رغم الخيانة
"المُشقَّر" ثاني انتصارات العرب المذلَّة للفرس
في تاريخ العرب والفرس حكايات وقصص وتجارب لا تنتهي، وبالرغم من أن القوة لم تكن متكافئة، وتميل الكِفَّة غالبًا إلى الفرس، إلا أن العرب لم يتركوا فرصة للانتقام وأخذ الثأر إلا فعلوها، أيام ومعارك يدور معظمها حول تجاوزات الفرس ورغبتهم المستميتة في تطويع العرب واحتلالهم وإذلالهم، إنها عقدة نقص مستمرة منذ معركة “الصفقة” الشهيرة بين العرب والفرس، والتي تسمى بـ “يوم المشقر”، إذ دارت في هذا اليوم رحى معركة كبرى، حتى صار من أشهر أيام العرب في الجاهلية.
في ساعة الصفر يكرر العرب التفافهم يوم "الصفقة" كما فعلوا يوم ذي قار.
وبالرغم من ضعف إمكانات البدوي ابن الجزيرة العربية، إلا أنه لم يستسلم لأي محاولة احتلال، لقد كان اعتزازه بنفسه وأصوله وأرضه يفوق الوصف، وتؤكد الباحثة آمال كبير في وصفها للعربي الذي اجتاحته فكرة الانتصار على ظروفه وعدم الاستسلام: “لقد تحولت أيام العرب إلى ملاحم أسطورية”.
وما حدث في قصر المُشقَّر يعد يومًا من تلك الأيام الخالدة في ذاكرة العرب، وملحمة حقيقية، والقصر يُعد من أشهر أبنية العصر الجاهلي، وهو حصن هجر الأشهر. يقع الحصن في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية في الأحساء، وتحديدًا شرقي مدينة الهفوف في قرية تعرف باسم قرية القارة. بُني الحصن فوق تل المشقر المعروف عند أهل المنطقة باسم رأس القارة وتنبع فيه عين هجر المعروفة الآن باسم عين الخسيف، ليست هناك آثار ظاهرة للحصن إذ اندثر بناؤه على مر الزمن، لكن هناك شواهد ودلالات على وجوده بنى عليها الباحث عبدالخالق الجنبي نظريته في تحديد مكان المشقر. وسمي الحصن بالمشقر لشقرته، ولأنه طلي بصبغ أحمر من مشاقر الرمال وهو نوع من الرمل الأحمر عرف بصلابته وقوته، واختلف المؤرخون فيمن بنى الحصن الأحمر العجيب، إلا أن هناك روايات تشير إلى من قام ببناء القصر والحصن تدور حول بني عبد القيس إلا أن أشعارهم تدل على أنهم وفدوا إلى المنطقة بعد بناء المشقر، كذلك قال بعضهم أنها قبيلة كندة، وقيل قبيلة طسم العربية. ويعد القول الأخير هو أرجح الآراء لتواتر الشواهد التاريخية، ومن ذلك سجل ابن سلام بأن قبيلة طسم سكنت قبل بني عبدالقيس وكندة، وهي التي أقامت هذا البناء وكانت تبني القصور الشامخة.
وحول أحداث يوم المُشقَّر، فبسبب طريق القوافل القادمة من بلاد فارس مارةً بالحواضر في الجزيرة العربية، حيث كان لكسرى أنو شروان سطوة على سوق “المشقر”، وكان قد بعث إلى عامله باليمن – كما تقول الروايات- بعيرًا، وكانت عير كسرى يحميها المقاتلون من المدائن حتى تدفع إلى النعمان بن المنذر بالحيرة، والنعمان يحميها من بني ربيعة حتى تدفع إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، فيحميها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، ثم تدفع إلى بني تميم، وتجعل لهم جعالة – أي مكافأة – فيسيرون بها إلى أن تبلغ اليمن، وتسلم إلى عمال كسرى باليمن.
وفي بحث نشرته صحيفة الشرق الأوسط روت عن الدكتور عفيف عبد الرحمن في كتابه «الشعر وأيام العرب في العصر الجاهلي» قوله: “يوم المشقر ويُعرف بيوم الصفقة، كان بين تميم وعامل الفرس في اليمن، وفيه أن باذام عامل كسرى باليمن بعث إلى كسرى قافلة تحمل ثيابًا ومسكًا، فاعترض القافلة بنو حنظلة بن يربوع وقتلوا حراسها، في مكان يسمى حَـرَض”.
ذهب المستفيدون من جعالة حماية القوافل من العرب بعد الهزيمة التي ألحقها بنو تميم بقافلة الفرس إلى الأساورة الذين أطلقهم بنو تميم – وكانوا قد سُلبوا – فكسوهم وحملوهم، ثم انطلق بعض هؤلاء العرب إلى كسرى، ودخلوا عليه واتفقوا معه على أن يقاتلوا تميم. إلا أن العرب نبهوا كسرى إلى أن هذه الأرض لا تطيقها أساورته، وهي منيعة عن الغزو، فاقترحوا منع الميرة عن تميم، حتى يسوء حالهم.
ووفق الخطة التي وضعها بعض العرب لكسرى، أنه حين تسوء الحال على تميم، وأن يُرْسَل جند كسرى معهم إلى سوق المُشقَّر، وبهذا يستطيع الانتقام وذبح كل من يرد من بني تميم إلى السوق. فعل كسرى ما نصحه به المتحالفون معه من العرب، وحبس الميرة في سنة مجدبة، ثم أرسل إليهم ألفاً من الأساورة بقيادة رجل يقال له المكعبر، فساروا حتى نزلوا المشقّر، وأقاموا سوقاً لتأتي تمتم وتمتار من هذا السوق وتشتري حاجتها بعد جدب.
وفي خيانةٍ لتميم من قبل الفرس ومن حالفهم، انتقم كسرى منهم بعد أن أغلق باب الحصن بعد دخول تميم أفواجًا من المتسوقين وأصحاب الحاجات من باب المشقر، وأدخلوهم رجلاً رجلاً، حتى يُذهب به إلى قائد الفرس “المكعبر” فتُضْرَبُ عنقه، بعد أن يُجَرَّدَ من سلاحه قبل أن يدخل.
وخلال ذلك نظر رجل من بني تميم اسمه خيبرى بن عبادة إلى قومه يدخلون ولا يخرجون، فقال: ويلكم! أين عقولكم؟ فوالله ما بعد السلب إلا القتل، وتناول سيفاً، وضرب سلسلة كانت على باب المشقر، فقطعها وقطع يد رجل كان واقفاً بجانبها، فانفتح الباب، فإذا الناس يقتلون، فثارت بنو تميم، ودخلوا الحصن ودارت معركة هزم فيها الفرس.
ولم يتقاتل مع الفرس تميم فقط، بل اشترك معهم العرب الذين جاؤوا يكتالون من السوق، وقاتلوا مع تميم حتى هزموا الفرس وأحلافهم من العرب. لذلك يُعَدُّ يومًا من أقسى الأيام وأصعبها على العرب في الجاهلية.
- إبراهيم شمس الدين، مجموع أيام العرب في الجاهلية والإسلام (بيروت: منشورات بيضون، 2002).
- حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).
- عبدالخالق الجنبي، هجر وقصباتها الثلاث (بيروت: دار المحجة البيضاء، 2004).
- ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، تحقيق: محمد العريان، ط2 (القاهرة: مطبعة الاستقامة، 1953).
- عفيف عبدالرحمن، الشعر وأيام العرب في العصر الجاهلي (حائل: دار الأندلس، 1984).