك عرض تاج مملكة الحيرة على أحدهم وهو يقول له: “هل تستطيع أن تكفيني العرب؟”.
ويرى البعض أن غرض كسرى لم يكن الاستيلاء على نساء النعمان وماله المودعين عند هانئ بن مسعود فحسب، وإنما كان همه الأكبر الاستيلاء على الأسلحة التي أودعها النعمان لدى هانئ، حيث أرسل النعمان قبل وفاته إليه مئات الدروع والأقواس. ويبدو أن هذه القوة بدأت تقلق الفرس، فأصبحت حاجتهم ملحة لتجريد العرب من السلاح، لإبقائهم بحالة ضعف دائم، حتى يسهل السيطرة عليهم.
من هنا حشد كسرى جيوشه لإرسالها إلى جزيرة العرب، من أجل إخضاع القبائل العربية التي رفضت الوصاية الفارسية. ويقدر المؤرخ الإيراني حسن بيرنيا عدد الجيش بحوالي أربعين ألف رجل من الفرس والعرب المتعاونين معهم. كما صاحب هذا الجيش عدد من الفيلة من أجل هدم حصون العرب، وبث الرعب في قلوبهم.
وعلى الجانب الآخر استنهض هانئ بن مسعود الحمية العربية ضد الفرس؛ إذ بدأت قبائل بكر بن وائل تُغير على سواد العراق، في رسالة موجهة إلى كسرى، ببيان قوة العرب وشأنهم، وتحديهم للهيمنة الفارسية.
كما جرت مراسلات عديدة بين قبائل بكر المنتشرة في أرجاء الجزيرة العربية. فجاءت الوفود من بني بكر في البحرين واليمامة، كذلك طلب الأسرى من بني تميم عند بني شيبان أن يقاتلوا معهم. واجتمعت كلمة العرب واتفقوا على محاربة جيوش كسرى عند ذي قار، هذه الموقعة التي أصبحت خالدة في الذاكرة العربية، وموضوعًا مهمًّا في دواوين الشعر العربي .
لم تزل "ذي قار" موضوعًا مهمًّا في ذاكرة الشعر العربي ودواوينه.
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- خالد الدوري، المقاومة العربية للنفوذ الساساني في الحيرة من 226م إلى موقعة ذي قار، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة تكريت (2003).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).
- جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).
معركة ذي قار
دروس عربية في "فن" الاستراتيجية العسكرية
ليس الغرض من دراسة تاريخ المعارك الكبرى إعادة اجترار ما كُتب في مؤلفات التاريخ، أو تنميقها بعبارات وكلمات توجد على قارعة الطريق، وإنما الهدف هو استقراء الأحداث وفهم البواعث واستخلاص الدروس. ولعل العودة إلى كتابات كارل فون كلاوزفيتز أو هنري دي جوميني تفيد بأن رسم النظريات الاستراتيجية جاء نتاجًا لتحليل عشرات المعارك والحروب، ومن ثم استخلاص ما أطلق عليه بـــ “فن الحرب”.
يعدُّ تحليل معركة ذي قار مقدمة للوصول إلى مجموعة من الخلاصات التي أغفلها معظم من تناول هذه المواجهة العربية-الفارسية. وهو التقصير الذي يُسأل عنه الباحثون العرب، خاصة ممن ادعوا التحليل الأمني والاستراتيجي. ولعل الاطلاع على مجموعة من المدارس الاستراتيجية (ليدل هارت) يقطع بأن العرب لجأوا إلى تطبيق مجموعة من التكتيكات الحربية التي لن يُأَصَّل لها إلى قرون طويلة بعد ذلك (نظرية مركز الثقل، نظرية الالتفاف، نظرية تفضيل الحرب الدفاعية على الحرب الهجومية…).
وقبل تفكيك المعركة من الناحية الاستراتيجية، نعيد تناول أبرز محطاتها، حسبما تواتر من الروايات التاريخية ومن ثم تحليلها حسب مفاهيم “فن الحرب” الحالية. وهنا تلتقي السرديات بخصوص معركة ذي قار حول وقوف “الجانبين متقابلين، وخرج “أسوار” فارسي يتحدى العرب للبراز، فلم يلبث طويلا حثى انبرى له فارس عربي طعنه فدقّ صلبه، فاغتاظ الهامرز وخرج بنفسه يدعو إلى البراز، فانبرى له عربي هو الحوفزان، فألقاه صريعاً”.
إن بدايات المعركة تحيل على خطأين استراتيجيين وقع فيهما الفرس. الأول مرتبط بعدم الاستفادة من التفوق العددي الكبير الذي كان سيرجح كفة الفرس إذا ما كانت المواجهة كلاسيكية مباشرة، أما الخطأ الثاني فمرتبط بسقوط مركز ثقل الجيش الفارسي ممثلاً في الهامرز وهو ما شكل ضربة قوية لمعنويات العدو الذي سيحارب دون رأس الجيش.
اللجوء إلى المواجهات الفردية تكون عادة في صالح الجيش الأقل عددًا، وهذا الخطأ سقط فيه بعد ذلك كفار قريش في مواجهة المسلمين في معركة بدر الشهيرة، التي تعد الميلاد الفعلي لدولة الإسلام. ولا نعلم، فيما اطلعنا عليه من معارك، عن انهزام جيش استطاع الفوز في المواجهات الفردية كما جرت عادة الحروب في المنطقة.
تفادي المواجهة المباشرة وسقوط رؤوس الجيش الفارسي من الأخطاء الاستراتيجية التي وقع فيها جيش كسرى في "ذي قار".
فكان لاندحار الفرس في المواجهات الفردية آثار عكسية على تماسك وحدة جيشهم، و”ذلك مما شجع العرب وفتَّ في أعضاد الفرس، حتى أن بعض العرب الذين كانوا في الجانب الفارسي هزَّهم الحنين إلى قومهم، فعزموا أن يضمُّوا صفوفهم إلى صفوفهم”.
الدراسات الاستراتيجية في الحروب والمواجهات العسكرية؛ أسقطت من تحليلاتها، عن قصد أو غير قصد، المواجهات التي كان العرب أحد أطرافها. وإذا كان أحد أشهر المنظرين الاستراتيجيين وهو البريطاني بازل ليدل هارت قد أشار إلى أهمية الهجوم من الخلف، فإن العرب في معركة ذي قار كانوا سباقين إلى تبني هذا التكتيك العسكري. وفي هذا الصدد، كان “حنظلة قد أمر جزءًا من فرسانه بقيادة يزيد بن حمَار أن يناوروا خلف صفوف الفرس ويداهموهم من ورائهم، عندما بدأ الفرسان بالهجوم على الفرس من الخلف”. هذا التكتيك العسكري المرتبط بالهجوم من الخلف طرحه ليدل هارت في كتابه “الاستراتيجية وتاريخها في العالم”، حيث يقول: “والجيش كالرجل لا يستطيع الدفاع بصورة فعالة ضد ضربة تأتيه من الخلف، دون أن يستدير ليستخدم أسلحته ضد هذا المهاجم و”عملية الاستدارة” تجعل الجيش يفقد توازنه، وتضعه في وضع قلق بعض الوقت، وهكذا فالمخ يكون أكثر تأثرًا بكل خطر قادم من وراء الظهر”.
لقد أثبت العرب دهاءً منقطع النظير حين لجأوا إلى تكتيك الالتفاف والهجوم من الخلف، وهي التكتيكات التي تناولها جميع من نظروا إلى الحروب والمواجهة لقرون طويلة. وهنا يضيف ليدل هارت: “وتهدف حركة الالتفاف حول مجنبة العدو أو نحو مؤخرة الجيش إلى تحاشي كل مقاومة خلال تنفيذ الحركة وبعد انتهائها، وهذه الحركة تسلك “أقل السبل مقاومة”.
إن معركة ذي قار لا يمكن اختزالها في الدروس الاستراتيجية التي يمكن استخلاصها من هذه المواجهة التاريخية (كيف يمكن لجيش قليل العدد الانتصار على جيش كبير العدد، مراكز ثقل العدو، الهجوم على المؤخرة، وقطع خطوط الإمداد…)، وإنما يمكن اعتبارها منعطفًا حاسمًا في تاريخ المواجهات العربية الفارسية، حيث وَثَق العرب في قدرتهم على إخضاع العدو الفارسي، واقتنعوا بأن الحرب التي يضطر إليها أصحاب الحق تنتهي بفوزهم وهزيمة أهل الاستعلاء والباطل. ومنذ ذي قار لم تقم للفرس قائمة إلى أن أخضع عمر بن الخطاب إمبراطوريتهم بأكملها، ومن ثم إسقاط العرش الساساني.
- حسن الجاف، تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008م).
- السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).
- رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
- ليدل هارت، الاستراتيجية وتاريخها في العالم، ط4 (بيروت: دار الطليعة للطباعة، 2000).
- محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مطابع دار المعارف، 1968).
- نينا فكتور، العرب على حدود بيزنطة وإيران (موسكو: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1964).
في لحظات "ذي قار" التاريخية
أثبت العرب أن البداوةَ خيار...وأن الكرامة أصلٌ ثابتٌ يحكي قصة انتصاراتهم على أهل الحضارة
تُعد معركة ذي قار بين العرب والفرس إحدى أهم المعارك الفاصلة في التاريخ العربي؛ إذ إنها أسست لما بعدها، ومهَّدت للانتصارات العربية بعد ذلك التي أنهت دولة الأكاسرة في معركة القادسية بعد الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه 15هـ (636م)، إذ انكسر بعدها الفرس قبالة العرب وانكسرت شوكتهم حتى اليوم، منذ أكثر من 1400 عام من تاريخ الانتصار العربي.
يلخص “توفيق برو” في كتابه تاريخ العرب القديم تلك المعركة العظيمة قائلاً: “إن لهذه المعركة أهمية عظيمة من حيث مظاهرها القومية، فقد جرؤ العرب -لأول مرة في التاريخ- على لقاء الفرس في معركة سافرة، فقويت معنوياتهم. ومع أن عددًا من القبائل العربية كانت في جانب الفرس، غير أن شعورهم كان مع العرب، وقد دل على ذلك خذلان بني إياد للجيش الفارسي في اللحظة الحاسمة من المعركة، وتضامن بنو سكون وبعض بني تميم مع بكر وشيبان”.
وعلى إثر خذلان الفرس في يوم ذي قار، أُقْصِيَ إياس بن قبيصة عن حكم الحيرة، إذ عده الفرس مسؤولاً عن الهزيمة؛ كونه القائد الأعلى للجيش المحارب فيها. ويظهر أنه قد هرب من وجههم، كما تقول الرواية العربية، إذ انفصل عن المعركة عندما أدرك الخسارة التي لحقت جيشه، وذهب إلى كسرى، وأخبره أن النصر للفرس فيها، خوفًا من أن يخلع كتفه كما فعل بمن أتاه قبل ذلك بأخبار مشؤومة عنها ولاذ بالفرار، فحكم الفرس الحيرة حكما مباشرًا.
يتفق أغلب المؤرخين على أن “ذي قار” معركة فاصلة بين حدود العرب والفرس ليس جغرافيًّا فقط، بل أيضا في العلاقة التاريخية والثقافية، بين أمتين هيمن الفرس فيها على العرب ابتداءً بالاحتلال والغطرسة والإذلال، ولم يتخيل الفرس بإمبراطوريتهم وملكهم أن يأتي من تلك الصحاري البدوية في الجزيرة العربية، من يمرغ أنوفهم ويكسر هيبتهم.
نشبت ذي قار في الحدود الفاصلة بين شمال الجزيرة العربية وجنوبي العراق، وتوصف بأنها أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم، وهم في تلك المرحلة التاريخية الفرس والروم.
وبأسباب أحالت حديثًا عابرًا عن جمال العربيات من قريبات النعمان بن المنذر في مجلس كسرى بن هرمز إلى معركةٍ كبرى، حين كان كسرى جالسًا على عرشه وفي حضرته العربي زيد بن عدي، الذي غدر النعمان بأبيه وحبسه ثم قتله، حيث قال زيد لكسرى: أيها الملك العزيز إن خادمك النعمان بن المنذر عنده من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. فأرسل كسرى زيداً إلى النعمان ومعه مرافق لهذه المهمة، فلما دخلا على النعمان قالا له: إن كسرى أراد لنفسه ولبعض أولاده نساءً من العرب، فأراد كرامتك، وهذه هي الصفات التي يشترطها في الزوجات. فقال له النعمان: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟ يا زيد سلّم على كسرى، قل له: إن النعمان لم يجد فيمن يعرفهن هذه الصفات، وبلغه عذري. ووصل زيد إلى كسرى فأوغر صدره، وقال له: إن النعمان يقول لك: ستجد في بقر العراق من يكفينك.
فقد كسرى صوابه من رد النعمان، لكنه سكت؛ حتى يأمن النعمان ردَّة فعله، ثم أرسل إلى النعمان يستقدمه، فعرف النعمان أنه مقتول لا محالة، فحمل أسلحته وذهب إلى بادية بني شيبان حيث لجأ إلى سيدهم هانئ بن مسعود الشيباني، وأودع عنده نسوته ودروعه وسلاحه، وذهب إلى كسرى، فمنعه من الدخول إليه وأهانه، وأرسل إليه من ألقى القبض عليه، وبعث به إلى سجن كان له، فلم يزل به حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه. وقيل إنه قتله بأن وضعه تحت أرجل الفيلة، وغيرها من الروايات التي تقضي بأن كسرى قتل النعمان.
أقام كسرى على الحيرة مَلِكاً جديداً هو إياس بن قبيصة الطائي، وكلَّفه أن يتصل بهانئ بن مسعود ويحضر ما عنده من نساء النعمان وسلاحه وعتاده، فلما تلقى هانئ خطاب كسرى رفض تسليم الأمانات، فخيَّره كسرى إما أن يعطي ما بيده، أو أن يرحل عن دياره، أو أن يحارب، فاختار الحرب، وبدأ يعد جيشاً من بكر بن وائل ومن بني شيبان ومن عجل ويشكر والنمر بن قاسط وبني ذهل.
وأخذ كسرى يستعد للمعركة التي ظن أنها سهلة هينة، فجمع أعدادًا من الفرس ومن قبائل العرب الموالية له، خصوصاً قبيلة إياد، ووجههم ليجتاحوا “هانئاً” وحلفاءه ويحضروه صاغراً إلى كسرى.
وفي تفاصيل المعركة يظهر كيف أن دهاء البدوي استطاع أن يهزم مكر الفارسي، إذ أرسلت قبيلة إياد التي قدمت مع كسرى وجنوده إلى هانئ قائلين: نحن قدمنا إلى قتالك مرغمين، فهل نحضر إليك ونفرّ من جيش كسرى؟ فقال لهم: بل قاتلوا مع جنود كسرى، واصمدوا إلينا أولاً، ثم انهزموا في الصحراء، وإذ ذاك ننقض على جيش كسرى ونمزقهم، وهذا ما حصل وكان سببًا في نصر ذي قار وهزيمة الفرس.
قدم الجيش الفارسي وحلفاؤهم من إياد فوجدوا جيش هانئ قد اعتصم بصحراء لا ماء فيها ولا شجر، وقد استقى هانئ لجيشه من الماء ما يكفيهم، فبدأ الفرس يتأثرون من قلة الماء والعطش، ثم انقضوا على جيش هانئ لإنهاء المعركة المنتظرة، وبينما هم في المعركة انهزمت قبيلة إياد أمام الجيش العربي لينكشف الفرس في العراء لوحدهم، وينقض الجيش العربي عليهم ويبيدهم عن آخِرِهم.
لم تنته المعركة بهزيمة جيش الفرس، فقد كانت المعركة الأخرى داخل إيوان كسرى، فمن يجرؤ على إبلاغ الملك المغرور بهزيمة جيشه من الأعراب الذين استصغرهم، وأراد التمتع بنسائهم، بل طلب منهم أن يرسلوا محارمهم إليه؛ لأنه سمع بجمالهن، لقد كانت هذه نهاية حتمية لحقبة تاريخية فاصلة، ولم تكن بين ملكين فحسب، بل بين أمتين إحداهما تعالت واغترَّت، والأخرى وهي العربية عرفت إمكاناتها ووظفتها لصالحها وانتصرت في معركة كبرى رغم كبر جيش العدو وخِبراته واستعداداته.
ومن ساحات “ذي قار” بدت الحقيقة المرة والتعامل معها هناك في قصر كسرى، فكيف يتقبل هو ومن معه الهزيمة النكراء. كان إياس بن قبيصة أول من أتى كسرى بعد الهزيمة وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا عذبه، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر، فقال: هزمنا بكر بن وائل، فأتيناك بنسائهم، فأعجب بذلك كسرى وأمر له بكسوة، لكن إياساً استأذنه وقال: إن أخي مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه، وإنما أراد أن يهرب منه، فأذن له كسرى، فترك فرسه “الحمامة”، ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة، فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: نعم، إياس، فقال: “ثكلت إياسًا أمه”، وظن أنه قد حدثه بالخبر، فدخل عليه فحدثه بهزيمة جيشه وقتلهم، فأمر به وعذب وقطعت يديه بسبب ذلك الخبر.
حينها علم كسرى أن أمة العرب أقوى بكثير من أن تُستضعف في التاريخ المبكر من مرحلة بداوتها الأولى قبل الإسلام، وأنها حين اختارت أن تعيش البداوة وقسوة الصحاري، فهذا لا يعني أنها أمةٌ سهلة، من الممكن أن تُهان أو يَستبد ملك أو أمة أخرى بها، أو يتعرض أحد لمحارمها ونسائها كما حاول “كسرى”، وما تخلى حلفاؤه العرب عنه في ساحة معركة ذي قار إلا تأكيدًا على أنه ارتكب حماقة كبرى بتعرضه للنساء العربيات، وهو ما دفع الجميع إلى محاربته وإلحاق أول هزيمة في التاريخ العربي الفارسي بجيش كسرى، وكانت تلك هي الفاتحة للمعركة الأسطورية بين الجيش الإسلامي وجيش كسرى أنوشروان في معركة القادسية التي خرجت بعدها فارس من تاريخ الأمم والإمبراطوريات إلى الأبد.
غاب عن كسرى أن العرب -وإن بُث بينهم الشقاق والفرقة- في اللحظات الحاسمة تعود حميتهم وقوتهم.
- توفيق برو، تاريخ العرب القديم (بيروت: دار الفكر، 2002).
- حسن الجاف، تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008م).
- السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).
- رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).