في يومٍ للشجاعة والكرامة
ذابت هيبة كسرى الفرس تحت رمال الصحراء العربية
لم يكن ليتخيل “كسرى” فارس المزهو بعرشه وإيوانه أن يأتي أولئك الأعراب من أواسط الصحراء مُلْحِقِين به وبجيشه هزيمة مريرة، بل هي فضيحة تاريخية لا يزال يتردد صداها حتى يومنا الحالي، وبالعودة إلى تلك الحقبة التاريخية والمقارنة بين الأمتين العربية والفارسية، سنجد أن العرب لم يتجاوزوا في خبراتهم الحضارية وإمكاناتهم العسكرية حدود صحرائهم القاحلة بلا موارد ولا حد أدنى من مقومات الحياة، بينما عاش الفرس على موارد هائلة بسبب مجاورتهم الأنهار والبحار.
في دراسة تاريخية أعدها عبد المنان شفيق بعنوان “معركة ذي قار دراسة تاريخية تحليلية”، يقول عن أسباب الانتصار العربي في معركة غير متكافئة: يحار القارئ حينما يدرس هذه المعركة ويعلم أن العرب البدو استطاعوا بالفعل هزيمة الدولة الساسانية في هذه المعركة، وتصيبه الدهشة والذهول حينما يعرف أن فارس كانت أعظم دولة آنـذاك، وكانت قد بسطت نفوذها على منطقة شاسعة من الأراضي، وكانت في أوج عزها وقوتها في عصر كسرى أبرويز الذي هزم الدولة البيزنطية، وقام بفتوحات واسعة، وأطلق على نفسه لقب أبرويـز بمعنى المظفر، في المقابل كان العـرب خائفين من القوة الفارسية حينها، وكانوا منهزمين نفسيًّا، وكانوا يعتقدون أنهم منهزمون لا محالة، ولا أَدَلُّ على ذلك من قول هانئ بن قبيصة الذي أشار في بداية الأمر على قومه بالفرار والنجاة بالنفس إلى الفلاة، وكما يدل على هذا طواف النعمان بن المنذر في القبائل العربية طلبًا للجوار، ولم يكن أحد يقبل أن يجيره، حتى قالت له قبيلة طي: لولا صهرك لقتلناك فإنه لا حاجة بنا إلى معاداة كسرى ولا طاقة لنا به، ويبدو من هذا أن العرب كانوا منهزمين نفسيًّا وكانوا خائفين من بطش كسرى وجيشه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد بين الطرفين بونًا شاسعًا في العدة والعتاد، وأن هنـاك جيشًا نظاميًّا يقابله جيش غير نظامي، ورغم هذه الظروف القاسية غير الملائمة، والتفاوت الكـبير استطاع الطرف الأضعف تحقيق النصر الرائع وهزيمة الفرس هزيمة منكرة، فهذا يعني أن هذا النصر لم يأت عن فراغ ولا عشوائيًّا، بل هناك تخطيط وتفكير وأسباب وعوامل قادت العـرب إلى النصـر وأدت إلى هزيمة الفرس، أهمها سببان:
- التخطيط والاستراتيجية الحربية الفائقة التي قام بها العرب قبل بداية المعركة وفي أثنائها، منها: توزيع أسلحة النعمان بن المنذر، وتعجيلهم بلقاء الفرس، وقيامهم بقطع الطرق، ووضعهم كمينًا للفرس، واستقاؤهم الماء لمدة نصف شهر، والتحريض والتشجيع والقيادة المُثْلى وغيرها مـن التخطيطات الأخرى التي ساعدت العرب كثيرًا في كسب المعركة وهزيمة الفرس. ولا شك أن الفرس أيضًا قاموا بالتخطيط ووضعوا الاستراتيجية اللازمة، ولكن فاقتهم العـرب من هذه الناحية في هذه المعركة.
- قاتل العرب في هذه المعركة بحماسة فائقة النظير واستماتوا في القتال خاصة بعد ما عرفوا أن مصيرهم الموت في جميع الأحوال، لأنهم إذا تركوا ولاذوا بالفرار إلى الفلاة ماتوا جوعاً وعطشاً. وإذا سلموا أمرهم إلى الفرس قتلوا وسُبِيَت نساؤهم وذراريهم، فأيقنوا أن موت الكرامة والشجاعة والعز في ميدان القتـال أحسن وأفضل بكثير من موت الذل والهوان والصَّغَار والتيه، ومن هنا استمدوا قوتهم ودافعوا عـن أنفسهم دفاع الاستبسال ونجحوا في المعركة.
في المقابل كان الفرس على يقين من النصر على العرب، لكنهم انهزموا؛ لأن المعركة لم تكن بالنسبة لهم مصـيرية حاسمة، لذا لم يبذلوا ما بذله العرب ولم يقاتلوا عن حماسة، ومن ثم خسروا المعركة.
أعلت “ذي قار” مكانة العرب، وهزَّت عرش الفرس ونفوذهم، وتصف الباحثة رهف سلام في بحث منشور لها عن الآثار التي خَلَّفتها هذه الحرب، قائلة: إنها جعلت حدود الدولة الساسانية التابعة لكسرى هدفًا لهجوم القبائل العربية، كما أنّ هذا الانتصار رفع المعنويات العربية وكسر هيبة الفرس في نظرهم.
لم يتقبل كسرى أبرويز خسارة المعركة فاستشاط غضبًا وقام من فوره بتحميل غيره الخسارة، ولم يكن غير العربي إياس بن قبيصة حاكم الحيرة الذي عزله من فوره، إذ عده الفرس مسؤولاً عن الهزيمة، لكونه القائد الأعلى للجيش المحارب فيها، لكن إياسًا هرب من وجهه، كما تقول الرواية العربية، إذ انفصل عن المعركة عندما أدرك الخسارة التي لحقت جيشه، وذهب إلى كسرى، وأخبره بدهائه أن النصر للفرس فيها، خوفًا من أن يخلع كتفه كما فعل بمن أتاه قبل ذلك بأخبار مشؤومة عنها ولاذ بالفرار.
كان إياس بن قبيصة يعلم أنه سيكون أول ضحايا الهزيمة التي تكبدها كسرى، لذلك سارع إليه قبل أن يصل إليه أحد قائلاً: “لقد هزمنا بكر بن وائل ومن حالفهم وأَتيناك بنسائهم”، فابتهج كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس لزيارة أخيه قيس بن قبيصة الذي ادعى أنه كان مريضًا بعين التمر، فأذن له كسرى، فلاذ بالفرار، ثم وفد رجل من أهل الحيرة على كسرى وهو بالخورنق، بعدما علم أن إياسًا قد سبقه إلى الملك، فظن أنه أخبره بهزيمة الفرس، فدخل عليه وتحدث معه حول هزيمة الفرس وانكسارهم وأسرهم، فأمر بقتله في الحال، وبعد ذلك أصبحت الحيرة تحت الحكم المباشر للفرس بعزل إياس الذي خدع كسرى.
على إثر ذلك حكم الفرس الحيرة حكمًا مباشرًا وعُيِّن عليها الفارسي آزاذبه بن ماهان، إلا أنه لم يتمكن من بسط نفوذ الفرس الذين اهتزت مكانتهم بعد الهزيمة، ولم يتمكن من إعادة الثقة التي كانت بين المناذرة والأكاسرة، ولا من تحسين العلاقة التي ساءت بين العرب والفرس، فتمردت بكر بن وائل التي استقلت بالبحرين فتبعتها قبائل أواسط الجزيرة العربية. مما اضطر الفرس أن يعيدوا حكم الحيرة إلى أحد أبناء النعمان وهو المنذر المغرور في محاولة لعودة الأوضاع إلى ما قبل المعركة.
لم يستطع الفرس استعادة هيبتهم الإمبراطورية عند العرب بعد ذي قار.
لم يستطع كسرى أن يعيد هيبة الفرس التي اكتسبوها بحكمهم الغاشم، وتفننهم في تعذيب مخالفيهم، والبطش والتنكيل بهم، بل مطاردتهم وخلع اكتافهم، لقد ذابت تلك الهيبة المزعومة تحت كثبان الرمال وأصبحت تذروها رياح الشجاعة العربية. ولأن الشعر ديوان العرب، ومرجعهم التاريخي فقد وثَّق الأعشى في معلقته نتائج تلك المعركة مفتخرًا بها:
- توفيق برو، تاريخ العرب القديم، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1996).
- جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).
- خالد الدوري، المقاومة العربية للنفوذ الساساني في الحيرة من 226م إلى موقعة ذي قار، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة تكريت (2003).
- عبدالمنان شفيق، معركة ذي قار دراسة تاريخية تحليلية (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، د.ت).
- عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).