ناصر خسرو نموذجًا
اجتهد الفرس في الترويج لمصنفات وكتابات عرقيَّة حاولت التقليل من العرب
مرت الأجندة الفارسية ضد العرب منذ فترةٍ مبكرة بمراحل وتحوُّلات، حيث انتقلت من مسرح الحروب إلى صفحات الكتب. وبذلك انتقل السلوك العدائي إلى مستوى الإنتاج الأدبي، ما يؤكد استدامة الحال النفسية العنصرية، وعقيدة الاستعلاء العرقي التي تتنافر مع المبادئ الإنسانية، وتلفُظُها الفطرة السَّوِيَّة.
في هذا السياق، اجتهد الصفويون في الترويج لمصنفات وكتابات دون غيرها، بقصد تحويل مظاهر طبيعية إلى جزء من نظرة الفرس للعرب وتكريس دونية العرق العربي، الذي أخرج الفرس من ظلمات الجهل ومدارك الجاهلية إلى الإسلام. وإذا كان المسلمون عامة قد تمرسوا على السفر والتنقل لأداء فريضة الحج أو مزاولة التجارة، ومنهم من عكف على التحصيل العلمي، فإن بعضهم استغل تنقلاته في رصد معالم البلدان وعوائد الأمصار ومقارنتها بالبيئة التي عاش فيها.
وبعض المحسوبين على الفرس، ابتعدوا عن المعطى الموضوعي وأوغلوا في الذاتية التي وجهتهم نحو رسم صورة سلبية عن العرب، واستغلالها في تكريس عقيدة عنصرية استعلائية ميزت تعامل الفرس ونظرتهم لباقي الأعراق والأجناس.
ومن ذلك كتاب “سفر نامة” لمولفه ناصر خسرو، الذي كرَّس الطابع العنصري، وهو ما دفعنا إلى إعادة النبش بين جنبات هذا المؤلَّف من أجل استكمال مربعات الصورة والمساعدة على فهم أكبر للبنية السلوكية الفارسية. ففي سنة (1047م) خرج الشاعر والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو من مدينة مرو في رحلة من أقدم وأهم الرحلات في العصور الوسطى، استغرقت سبع سنوات جال فيها ربوع إيران وانتقل منها إلى أذربيجان وأرمينية والشام وفلسطين ومصر والجزيرة العربية.
وفي خلال رحلته إلى الجزيرة العربية لم يستطع كبح نفسه في كتابةٍ عن العرب ووصف للعرب مبالغ فيه، هذا بخلاف بعض المعلومات غير الصحيحة التي دَوَّنها خلال رحلته، ومنها على سبيل المثال حديثه عن قبر أبي هريرة رضي الله عنه، الذي يدعي أنه موجود في طبريا على خلاف ما هو واقع، والذي يدس فيه نفسًا عرقيًا عن أبي هريرة، فيقول: “ويقع قبر أبي هريرة خارج المدينة ناحية القبلة. ولكن لا يستطيع أحد زيارته؛ لأن السكان هناك شيعة، فإذا ذهب أحد للزيارة تجمع عليه الأطفال وتحرشوا به وحملوا عليه وقذفوه بالحجارة”. وبخلاف أن القبر في المدينة المنورة، إلا أن القصد العميق لقول خسرو يكمن في تكريس البعد المذهبي على الطريقة الفارسية، واختيار أبي هريرة على وجه التحديد يحمل كثيرًا من المقاصد ، إذ إنه واحدٌ أكثر رواة الحديث النبوي رضي الله عنه.
في المجمل كتابة خسرو كانت تنفح بالنسق العرقي مترجِمةً النظرة الفارسية تجاه العرب، فعلى الرغم من اعترافه بكرم العرب وتعاملهم معه معاملة تفضيلية؛ ومن ذلك قول: “وأمير جدة تابع لأمير مكة، الذي هو أمير المدينة أيضًا. وقد ذهبت إلى أمير جدة فأكرم وفادتي وأعفاني مما كان يجب علي من المكس ولم يطلبه…وقد كتب إلى مكة يقول عني: هذا رجل عالم فلا يجوز أن يؤخذ شيء منه”، إلا أنه بدلاً من أن يشكر المضيف على ضيافته وحمايته انتقص من عرب حصن بني نصير بقوله: “لم يذوقوا شيئًا غير لبن الإبل طول حياتهم، إذ ليس في هذه الصحراء غير علف فاسد تأكله الجمال، وكانوا يظنون أن العالم هكذا”. وفي صياغته انتقاصٌ واضح من شأن العرب، وتلميح أقرب للتصريح يحاكي النظرة الفارسية والصورة النمطية لديهم عن العرب.
ويصف خسرو عرب الأفلاج، فيقول: “وكان العمران قاصرًا على نصف فرسخ في ميل عرضًا. وفي هذه المسافة أربع عشرة قلعة، قلعة للصوص والمفسدين والجُهَّال…ولا يأكلون إلا قليلاً من صلاة المغرب حتى صلاة المغرب التالية…والسكان هناك فقراء جدًا وبؤساء، ومع فقرهم فإنهم كل يوم في حرب وعداء وسفك دماء”. ومن الطَبَعِيِّ أن المبالغة التي جاءت في كتابة خسرو لم تكن إلا محاكاة للصورة النمطية المترسخة لدى الفرس أكثر من كونها واقعًا يصفه.
ويمكن القول بأن الصورة التي رسمها ناصر خسرو حول العرب يغلب عليها التحامل والتطاول، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن سبب هذا التحامل والتطاول. كما أن خسرو يلخص تحامله على العرب بقوله: “وعندي أن كل البدو يشبهون أهل الحسا، فلا دين لهم، ومنهم أُناس لم يمس الماء أيديهم مدة سنة…وهم لم يروا الحمامات أو الماء الجاري في حياتهم”.
وإذا ما حاولنا أن نتتبع وصف خسرو للعرب بالمجمل؛ سنجد أنه لا يخرج عن هذا الإطار العنصري المتحامل على العرق العربي، إذ لا يُفَوِّتُ فرصةً من دون أن يلمز فيها، ولا حادثةً إلا ويُحَجِّمُها ويبالغ بها، خصوصًا إن كانت تفضي إلى إظهار العرب جُهَّال متخلفين، ويتعامل مع حياة البداوة العربية على أنها معيبة، من دون أن يعي بأن العرب أنفسهم يفاخرون ببداوتهم، التي تُعدُّ أساسًا لحياة الكثيرين منهم، وإن كان لا يرى منها سوى العيش في الصحاري وشرب حليب الإبل؛ فإن ما يصعب عليه إدراكه أن هؤلاء العرب ببدوهم وحَضَرِهِم يمتلكون قيمًا وعزةً يصعب على القاموس الفارسي أن يترجمها في واقعه وحياته وتعاملاته.
العرب ببدوهم وحَضَرِهِم يمتلكون قيمًا وعزةً يصعب على القاموس الفارسي أن يترجمها في واقعه وحياته وتعاملاته.
هذه الصورة يحاول الفرس ترسيخها في الخيال الجماعي للإيرانيين، ومن ثَمَّ مواصلة حقنهم بالكراهية والاستعلاء، الذي لا يمكن تفسيره إلا في رغبة الفرس في خلق عدو افتراضي لقوميتهم، يمررون من خلاله أجنداتهم الداخلية، ويحاولون إثبات مظاهر حضارية غير واقعية للفارسية.
- رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- محمد السلمي، الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018).
- ناصر خسرو، سفر نامة، ترجمة: يحيى الخشاب، ط2 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة، 1993).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).
الشعوبية
فكر عنصري فارسي نشأ على كره العرب
تعتبر “الشعوبية” من أخطر الحركات المتطرفة في التاريخ الإسلامي، وهي حركة مناوئة للعرب في أنحاء بلاد فارس. ويُرجِع البعض أصل الكلمة إلى “شعب” بمعنى الانحياز والتعصب لدى شعب معين، وعلى وجه الخصوص الفرس، ورفض الحكم العربي، فضلاً عن الرغبة في إحياء اللغة الفارسية والديانات الوثنية القديمة.
ويعدُّ العراقي عبد العزيز الدوري أبرز من قام بدراسة ظاهرة الشعوبية في التاريخ الإسلامي. ويفسر الدوري الشعوبية بأنها: “مجمل الحركات السرية التي تتظاهر بالإسلام وتعمل على هدم السلطان العربي الإسلامي، أو الاتجاهات التي تعمل على هدم الإسلام من الداخل”. كما يشير رائد الدراسات الفارسية عبد الوهاب عزام إلى الشعوبية على أنها: “بقايا العصبية الدينية والجنسية عند الفرس”.
بدأت الحركة الشعوبية في الفترات الأخيرة من حكم الدولة الأموية؛ إذ نظر الفرس إلى الدولة الأموية على أنها تمثل حكم العرب سكان الصحراء، هؤلاء العرب الذين لم ينس الفرس المتعصبون أنهم هم الذين أسقطوا الدولة الساسانية، آخر الإمبراطوريات الفارسية. من هنا يرى البعض أن انضمام الفرس- ولا سيما أهل خراسان- للدعوة العباسية، كان بغرض إسقاط الدولة الأموية، والتسلل إلى الحكم عبر الدولة العباسية. ويستند هؤلاء المؤرخون إلى ما قاله أحد مناصري الدعوة العباسية مع أبي مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي حين ذكر أهل خراسان بماضيهم العريق، وكيف سلط الله عليهم العرب، وعندما جار العرب عليهم، واشتد ظلمهم “فسلطكم- أي أهل خراسان- الله عليهم، أي العرب، لينتقم منهم بكم”.
الشعوبية الفارسية... أسقطت الأمويين ونافحت العباسيين بإقحام الأفكار والمعتقدات والأساليب المعادية للعرب.
من هنا نظر الفرس إلى أبي مسلم الخراساني القائد الفارسي الذي ساهم في إسقاط الدولة الأموية، ولعب دورًا في الحكم في بدايات الدولة العباسية، على أنه أحد رموز القومية الفارسية، وباعث مجدها من جديد. حتى أن بعضهم اعتبره بمنزلة خليفة زرادشت، وعدَّه آخرون المنقذ الذي حل فيه بعض من الروح الإلهية.
واتسمت الحركة الشعوبية بصبغة دينية متطرفة، لا سيما من أطلق عليهم في التاريخ بـ”الغلاة”، وهؤلاء جماعة فارسية أحيت من جديد المفاهيم والعقائد المجوسية، وغلفتها بغلاف إسلامي رقيق، واستغل هؤلاء مسألة حب آل البيت، والدعوة العلوية، كغطاء ديني، للخروج على أي سلطة عربية قائمة، لا سيما دولة الخلافة. وتتعدد الفرق الدينية للغلاة، لكنهم يشتركون في الاستناد في عقائدهم إلى الزرادشتية والمزدكية والمانوية. وبعض فرق الغلاة يستندون إلى ديانة واحدة من الديانات السابقة، وبعضهم يستند إلى مزيج من أفكار كل هذه الديانات.
ولم تكتف الشعوبية ببعدها الديني، وإنما امتدت إلى مجالات الأدب في محاولة منهم لمناطحة الثقافة العربية التي كانت قد انتشرت وسادت في بلاد فارس؛ إذ عمل أنصار الشعوبية على إعادة إحياء اللغة الفارسية من جديد، والحد من استخدام العربية لغةً أدبية، والتقليل من شأنها وأهميتها، بل من شأن العرب بصفة عامة.
ومن أشهر تلك الكتابات الشعوبية المناوئة للعرب والعربية، ما كتبه علان الورَّاق الشعوبي الفارسي، فعلى الرغم من كونه أحد النساخ في بيت الحكمة في بغداد في زمن الرشيد والمأمون، إلا أنه وضع كتاب “الميدان في المثالب” قال ابن النديم بأنه: “هتك فيه العرب وأظهر مثالبها”. كما وضع عدة كتب في مثالب قريش. كما تبجح الجيهاني الشعوبي واصفًا العرب بأنهم: “يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات، ويتعاورون ويتساورون، ويتهاجون ويتفاحشون”.
وأخذت الشعوبية بُعدًا سياسيًّا، لا سيما مع نجاح الفارسي الخراساني طاهر بن الحسين في تكوين أول إمارة فارسية بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس، والتي عرفت بالدولة الطاهرية، وهي إمارة وراثية، ويصفه البعض بأنه: “خراساني متحمس لفارسيته، ولا يطمئن للعرب أو للمأمون سيده”.
كما نجد قائدًا آخر مثل الأفشين، وعلى الرغم أنه مسلم، يحتفظ بالكتب الدينية الفارسية القديمة، ويقال إنه لم يَخْتَتِن على عادة الذكور من المسلمين، وكان شديد الكره للعرب.
ووصل الأمر إلى ذروته في عصر الدولة السامانية؛ إذ صدرت الفتوى بإجازة الصلاة في الإسلام باللغة الفارسية، في محاولةٍ لإضعاف انتشار العربية.
ويُنهي عبد العزيز الدوري دراسته المهمة عن الشعوبية في التاريخ الإسلامي بنتيجة مهمة مثيرة، حول استمرار الشعوبية حتى الآن فيقول: “هذا لا يعني زوال الشعوبية، خاصةً أن موادها ومقوماتها لم تزل موجودة، وهي حين تكمن إنما تنتظر الظروف المواتية لتواصل نشاطها”.
- حسين عطوان، الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الجيل، 1984).
- عبدالعزيز الدوري، الجذور التاريخية للشعوبية، ط3 (بيروت: دار الطليعة، 1981).
- عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- عبدالله السامرائي، الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية (بغداد: دار الرشيد، 1980).
- نعمة العزاوي، مقالات في أثر الشعوبية في الأدب العربي وتاريخه (بغداد: المكتبة الثقافية، 1982).
كتاب "قرنان من الصمت" عبر عن ذلك
لماذا رفض الفرس الاشتراك مع العرب في هويةٍ واحدة؟
لم يكن ظهور كتاب “قرنان من الصمت” -للفارسي عبدالحسين زرين كوب في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي- استثناءً في الأدبيات الإيرانية المعادية للعرب، بل كان امتدادًا حقيقيًّا لها، وإعلانًا صارخًا لما يدور في كواليس النخب الإيرانية، بل حتى الثقافة الشعبية التي تأصل فيها العداء على مدى قرون لكل ما هو عربي.
الكتاب اعتبر أن إيران دخلت في حالة صمت خلال القرنين الأوَّلين من الإسلام، وهو اتهام مجحف لقرنين مدحهما الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: “خير القرون قرني هذا ثم الذي يليه”. ويصفهما الفرس الكارهون لكل ما هو عربي، بأنهما القرنان اللذان تليا هزيمة الإمبراطوريّة الفارسيّة الساسانية على يد المسلمين في معركة نهاوند. ويدين عبدالحسين في كتابه تحوّل إيران نحو الإسلام، ويتهم القادة والولاة العرب بـ “قمع الثقافة الفارسيّة وتجفيف منابعها”.
كتاب “قرنان من الصمت” استثنى العصر العباسي من ذلك عندما أعلن انتهاء “عصر الصمت” مع نهاية عصر هارون الرشيد، وتغلّب الخليفة المأمون، ومناصروه من الفرس، على شقيقه الأمين، ومن ثَمَّ وصول الفرس إلى المناصب العُليا في الجيش والقصر العباسي، لتبدأ بذلك القومية الفارسية بالانبعاث من جديد؛ بل إنّ عبدالحسين زرين كوب، يجعل من الحضارة العباسية “حضارة فارسيّة بامتياز”.
ويرى كثير من الفرس أن العصر العباسي أحدث انقلابًا في مسار التاريخ لصالحهم، تلك النظرية تستند إلى نظرة سوداوية غاضبة يحاكمون فيها القرنين الأوَّلين من التاريخ الإسلامي بقسوة وعنصرية، ويصورونهما بسنوات من الصمت والعزلة سادت الثقافة الفارسية، ولم يحررها إلا وصول الخليفة العباسي المأمون إلى الحكم بعد تغلبه على أخيه الأمين، قرنان من العزلة الثقافية التي فُرِضت بالقوة على فارس كما يزعمون، بل سميت في أدبيات كثيرٍ منهم بـ “قرنان من الصمت”.
رفض الفرس الانصهار في الإسلام
لم يجد الفرس من طريقة لمقاومة الإسلام إلا الانغلاق على ثقافتهم الفارسية، والبقاء في حالة استنفار حتى يستطيعوا استعادتها بكل ما فيها من أساطير دينية وأحلام ساسانية، ولقد استطاعوا تحقيق ذلك مع بداية العصر العباسي، حين تسللوا داخل القصر وتمكنوا منه، وفي بحث منشور بصحيفة النهار اللبنانية تحت عنوان العرب والفرس بين الانصهار والصراع يؤكد محمود الزيباوي أن عبدالحسين زرين كوب في كتابه “قرنان من الصمت” يجسد التيار القومي الإيراني المتشدد والافتخار العجمي الذي يجعل من الحضارة الإسلامية حضارة فارسية فحسب. صدر هذا الكتاب في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وحصد نجاحاً جماهيريًّا واسعاً، وسعى فيه المؤلف إلى إبراز صمت إيران في خلال القرنين اللذين تَلَيَا الفتح الإسلامي لإيران، إثر هزيمة الإمبراطورية الساسانية في معركة نهاوند. ويدين الكاتب الفتحَ الإسلاميَّ لإيران، ويتَّهمُ القادة والولاة العرب بقمع الثقافة الفارسية المحلية وتجفيف منابعها. ومن جهة أخرى، يتبنى المؤلف الفارسي المقولة الاستشراقية التي تجعل من الحكم الأموي حكمًا عربيًّا، ومن الحكم العباسي حكمًا فارسيًّا، ويجعل من الحضارة العباسية حضارة فارسية بامتياز.
لماذا يعتبر الفرس العصر العباسي فارسيا
يرى عبدالحسين زرين أن العصر العباسي -خاصة منذ حكم المأمون- هو بداية الانعتاق من عصور الصمت التي كبَّلت الحضارة الفارسية -حسب زعمه-، لا لشيء ولكن لأن الفرس اخترقوا بنية الحكم العباسي وسيطروا عليها تحت نظر الخليفة المأمون وسمعه واستطاعوا التمدد والتغلغل في مرافق الدولة بعد ذلك، يقول خالد بشير في بحث نشر له في موقع حفريات: على مستوى الحراك الفكري والأدبيّ، شهدت المرحلة الجديدة بروز التيار المعروف بـ “الشعوبية”، وهو التيّار الذي حاول المجادلة والتفنيد لمقولة أفضلية العرب، التي اعتبرت ردّ فعل على الأطروحات القوميّة العربيّة التي راجت وسادت طيلة العصر الأمويّ.
اعتزت الحركة الشعوبيّة بالتراث الفارسيّ، ودعت إلى إحيائه من جديد، ورفعت شعار “أفضلية الشعوب الأخرى على العرب”؛ ردًّا على النزعة العربية التي ترى أنّ العرب “خير الأمم”، ومن الشعوبيّين من ذهب إلى أبعد من ذلك، فيتحدث الجاحظ في كتابه “البخلاء” عن طائفة من الشعوبية كانت تسمى “الآزادمرديّة”، كانوا يرون بُغضَ العرب، وأنّه لا تفضيل لهم على العجم، ويقول عنهم: “وهم الأشدّ تعصباً للفرس”.
صورة العربي عند الفارسي
تقول جويا بلندل سعد في كتابها “صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث” عن العرب في الأدب الفارسي: “تظهر صورة العرب بوصفها جزءًا من الإجابة عن سؤال الذات الإيرانية، حيث شكل مفهوم «الإيرانيَة» هاجسًا أدبيًّا، بل مشكلة سياسية واجتماعية انعكست في الأدب، بوصفها مشكلة البحث عن الهوية التاريخية والثقافية والقومية، فلجأ كتاب الأدب الإيراني الفارسي الحديث إلى تصوير إيران كأمة واحدة، من خلال تعريفهم للعربي بوصفه الآخر، وهو تعريف مقلوب للإيراني بوصفه الذات بمصطلحات العرق واللغة أحيانًا، وبمنظور الآخر بمصطلحات الدين والتاريخ والثقافة أحياناً أخرى، وهو مسعىً شكّل جانبًا من خلق القومية الإيرانية في القرن العشرين المنصرم.
وترى المؤلفة بأن النزعة القومية الإيرانية هي قيمة ملحة في الأدب الفارسي الحديث، نلتقطها من خلال وصف التاريخ الاجتماعي واللون المحلي والعادات واللهجات وسوى ذلك. وتعني النزعة القومية الولاء والإخلاص للأمة، وحسب “شاه رخ مسكوب”، فإنه منذ مجيء الإسلام إلى إيران، تأسس الوعي القومي الإيراني على اللغة الفارسية وعلى تاريخ ما قبل الإسلام، بالنظر إلى عاملي التاريخ واللغة، وعليه تمّ تعريف إيران كأمة من خلال اللغة والتاريخ المشتركين، لكن واقع الحال يشير إلى أن إيران بلدٌ ذات تنوع إثني كبير، فهناك الفرس والكرد والعرب.
كيف وصفوا العرب؟
تضيف جويا سعد: “مع بداية الوعي القومي الحديث في إيران، سعى المفكرون العلمانيون إلى تأسيس تعريف جديد لمفهوم “الإيرانية”، بُني على ماضي ما قبل الإسلام، فصور بعضهم إيران ساسانية وأخمينية دمّر حضارتها المزدهرة البدو المتوحشون”، ويرى الإيراني ميرزا آغا كرماني في الإسلام دينًا غريبًا، فُرض على الأمة الآرية النبيلة – يقصد الإيرانيين -، من قِبَل “حفنة من آكلي السحالي، الحفاة العراة، بدو يقطنون الصحراء، إنهم العرب المتوحشون”.
التاريخ لا يكذب
علاقة العرب بفارس كانت تسير في مسارين مختلفين، العرب يتعاملون مع الفرس كجزء من الأمة الإسلامية، لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وساد ذلك مع الروم والأقباط والسند والأفغان وغيرهم من الأعراق التي اندمجت مع العرب المسلمين، مكونين أمة واحدة، لكن الفرس أو لِنَقُل بعضًا منهم بقي متألمًا متحسرًا على سقوط كِسرى وانهيار إيوانه في معركة القادسية الكبرى، وبقيت تلك الحادثة عقبة أمام اندماجهم في الأمة الكبرى، وحاول كثير من أولئك البقاء على فارسيتهم إلى اليوم.
ففي دراسة متعمقة نشرتها رابطة أدباء الشام حول صورة العربي المسلم في المناهج الدراسية الإيرانية؛ نجد أنها لا تختلف عن سياق العداء والاستعلاء الفارسي المنتشر في معظم الأدبيات – نثرًا أو شعرًا-، وفيها يجري تحميل العرب مسؤولية الفشل الحضاري الذي منيت به فارس، ليس بسبب المسلمين العرب كما يزعمون، بل لأن الحقيقة التاريخية تؤكد أن الفرس لا يملكون أدوات التحضر التي تمكنهم من بناء سمعتهم الحضارية المنفصلة عن الإسلام.
هذا الموقف الفارسي المتشدد المناهض للثقافة العربية ليس منثورًا في المناهج الدراسية فحسب، بل هو أيضًا موقف كبار الأدباء في التراث الفارسي القديم؛ فالشاهنامة -ملحمة الفردوسي الشهيرة- تنتهي صفحاتها بالتباكي بقدوم العرب المسلمين والقضاء على الدولة الساسانية واحتلالها. وقد صوَّر العرب فيها على أنهم أقل مدنيَّة من الفرس.
وعلى هذا الأساس وضع الفردوسي ملحمته التي تخلو من أي شاعرية وأسماها الشاهنامه بمعنى ملك الكتب، واضعًا جُلَّها في شتم العرب وتحقيرهم، وتمجيد الفرس وملوكهم؛ وراح العنصريون الفرس يُحَفِّظُونَ أبناءهم و يغذونهم بهذه القصائد والأشعار العدائية.
الصدام الحضاري بدأ برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى
يقول الدكتور نبيل العتوم: “لم يقبل الفرس العرب في القديم، فكيف يقبلونهم بعد أن نزلت الدعوة بين ظهرانيهم، لذا نجد أن كسرى عندما أرسل إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، استشاط غضبًا، ومزَّق كتاب رسول الله وذاك حينما استمع لأول الخطاب يذكر اسم النبي محمد، قبل اسمه، فغضب حينها وقام من فوره بتمزيق الكتاب وقال: عبدٌ حقير من رعيتي يذكر اسمه قبل اسمي”.
ولم تمض إلا سنوات قلائل حتى استطاعت جيوش المسلمين القضاء على أسطورة الدولة الفارسية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه-، ومنذ هذه الهزيمة بدأت الشعوبية الفارسية ضد العرب، وبلغت ذروتها في اغتيال أبي لؤلؤة الفارسي الخليفةَ عمر الذي وضع أساس الدولة الإسلامية (العربية)، وما زال الفرس يحجون إلى مقام أبي لؤلؤة في إيران، ويسمّونه (أبا شجاع)؛ لأنه انتقم للفرس بعد هزيمة القادسية بقتل عمر بن الخطاب.
موقف كسرى من رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أول تعبير شعوبي رفضوا به العرب استعلاءً.
ومع دخول الإسلام إلى إيران، تمسك الفرس بكل عناد بثقافتهم الفارسية ولغتهم ووضعوا قوميتهم في موازاة ديانتهم وربما فوقها وقبلها. وهو ما يكشف -بجلاء- عن ظاهرة العداء المتأصلة في بنية العقل الفارسي الإيراني ضد العرب رغم أنه كان من المفترض إنهاء هذا الصراع التاريخي بعد دخول الاثنين في كنف الدين الإسلامي كان للفتح الإسلامي لبلاد فارس أثره العميق في النفسية والعقلية الفارسية المجوسية، والذي بدوره شكل عُقدة نفسيّة مؤلمةٍ هي “المجدُ الخالد للفرس”. فالفرس حتى ذلك التاريخ كانوا يعتبرون أنفسهم سادة العالم. وارتبط في العقلية الفارسية منذ القدم الرغبة في السيطرة، بل التفرد بها، ونفوذها السياسي يسيطر على أراضي إيران، والعراق، وشرق الخليج، وبعض غربه، واليمن. وقد خلق ذلك للفرس ما يمكن تسميته بالنظرة الاستعلائية على كل الشعوب بما فيهم العرب.
والحقيقة أن الفرس ظلوا منذ اللحظة الأولى وحتى الآن يرفضون الاندماج الكامل في الهوية الإسلامية الجامعة، وسعوا -دائمًا ولا يزالون- إلى الثأر من هزيمتهم التاريخية أمام العرب، ولهذا تهافتوا بسرعة لتبنّي الدعوة الصفوية التي حولت إيران من دولة سُنِّيَّة المذهب إلى أول دولة شيعية في التاريخ الإسلامي. وقد استمر سلوكهم العدواني على مدار الزمان، بغض النظر عن طبيعة الحكم في فارس.
- جويا سعد، صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث (دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2007).
- نبيل العتوم، صورة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية (عمَّان: مركز أمية ودار عمار، 2015).
- خالد بشير، “كيف ينظر الفرس إلى العرب؟”، موقع حفريات على الرابط: https://hafryat.com
- محمود الزيباوي، “العرب والفرس بين الانصهار والصراع”، صحيفة النهار (2014) على الرابط: https://www.annahar.com