"من جرائم القرامطة في التاريخ الإسلامي"
لم يشهد التاريخ الإسلامي وحشية أكثر دموية، وجرائم في حق الإنسانية مثلما شهده أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والرابع الهجري/ العاشر والحادي عشر الميلادي، من خلال الحركة الباطنية الهدَّامة الخبيثة، وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ مؤسّس حركة القرامطة الباطنية هو حمدان بن الأشعث الملقّب بقِرْمِط، وأصله فارسيّ مجوسيّ، وارتبط في البداية بالمذهب الإسماعيلي، وسرعان ما انقلب عليه وأنشأ مذهبه الخاصّ به، وجعل من الكوفة سنة 277ه مركزاً له وأسماه دار الهجرة، ومن هذا المركز بدأ حمدان بإرسال دعاته الذين انتقاهم بدقّة لنشر دعوته بين جهلة الناس عامّة، وبين المجوس المتستّرين وأحفاد اليهود بصورة خاصّة، ومن أشهر دعاته أخوه مأمون، وزكرويه بن مهرويه الذي ورث عن أبيه كره الإسلام وأمل القضاء عليه، وتأسيس دولة فارسية على أنقاضه تقوم على أساس المجوسية، وكذلك كان ابن عمّ حمدان وصهره عبدان مفكّر القرامطة، وأبو الفوارس قائد تمرّدهم سنة289ه، وأبو سعيد الجنابي في البحرين، واستغلت فيها حركة القرامطة الظروف المحيطة بالدولة العباسية مع بداية ضعفها وتسلّط العسكر عليها، وانتشار الشعوبيّين في أرجائها، وهنا ركّز القرامطة دعوتهم الضالة على الفئات الضعيفة في المجتمع كالموالي والعبيد الحاقدين على أسيادهم، والفلاحين الناقمين على أصحاب المهن والأراضي، لاعتقادهم بأنّهم لا يعطونهم ما يستحقّونه لقاء كدّهم وتعبهم. ولكي يستقطبونهم ابتدعوا فكرة إشاعة المال وشيوعيّة الأراضي، وكذلك بثّوا بين الشعوبيّين الحاقدين على دولة الإسلام وعدهم بالقضاء على المسلمين. لقد استغل القرامطة الشباب والجَهَلة من الناس من خلال كسبهم لدعوتهم ببثّ الفكر المنحرف المنحل وجذبهم بالشهوات، فاستباحوا الزنى والخمر واللواط وسائر المحرّمات، وجعلوا النساء مشاعاً بينهم، وأباحوا نكاح الأقارب من أخوات وبنات وغير ذلك من فتن عظيمة، واستخدموا معهم أساليب البطش والإرهاب. ونشرت حركة القرامطة سمومها وتسلطت على الدولة العباسية وأقاليمها في الجزيرة العربية وفي العراق والشام.
وأما عن جرائمهم فلا تُعَدُّ ولا تُحصى، فبعدما جعلوا من البحرين مقرًّا لدولتهم التي فيها قويت شوكتهم، فجعلوا منها مُنْطَلَقًا لهجومهم الوحشي على تلك الأقاليم فعاثوا فيها فسادًا، ولعل من أبرز ما ذكرته المصادر التاريخية عنهم غدرهم وخياناتهم أنهم “في سنة ٢٩٤هـ تعرضوا لقوافل الحجيج أثناء عودتهم من مكة المكرمة بعد أداء المناسك فلقوا القافلة الأولى فقاتلوهم قتالاً شديدًا، فلما رأى القرامطة شدة القافلة في القتال، قال: هل فيكم نائب السلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد، فقالوا: فلسنا نريدكم، فاطمأنوا وساروا فلما ساروا، أوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم. وتعقبوا قوافل الحجيج قافلة قافلة يُعْمِلُونَ فيهم السيف، فقتلوهم عن آخرهم، وجمعوا القتلى كالتل، وأرسلوا خلف الفارين من الحجيج من يبذل لهم الأمان فعندما رجعوا قتلوهم عن آخرهم، وكان نساء القرامطة يطفن بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدد القتلى بلغ في هذه الحادثة عشرين ألفا، وهم في كل ذلك يغورون الآبار، ويفسدون ماءها بالجيف والتراب والحجارة، وبلغ ما نهبوه من الحجيج ألفي ألفي دينار”، ومثل هذا المشهد لا يصدر ممن في قلبة ذرة إيمان أو إنسانية بل لا يصدر إلا من أناس مُسِخَت قلوبهم قبل عقولهم واعتقدوا من العقيدة الباطنية ما الله به عليم.
ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة التي آذت المسلمين وفتكت بهم بل نراهم يعودون إلى نفس الأسلوب الغادر، ففي سنة ٣١٢هـ تخبرنا المصادر أن أبا طاهر القِرْمِطِيّ سار في عسكر عظيم ليلقى الحجيج في رجوعهم من مكة المكرمة فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحجاج، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد، فنهبهم، ووصل الخبر إلى باقي الحجاج، ولكن دونما فائدة فقد باغتهم القرامطة أيضًا، فأوقعوا بهم وأخذوا دوابَّهم، وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وقتلوا من قتلوا وتُرِك الباقون في أماكنهم فمات أكثرهم جوعًا وعطشا في الفيافي والصحارى .
ولعل من أقبح جرائمهم وغدرهم هجومهم على مكة المكرمة بقيادة الجنابي الفارسي؛ حيث قتلوا كلَّ من وجدوه في مكة والمسجد الحرام، سنة 317هـ، وقد ألقوا بجثث القتلى في بئر زمزم، وكان الناس يفرون ويتعلقون بأستار الكعبة، فلا يغني ذلك عنهم شيئاً؛ بل يُقْتَلُون وهم كذلك، ويُقْتَلُون في الطواف، وأبو طاهر – لعنه الله – جالس على باب الكعبة، والرجال تُصْرَعُ حوله في الشهر الحرام في المسجد الحرام في يوم التروية وهو يقول: (أنا بالله وبالله أنا * يخلقُ الخلقَ وأُفنيهم أنا) وأمر بقلع الحجر الأسود، وسرقوه وبقي عندهم في القطيف اثنين وعشرين سنة. فالتاريخ صور لنا تلك المشاهد الإجرامية المرعبة البشعة التي ارتكبها القرامطة بحق حجاج بيت الله الحرام وضيوف الرحمن. والسؤال هنا هل انتهي عهد القرامطة ودعوتهم الباطلة وفكرهم الباطني المنحرف؟ فمن ينظر إلى التاريخ بعين المعتبر، والقارئ المتبحر يؤمن بأن التاريخ لا يعيد نفسه أبدًا ولكن الأحداث تتكرر وتتشابه من قرن إلى آخر، ولعل التشابه هنا ما قامت به دولة إيران المجوسية من الاعتداء والإفساد في بيت الله الحرام لَخَيرُ دليل على ذلك التشابه، وأن الفكر القِرْمِطِيَّ الباطني لا زال يعشش في عقول أصحاب العمائم الضالة المضلة.