الشعوبية الفارسية من العصر العباسي
إلى العصر الحديث حجج واهية
قال عنها القرطبي: هي حركة «تُبغض العرب وتُفضِّل العجم»، وقال الزمخشري في أساس البلاغة: «وهم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلًا على غيرهم».
ويسمِّي الشعوبيون حركتهم “حركة التسوية” (التسوية بين حقوقهم وحقوق العرب).
وظهر التمييز بين العرب والموالي في بلاد الفرس لتعزيز فكر قومي شعوبي ضدهم، ومنها أن العرب ظهر منهم الانتصار لعرقهم، وهذه شبهةٌ الردُّ عليها من أيسر ما يكون، لا سيما وأنهم كانوا في مراحل الفتوح الإسلامية، وأن جنسهم الذي كان منه الخلفاء والأمراء والكتاب والشعراء والفقهاء، وأنهم افتخروا بجنسهم ولم يساووا بين العرب والموالي، وبخاصة من الفرس.
بدأ للشعوبية معنى جديد في التاريخ يرمي إلى التعصب لغير العرب، واعتبارهم بتاريخهم العظيم أسمى من العرب، وقاد يهود فارس هذا الاتجاه، وساعد على ذلك أن الدولة العباسية قامت بسيوف فارسية، وأن مفكري الفرس اهتموا بالتفوق في مجالات الأدب والشعر والتفسير والفكر، وذلك ضَمِن لهم التفوق في المجال السياسي والفكري، فأصبح الخلفاء يعترفون بفضلهم، وتلك سماحة الأخلاق الإسلامية، ولكنها حُجَج يستندون إليها، وأنه أصبح منهم العديد من الوزراء والأدباء والسفراء والمفسرين والمؤرخين، وبدأوا بحاضرهم وماضيهم يَعُدُّون أنفسهم أسمى من العرب، وذلك هو المعنى الذى آل إليه معنى الشعوبية، فأصبح للشعوبية معنى مزدوج هو الحطُّ من الجنس العربي، والنَّيل من الدين الإسلامي.
ووسيلتها لذلك هي التعصبُّ لرفع شأن غير العرب، وبخاصة الفرس والتفاخر بأمجادهم، ورُقِيُّ حضارتهم، وما يتبع ذلك من تصغير شأن العرب والهجوم عليهم، ووصفهم بأحقر الأوصاف.
ويصوِّر الجاحظ حركة الشعوبية وأهدافها بقوله: “إن عامة مَن ارتاب في الإسلام كانت الشعوبية أساس ارتيابهم، فلا تزال الشعوبية تنتقل بأهلها من وضع إلى وضع حتى ينسلخوا من الإسلام؛ لأنه نزل على نبي عربي، وكان العرب حمَلة لوائه عندما نزل..”.
قام محمود الغزنوي في القرن الثالث الهجري بتكليف الشاعر الشعوبي أبي القاسم الفردوسي بكتابة قصائد شعرية يمجِّد فيها تاريخ فارس وحضارتها، ويشتم فيها العرب وحضارتهم الإسلامية، ويحط من شأنهم.
وقد تعهَّد له بأن يعطيه وزن ما يكتبه ذهبًا، وعلى هذا الأساس وضع الفردوسي ملحمته، وأسماها الشاهنامه، ووضع جُلَّها في شتم العرب وتحقيرهم، وتمجيد الفرس وملوكهم.
وبعض المؤرخين يعتبِرون أول أعمال الشعوبية هو اغتيال أبي لؤلؤة الفيروزي للخليفة عمر بن الخطاب انتقامًا للدولة الساسانية التي قُهِرت في عهده.
وكان للشعوبية دور في إنشاء الفِرَق الباطنية كالقرامطة والنصيرية وغيرهم، وعُرِف عن ميول الحكام في إيران أنها شعوبية وليست شيعية!!!
وهناك من الكُتَّاب مَن يرى أن كلمة “الشعوبية” اصطلاح تاريخي نشأ في العصر العباسي الأول بتأثير ظروف تاريخية معينة حين اشتد الصراع العربي والفارسي في ظل دولة بني العباس. والكلمة منسوبة إلى الشعوب، فقد كانت تشير في البدء إلى أصحاب النزعة القائلة بأن الشعوب – جميع الشعوب – سواسية في الفضل؛ ولذلك كان يطلق أيضًا على أصحاب هذه النزعة بادئ الأمر اسم “أهل التسوية”.
لكن دعاة الشعوبية لم يقفوا عند مبدأ المساواة، بل تعدَّوه إلى وضع العرب بمرتبة أدنى، كما فعل بعض غلاة الفرس من كُتَّاب ورجال دين يتظاهرون بالإسلام، ويؤمنون بتقاليد المجوس القديمة، وهناك بعض من الأدباء مثل صادق هدايت قد جاهَروا بأفضلية الجنس الآري، وغير ذلك.
من أعمالهم المتوارثة قيامُ الشعوبيين بحركات انفصالية لتقويض الدول العربية الإسلامية، ابتداءً من الدولة العباسية، ووصولًا إلى عصرنا هذا، وتأثيرها واضح على صُعد متعدِّدة، وزرع الفتن والمندسِّين ديدن ثابت لهم، ومن تلك الحركات على سبيل المثال لا الحصر:
– حركة سنباذ التي قام بها أتباع أبي مسلم الخراساني.
– حركة إسحاق الترك الذي ادَّعى أنه نبي أرسله زرادشت.
– حركة المقنع الخراساني.
– حركة بابك الخرمي الذي أراد إحياء الديانة المجوسية، واليوم يتنازع مؤرخو إيران وتركيا حول نَسَبه، فكل جماعة تدَّعي انتسابه إليها!
ذكر الوائلي في كتابه هوية التشيع: “المجالات التي ظهرت فيها الشعوبية أهمها الأدب بقسميه الشعر والنثر، ابتداءً من أيام الأمويين حتى العصر العباسي، وظهرت في التاريخ مرويات تحط من شأن العرب وترفع من غيرهم، ومظاهر أخرى تجسَّدت في إحياء طقوس وعادات وعقائد كانت عند بعض تلك الأمم التي دخلت الإسلام، وحتى السلوك الاجتماعي عند الحكام والمواطنين في الأكل واللباس وأنماط السلوك الاجتماعي الأخرى ظهرت عليها سمات غير عربية، وكان طبيعيًّا أن يكون هناك اقتباس لو اقتصر على ذلك، ولكنه اقتباس يرافقه تحدٍّ وفخر بهذا المظهر، وحطٌّ من مظاهر العرب، وانتقاص من أنماط معيشتها وحياتها”.
لقد عمدت الدولة الصفوية إلى إضفاء طابع ديني على عناصر حركتها، وذلك المسعى لتعزيز حركة شعوبية شيعية، لكي تُضفي على الشعوبية طابعًا روحيًّا ومسحة قداسة دينية، وتنطلق من بعدها لأعمالها التخريبية.