حركة الحشاشين
صورة من صور الإرهاب الفارسي في التاريخ الإسلامي
تُعَدُّ حركةُ الحشاشين من أخطر الحركات الهدَّامة في التاريخ الإسلامي؛ والحشاشون هم فرقة باطنية خرجت من عباءة الفكر الفارسي، وارتبطت بالدولة العبيدية، المسماة بالفاطمية، وإن انفصلت عنها بعد مدةٍ من ارتباطها بها، واحترفت الإرهاب السري، وأصبح الحشاشون من غلاة هذا الفكر.
أسس هذه الفرقة السرية التي أثارت الرعب في العالم لعقود طويلة “الحسن الصباح”. وتُجمع المصادر التاريخية على ميلاد “الحسن الصباح” في فارس حوالي عام (1037م)، وتوفي أيضًا في فارس حوالي (1124م)، وكانت بداياته عادية، لا تُنبئ عن تحوُّله إلى زعيم إرهابي؛ إذ بدأ مهتمًّا بالعلم والفلسفة، ويقال: إنه كان على صلة بالشاعر الفارسي الشهير عمر الخيام، غير أن الصباح كان زعيمًا لأهم جماعة سرية إرهابية تتحصن بالقلاع الشاهقة، ويهبط أتباعها للقيام بعمليات اغتيال إرهابية تَبُثُّ الرعبَ في قلوب الناس. ويصف واحدٌ من أهم مَنْ درسوا تاريخ الحشاشين وأفكارهم -وهو المستشرق الأمريكي برنارد لويس- هذه الجماعة قائلاً: “الحشاشون الإسماعيليون كانوا بحق الإرهابيين الأُوَل الذين استطاعوا تطويع الإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية”.
وتُحَدِّثُنا المصادر التاريخية عن كيفية تجنيد الحسن الصباح لأتباعه الذين أَطْلَقَ عليهم الفدائيين، وهم الذين يقومون بالعمليات الإرهابية؛ إذ يكون اختيارهم في سن صغير نسبيًّا، لتَسْهُلَ السيطرة عليهم فكريًّا ودينيًّا. وفي الوقت نفسه يتيح لصغير سن “المتطوع” السماح بتحمل التدريبات العسكرية الشاقة. كما كانوا يعلمونهم لغاتٍ مختلفة تتيح لهم التسلل إلى المواقع المستهدفة، وكأنهم من أهل هذه البلدان، ويسهل ذلك عليهم قيامهم بعملياتهم الإرهابية.
ويقال إنه كانوا يسيطرون على هؤلاء الشباب نفسيًا ومعنويًا من خلال جرعات من المخدر، ويُدْخِلُونهم الحدائق الغَنَّاء، فيتصورون أنهم في الجنة، وبعد ذلك يدفعونهم إلى القيام بالعمليات الإرهابية، مع وعدهم بأنهم إذا قُتِلوا سوف يدخلون الجنة التي عرفوها من قبل. ويرى البعض أن هذا المخدر الذي شاع استخدامه بينهم هو مخدر الحشيش، ويرى هؤلاء أن هذا هو السبب وراء التسمية التي أُطلِقَت عليهم بالحشاشين.
والحق أن هذه الفرقة الإرهابية كانت مصدر رعب للشرق والغرب معًا؛ إذ يصف القس الألماني برو كاردوس الحشاشين قائلاً: “الحشاشون الذين ينبغي أن يلعنهم الإنسان ويتفاداهم، إنهم يبيعون أنفسهم ويتعطشون للدماء البشرية، ويقتلون الأبرياء مقابل أجر، ولا يلقون اعتبارًا للحياة أو النجاة، وهم يغيرون مظهرهم كالشياطين التي تتحول إلى ملائكة”.
وفي تقرير مبعوث إلى الإمبراطور فردريك بربروسه، يرجع إلى عام (1175م)، يصف التقرير الحشاشين: “أنهم ساكني الجبال يأكلون لحم الخنزير الذي تحرمه شريعة الإسلام، ويأتون المحارم”. وعلى الجانب الإسلامي يشير البعض إلى الأثر الفارسي في نشأة جماعة الحشاشين وغيرها من الجماعات الباطنية.
كما يؤكد عبد الله عنان على الأثر الفارسي في دعوة الحشاشين فيقول: “تحرك دعاة الحشاشين بادئ ذي بدء في فارس؛ إذ يجب ألا ننسى أن فارس كانت كذلك منذ البداية”، مؤكدًا أن الحركة القومية الفارسية كانت تعتمد على الدعوة الثورية وفوراتها في تحطيم الدولة العباسية.
حرص الحشاشون على تصدير صورة لعامة الناس بأنهم “عُبَّاد الليل وفرسان النهار”، وتحدثوا كثيرًا عن ورع أتباعهم وتقواهم. ويرى بعض الباحثين أن الحشاشين دأبوا على تصدير هذه الصورة عن أنفسهم حتى يخفوا حقيقة أمرهم، لا سيما أمور دعاتهم وقادتهم. من هنا يشير البعض إلى حالة التناقض الشديد في أمور هذه الطائفة الغريبة السرية، فبينما يفرض دعاة الحشاشين على أتباعهم حالة الورع والتقوى، نجد نقيض ذلك بالنسبة لنخبة هذه الطائفة: “كبار الطائفة هم أبعد ما يكون عن ذلك؛ إذ كانوا يعلمون أن الدين ليس إلا وسيلة، ولا يؤمنون بشيء من تعاليمه، ويعتقدون أن كل الوسائل مشروعة لبلوغ المآرب الدنيوية التي يعنون بها دون سواها. إذ كان شعارهم لا حقيقة في الوجود، وكل أمر مباح”.
وفي الحقيقة أنه إذا نظرنا إلى ما قام به أتباع الحشاشين من عمليات اغتيال وإرهاب لأدركنا ذلك جليًّا؛ إذ تحول شعار الخنجر الذي يحمله الحشاشون إلى مصدر رعب في العالم، حتى انتقل اسمهم ودخل إلى اللغات الأوربية تحت اسم حشاش Assassin ليصبح مرادفًا للإرهاب. يقول برنارد لويس: “لم يحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلمة حشاش Assassin قد دخلت بأشكال مختلفة في الاستخدام الأوربي بهذا المعنى، أي القاتل المحترف المأجور”.
وفي الشرق الإسلامي تحول الحشاشون إلى معول هدم للدول الإسلامية، ولعل خير دليل على ذلك أنهم نجحوا في اغتيال اثنين من الخلفاء العباسيين، كما حاولوا اغتيال السلطان صلاح الدين الأيوبي مرتين. ولم يسلم عامة الناس من إرهابهم؛ إذ أشاعوا الرعب والإرهاب في كل مكان، بقطع الطرق والاعتداء على القرى المجاورة. كما استولوا على أموال الأهالي وأمتعتهم. وتعرضت قوافل التجارة التي تمر بجوار قلاعهم للاعتداءات المتكررة، حتى شاع أن الرجل إذا تأخر عن الرجوع إلى بيته، اعتقد أهله أنه سقط في أيدي الحشاشين، فيبدأ أهله في تقبل العزاء. ولم تسلم قوافل الحجاج من إرهاب الحشاشين؛ ففي عام (1105م) تجمعت قوافل الحجاج في ما وراء النهر وخراسان والهند ووصلت إلى نيسابور. فقام الحشاشون بالهجوم على هذه القوافل، وقتلوا مَن قتلوا، واستولوا على كل الأموال والأمتعة، إذ وُجِدَ علماء وأئمة وزهاد من بين الضحايا.
أرعبت العالم وعملت وفق تعاليم القومية الفارسية المتطرفة، ورعت القتلة المأجورين.
وإذا أجرينا تقييمًا لهذه الحركات، أو أردنا الحديث عن أثر هذا الإرهاب على العالم الإسلامي، وهل نجح إرهاب الحشاشين في نهاية الأمر، فإن آراء المؤرخين الثقات تؤكد فشلهم؛ إذ يشير عنان إلى أن هذه الحركة حاولت “هدم تعاليم الإسلام الأولى” وحاولت تمزيق “وحدة الإسلام منذ البداية” لكنها فشلت في نهاية الأمر.
كما يؤكد برنارد لويس على فشل إرهابهم فيقول: “إن الحشاشين الإسماعيليين فشلوا فشلاً ذريعًا ونهائيًا؛ إذ لم يتمكنوا من قلب النظام القائم، بل لم ينجحوا في السيطرة على مدينة كبيرة واحدة، وحتى ممتلكاتهم التي تحرسها القلاع، لم تكن أكثر من إمارات صغيرة، لم تلبث حينما جاء الوقت أن اقتحمها الغزاة”.
- برنارد لويس، الحشاشون، تعريب: محمد العزب موسى، طـ2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006.(
- أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق: عبدالرحمن بدوي (الكويت: دار الكتب، 1964).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- محمد الخُشت، حركة الحشاشين (القاهرة: مكتبة ابن سيناء، 1988).
- محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).