محاولة السبي الفارسي للعراق
أكدت نوايا طمس الهوية والثقافة والتاريخ
بعد سنوات طوال منذ الثورة الخمينية سنة (1979) تم الاختراق الإيراني للعراق العربي، من خلال تلك النبتة الفارسية التي أُنشئت في العراق -كما أُنشئت في غيرها- من الميليشيات والأحزاب والمؤيدين، ممن باعوا أوطانهم إلى أعدائه، بحيث تحقَّقَت أحلام وتطلُّعات المحتل، وقد يعتقد ذلك المُخترق العربي الذي سهَّل الوجود والتأثير الفارسي بأنه انتصر انتصارًا طائفيًّا مذهبيًّا، هذا ما يعتقده للوهلة الأولى، لكنه سرعان ما يكتشف أنه فقد الكرامة والأنفة والاستقلال، في سبيل شراء الانتصار الطائفي، ولعل أكثر المنتمين لحزب الدعوة الإسلامية الذي خاض صراعًا داميًا مع النظام العراقي السابق عام (1979)، انتعشوا لبعض الوقت بانتصارهم الطائفي، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم باعوا وطنًا بكرامته وعزته وإبائه وتاريخه لصالح العدو، لكن أغلبهم لم يَعُد يُسْعِفُه الأمر إلا أن يوغل في خدمة الحزب الفارسي لضمان البقاء والدعم.
ولحزب الدعوة العراقي سجلٌّ دموي في التاريخ الحديث والمعاصر، فمنذ تأسيسه بمرجعية مذهبية موالية لإيران، وتنفيذه مجموعة من العمليات الإرهابية ضد الحكومة العراقية منذ عام (1979)؛ صدرت أحكام بالإعدام لعدد من منتسبي الحزب بالخيانة الكبرى لوطنهم وللشعب العراقي، وهرب العديد منهم وتنقلوا من سوريا إلى إيران، وجزء آخر منهم بقي في سوريا حتى سنة (2003) وسقوط النظام العراقي، حيث أصبحت بعض قيادة الحزب مسؤولة عن تنظيمات الداخل خلال فترة تواجدها في المنفى، والتي كانت تتفقد أنشطة وتشكيلات الحزب داخل العراق من حين لآخر.
ومع مرور الوقت غدت الزمرة الطائفية المقيمة في إيران أدوات مهمة تحركها الخمينية ضد العراق ونظامه، وما أن سقط النظام العراقي ووصل المحتل الأمريكي في أبريل/نيسان (2003)؛ حتى عاد أعضاء حزب الدعوة عودة المنتصر من إيران إلى العراق، وتم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، وتعيين رئيس للمجلس الوطني المؤقت، الذي انبثق منه “هيئة اجتثاث البعث”، التي شكلها الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر بين عامي (2003-2004).
شكَّلت أول حكومة عراقية منتخبة في 20 مايو/أيار (2006)، وتطلَّع رئيس حزب الدعوة الإسلامية للترشح لمنصب رئاسة الحكومة الجديدة، ولكنه جُوبِهَ بمعارضة شديدة من الكتل الوطنية الأخرى، وعندما ترشح ممثل حزب الدعوة كانت فترة ولايته قد شهدت تطورات في العلاقات العراقية الإيرانية فيما بين السنوات (2008-2014)؛ إذ سعت الحكومة الجديدة لبناء تحالف مزدوج مع إيران والولايات المتحدة، حيث حاولت إيجاد نوع من التوازن بين الوجود العسكري الأمريكي والوجود السياسي الإيراني، وعملت إيران على استغلال ذلك في مواجهة التهديدات المحلية من خصومها السياسيين، حيث عملت على تحييد التيار الصدري الشيعي المعارض لتدخلها السياسي والديني في العراق، وأوجدت بديلًا موالٍ لها من خلال المجلس الإسلامي الأعلى، وبالمقابل ساندت إيران حكومة المالكي وحشدت أصوات كافية لها من الأحزاب الشيعية لتشكيل أغلبية برلمانية راجحة.
إضافة إلى ذلك سعت إيران لإعادة بناء إرثها التاريخي في العراق، حيث أعادت ترميم المدرسة الدينية في كربلاء التي درس فيها الخميني في صباه، كما سعت للالتفاف على العقوبات الدولية، من خلال استخدام العراق كبوابة اقتصادية لها تجاه العالم، ففي عام (2013) أعلن رئيس منظمة تنمية التجارة الإيرانية (كرمنشاهي) أن العراق استقبل 72% من مجموع الصادرات الإيرانية الخارجية، وأصبح يحتل المرتبة الأولى كأكبر مستورد لصادرات إيران، في ظل تظاهرات واحتجاجات الشارع العراقي، الذي اعتبر ذلك ضمن ملفات فساد حكومة مالكي، واعتبرها العراقيون واحدةً من أسوأ المراحل التي مر بها العراق في التاريخ الحديث، بعد أن أظهرت وثائق ولجنة النزاهة ملفات كثيرة ومشينة تدين حكومة مالكي الطائفية.
ومن أبرز ملفات الفساد التي أخذت بُعدًا واسعًا ملف تسليح حكومة مالكي، حيث أخفت لجنة العقود مصير مليارات الدولارات بحجة شراء أسلحة، فيما أنه لا وجود لأي أسلحة، وتبيَّن أن العديد من تلك الأسلحة تم شراؤها بأسعار أكثر مما تستحق، وبعضها مستهلَكة أو مستخدَمة في الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن تبادُل ملايين الدولارات من الرشاوى بين مسؤولي وزارة الدفاع، وهذا ما اتَّضح فعلًا في حينها من عدم قدرة الجيش العراقي على مواجهة أسلحة تنظيم داعش خلال الهجوم الذي أدَّى إلى اجتياح الموصل وصلاح الدين سنة (2015)، ومنها ملف فساد كبير لمستشفى عسكري وهمي، صُرِف له مليار دولار، وكان مخصَّصًا لتقديم خدمات حديثة ومتطورة للعسكريين، لكن تبيَّن أنه لا وجود للمستشفى على أرض العراق، وهناك ملف الطائرات التي تم شراؤها من روسيا، وتبيَّن أنها هي الطائرات العراقية التي لم تعطها إيران الإذن بالهبوط في الحرب الأمريكية ضد العراق واضطرت للهبوط في روسيا آنذاك، فأعادت حكومة الحزب تلك الطائرات على أنها جديدة، وتم شراؤها من روسيا.
وأشد أنواع الفساد إيذاءً للشعب العراقي هي فضائح بيع البشر في القواعد العسكرية الخاصة بالحكومة العراقية آنذاك، إذ عمد المسؤولون العسكريون إلى إنشاء معتقلات في قواعدهم العسكرية، وكانوا يعتقلون الناس ثم يرجعونهم لأهلهم مقابل مبالغ مالية كبيرة، وهذا كان يمارسه أقرب العسكريين إلى رئيس الحكومة العميلة، ومن أبرز أنواع الاختراق والفساد في تلك الحكومة؛ هو اكتشاف 16 مصرفًا أهليًّا كانت تسحب الأموال من البنك المركزي العراقي بوصولات مزيَّفة بملايين الدولارات، وتُرسَل لإيران لمساعدتها على تجاوز العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها.
الإيرانيون الطائفيون.. باعوا البشر والوهم والوجع للعراق.
وبغض النظر عن تفاصيل الفساد وملفاته التي لا تُعدّ ولا تُحصى لحزب الدعوة المدعوم من إيران الخمينية في العراق؛ إلا أن هذا النتاج السياسي، والعبث بإرث وتاريخ العراق بهذه الطريقة، ومحاولة طمس هويته، وإظهاره من خلال حكومة حزبية طائفية تستمرئ الفساد، وتعتبره وضعًا عامًّا وثقافة في بلد حضارة وقيم ومبادئ كالعراق، فالرسالة الشعوبية والقومية والطائفيَّة كانت واضحة من قِبَل الفرس في العراق، حيث تعتبر العراق سبيًا فارسيًّا لم يدُم طويلًا، حتى دخل العراق حالة إفاقة من كارثة كادت تعصف به وتدمره أكثر.
- شعلان إبراهيم، “نظرية ولاية الفقيه وموقف حزب الدعوة الإسلامية منها”، مجلة الجامعة العراقية، ع.44 (2019).
- فؤاد العميدي، “حزب الدعوة الإسلامية.. تأسيسه ونشاطه السياسي والديني بين عامي 1957-1974م”، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بابل، مج26، ع2 (2019).
- صحيفة الوطن البحرينية، “من يحاسب المالكي على جرائمه من القتل على الهوية إلى الفساد المالي”، 19 يوليو (2022).
- صلاح الخرسان، “حزب الدعوة الإسلامية.. حقائق ووثائق”، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، مج27، ع2 (1999).
في تحوُّلٍ خطير في البيئة الإستراتيجية للمنطقة
بعد أن مكَّن الغرب إيران من التدخل السياسي في شؤون العراق
لم يكن ابن العلقمي في تاريخ العراق مجرد رجل عابر، بقدر ما كان فكرة لم تمت، وتكررت طويلًا، فعند كل مصيبة تضرب الأمة العربية والإسلامية ستجد خلفها أو أمامها أو حولها إيران، وعشرات من ابن العلقمي، ممن يندسُّون في قلب أي مؤامرة على الأمة العربية، لذلك فمع كل مصيبة ابحث عن متآمر، ستجد طرفًا يقودك إلى إيران.
وفي جميع الإستراتيجيات التي تروم استنزاف العالم العربي والإسلامي، أو إنهاك أنظمته وابتزازها، أو محاولة إخضاعها؛ ستجد إيران كالملقط الذي يتم تحريكه لتحقيق مشاريع الغرب في المنطقة، خاصة وأن العداء الفارسي للعرب تجاوز البُعد البراغماتي- المصلحي ليرتقي إلى مستوى العداء العقدي والوجودي لكل ما هو عربي.
في هذا السياق شكَّل التحالف الفارسي الغربي مسارًا ثابتًا في العلاقات الخارجية لإيران منذ القِدم، خصوصًا في مواجهة المسلمين العرب، وتاريخيًّا -كما يروي الطبري- كيف أن خالد بن الوليد عندما قصد العراق: “اجتمع المسلمون بالفراض، وحميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليها من مسالح فارس”، ويقصد بهم المسلحين من فارس.
ويمكن القول بأن مختلف مراحل التغلغل الإيراني في المنطقة تمت بمباركة غربية، خاصة وأن الغرب لم يَرَ في إيران ذلك العدو الوجودي الذي يخشى خطره، رغم استمراره في تبنِّي إستراتيجية توازن القوى في المنطقة من أجل تفادي استقواء طرف على الآخر، وبالتالي التحكم في مصير المنطقة من خلال إقحامها في صراعات إقليمية تزيد من إنهاكها، أيضًا من حاجتها للدعم الغربي.
إن مظاهر التحالف الإيران الغربي، الذي كان من نتائجه إلحاق بعض البلدان العربية بالنفوذ الإيراني، كثيرة ومتعددة، ويبقى أحدث تلك التحالفات ما وقع بمناسبة الحرب على العراق، ويمكن الجزم، بخصوص الحالة العراقية، بأن إيران لم تكن لتحلم بوضع اليد على عاصمة الدولة العباسية لولا المباركة الأمريكية، هذه الأخيرة قامت باستخدام الجسر الإيراني وطابورها الخامس في العراق لإسقاط حكم صدام حسين، الذي لم يتعامل مع دول الجوار بما تقتضيه حقوق وأخلاق الجيرة، وسقط بغباء كبير في الفخ الذي وضعه له الغرب، حين صدَّق المسكين بأن أمريكا يمكن أن تبارك مشاريعه التوسعية في الكويت.
الحلم الفارسي، تغيير واقع المنطقة العربية من الند للخضوع.
لقد أدى سقوط العراق إلى تحول خطير في إستراتيجية المنطقة، حين سقط جدار الصد العراقي المنيع في وجه المشاريع الفارسية، ونجحت إيران في عملية الانتشار السياسي والتغلغل المؤسساتي، وهو ما أدى إلى تحوُّل العراق إلى مجال حيوي لإيران، وانتقل مركز صناعة القرار السياسي من بغداد إلى طهران.
إن العقلية الاستعمارية الحديثة انتقلت من تبنِّي “نزعة استعمارية مباشرة” إلى “نزعة استعمارية غير مباشرة”، وأصبح التحكم في خيرات الدول مقدَّمًا على التحكم في الأرض، بالمقابل لا زال الملالي متشبِّثين بحلم إخضاع الأرض مقابل التخلي للغرب عن جزء كبير من خيرات المنطقة، وهنا التقت الغايتان؛ غاية الغرب المادية وغاية إيران التوسعية، ومن ثم كان التحالف بين الطرفين في العراق، تمهيدًا لاستهداف ما هو أوسع بكثير وأبعد من العراق.
لقد سبق لرئيس مصلحة تشخيص النظام علي هاشمي رفسنجاني أن أكَّد هذا التحالف الإيراني-الأمريكي، حين أكَّد في إحدى خطب الجمعة هذا التحالفَ في أفغانستان بقوله: “لولا الجيش الشعبي الإيراني الذي ساهم في دحر طالبان لغرقت أمريكا في المستنقع”، ومن المؤكد أن الدعم الإيراني لأمريكا لا يمكن أن يتم دون مقابل، وهو ما تؤكده الوقائع على الأرض والكتابات الأمريكية المعتمدة التي رفعت إيران إلى مستوى “المحور الجيوسياسي” الذي يجب دعمه أمام جميع المحاولات التي قد تؤدي إلى سقوطه أو انفجاره من الداخل.
في الصدد نفسه حذَّرَت المملكة العربية السعودية منذ العام (2002) من النفوذ المتزايد لإيران في المنطقة، وأكَّدت أنها تسعى إلى تغيير المعادلة السياسية من خلال بناء قاعدة إسناد متقدمة في العراق، كمقدمة لإقامة هلال شيعي ينطلق من أراضيها، ويمتد إلى العراق وسوريا ولبنان، وهو التبنِّي الإستراتيجي الذي ستُصدِّقه الأحداث بعد أقل من عِقد من هذا التاريخ، فبالمحصِّلة صدقت القراءة السعودية، وتحوَّل العراق إلى مجال حيوي للأطروحة الإيرانية، رغم المقاومة الشرسة التي يقودها المكوِّن العربي في العراق بشقَّيه السني والشيعي، ولعل حالة السخط على إيران في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن مردُّها إلى ترسُّخ القناعة لدى شعوب هذه الدول بأن “الأزمات هي الحصيلة المباشرة لطموحاتها (إيران) المنفلتة من عقالها، والهادفة إلى السيطرة على المنطقة، عبر نثر بذور الشقاقات الطائفية، وتشكيل فِرَق شيعية مسلحة قوية في المنطقة.
- أحمد حقي، طبيعة وأشكال التحالف والتعاون عبر العصور المختلفة بين إيران والغرب (عمَّان: دار عمَّار، 2013).
- أفشان إستوار، “المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية: حين تتصادم سياسات الهوية مع الإستراتيجية”، دراسة نُشرت على موقع مالكوم كير-كارنيجي بتاريخ 30 تشرين الثاني-نوفبر ( 2016).
- سيد موسوي، “إيران والغرب.. مواجهة بين السياسات”، مركز الدراسات الإستراتيجية، ع122 (2006).
- محمد العبيدي، “النظام السياسي الإيراني وتحديات العلاقة مع الغرب 1979-2008″، مجلة دراسات إقليمية، جامعة الموصل، مج6، ع17 (2010).
بمحاربةٍ لتعطيل بغداد عن الركب الحضاري
إيران عملت على التجريف الممنهج في العراق
كانت إستراتيجية “الفرس” الجديدة تقوم على استبدال الولاء للطائفة على حساب الولاء للأوطان، والترويج بين الشعوب والأقليات بأن فكرة الطائفة هي الأساس، وليس القومية والوطنية التي يتبعونها، لذلك جاءت الدعوة إلى ولاية الفقيه كملاذ يمكن أن يجتمع عليه الإيرانيون مع أقليات وشعوب وقوميات أخرى، ليأتي لاحقًا توظيف ولائهم لإيران بطريقة غير مباشرة، وتصوير إيران الملاذ الوحيد للطائفة في العالم.
اعتبر الخميني والملالي أن العراق هي درة التاج الطائفي الإيراني الذي يحلمون بتأسيسه يومًا ما، فلم تكن الطائفية التي نشروها إلا جسرًا للعبور نحو بناء الدولة القومية الفارسية، مهما اختبؤوا خلف قصص وخرافات وماورائيات، لذلك جاء التركيز على العراق أكثر من غيره؛ كونَه امتدادًا جغرافيًّا للأحواز العربية، وبقاؤه مستقلًّا يعني بالضرورة اختلال الاحتلال الإيراني للأحواز، وكذلك لكونه بوابة شرقية للعالم العربي، والسيطرة عليه تعني السيطرة على جزء مهم من ثروات العالم النفطية والمائية والزراعية، إضافة إلى أنه قاعدة متقدِّمة للسيطرة على بقية الإقليم العربي وصولًا إلى الجزيرة العربية والأماكن المقدسة فيها؛ لتحويلها إلى مزارات، وإدخال الأفكار والمعتقدات الزرادشتية إليها كما فعلت الصفوية يومًا ما.
استخدم الإيرانيون سياسة الهجوم من الخارج، واعتمدوا الجهد العسكري بما يخالف عقيدتهم التي بنوها طوال مئات السنين، بالاعتماد على مقاولين من الخارج لتنفيذ الحروب نيابةً عنهم (مثل حزب الله والحوثيين)؛ لأنهم علموا أنهم غير قادرين على اختراق الجسم العراقي الصلب من الداخل، والذي بُني على عقيدة وطنية قومية، وعمدوا على إنهاكها من الخارج في حرب طويلة دامت أكثر من ثماني سنوات خلال الحرب العراقية الإيرانية، وفي الوقت نفسه تحضير مرتزقة ومخرِّبين وعملاء؛ للدفع بهم إلى الداخل العراقي في أي لحظة سيولة سياسية أو أمنية.
لم يكن بإمكان إيران أبدًا القيام بأي نشاط داخل العراق بعد الثورة الإيرانية، وخاصة في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، لذلك عمدت طهران إلى تعديل خطتها، وبناء شبكات وتنظيمات وتيارات طائفية ومسلحة درَّبَتها على مدى سنوات داخل إيران، لهذا لم يكن اختراقًا ناعمًا كما فعلته في اليمن أو لبنان بداية الأمر، بل كان عملًا مسلحًا منظمًا بقي في الحضانة مدة عشرين عامًا، حتى العام (2003)، وإثر الاحتلال الأمريكي للعراق تم نفث السم الطائفي والميليشياوي في جسد العراق من أجل إنهاكه والقضاء عليه.
ويصف كتاب “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي” -للكاتبين وصفي عقيل، وخالد الدباس- الممارسات الإيرانية لاختراق جوارها العربي، بأنها إستراتيجية اعتمدت على تطويع مجتمع النخبة – والمقصود هنا الطبقات السياسية الحزبية – وكذلك المجتمعات، من خلال زرع الطائفية والولاء للطائفة على حساب الأوطان.
الفرس أنهكوا العراق بنَفْثِ السُّم الطائفي والميليشياوي.
تعمَّدَت إيران ألا تعترف بالعراق كدولة مستقلة، ونحن هنا لا نتحدث عن الدولة الإيرانية الحالية التي يسيطر عليها الملالي، بل عن إيران الشاه، إذن الأطماع الإيرانية في العراق وأراضيه وتاريخه الطويل هي أطماع فارسية في أساسها، مغلفة أحيانًا بالقومية الفارسية التي مثَّلها الشاه، وأحيانًا أخرى بالطائفية الصفوية، التي يمثِّلها الملالي حاليًّا.
يُكمل كتاب الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار شارحًا ذلك: “لم تعترف إيران تاريخيًّا باستقلال العراق، وبقيت العلاقات الرسمية متوترة، يغيب عنها الاعتراف بالحدود السياسية حتى عام 1975، عندما وقَّع البلدان اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود، ثم انهار هذا الاتفاق بعد قيام الحرب بينهما عام 1980، وبعد سقوط نظام حكم صدام حسين 2003 تحسَّنَت العلاقات الإيرانية العراقية في ظل الحكومة الجديدة التي غلب عليها تمثيل موالي لإيران”.
سقوط بغداد.. سقوط العراق:
لم يكن سقوط بغداد إثر الاحتلال الأمريكي (2003) مجرد احتلال لعاصمة عربية، بل كان سقوطًا مدويًا لحضارة الخلافتين الأموية والعباسية، والحضارة العربية التي تجلَّت في أزهى صورها في بغداد الرشيد وغيره من الخلفاء.
لم تكن بغداد مجرد مدينة عابرة في الوجدان العربي، بل كانت أيقونة العواصم، وأكثرها حضورًا في التاريخ والفقه والعلوم الإنسانية، ومن هنا كان الحقد الفارسي على بغداد – الحجر والبشر- طاغيًا، تَمثَّل في عشرات الآلاف من التفجيرات الإرهابية وعمليات القتل على الهوية والترويع التي مارستها الميليشيات التابعة لإيران بعد سقوط بغداد، لقد قُدِّر عدد القتلى والمشرَّدين بأكثر من مليوني إنسان، أما الانهيار الاقتصادي والتعليمي والصحي والتنموي فحدِّث ولا حرج، لقد تراجع العراق في سلم الحضارة بسبب الاحتلال الإيراني له مئات السنين، يقول الباحث معمر فيصل خولي في منشور له: “جاءت الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 كفرصة تاريخية للنظام الإيراني لتحويل علاقتها مع العراق – التي كانت سابقًا واحدة من أشد أعدائها- فقد استغلت إيران الحدود الطويلة التي يَسهُل اختراقها مع العراق وعلاقاتها طويلة المدى مع سياسيِّين عراقيين رئيسِين وأحزاب وجماعات مسلحة عراقية، فضلًا عن قوتها الناعمة المتمثلة في المجالات الاقتصادية والدينية والإعلامية لتوسيع نفوذها، وبالتالي ترسيخ مكانتها”.
ويعتبر احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق أكبر هدية إستراتيجية قُدِّمَت للنظام الإيراني للمضي في مشروعه التوسعي الذي بدأ إحكام السيطرة على العراق ليتمدد -فيما بعد- في دول المشرق العربي؛ إذ كان لهذا المشروع دوافعه وأشكاله وأدواته التأثيرية، هناك عدة دوافع أدَّت بإيران إلى الدخول كأحد الأطراف الأساسية في تطورات الساحة العراقية، من أبرزها: تحويل العراق إلى منصة انطلاق إستراتيجي للإقليم؛ إذ إن ثمة مصلحة إستراتيجية إيرانية ترى في العراق منطلقًا مهمًّا للتوغل الإيراني في باقي دول المنطقة، سواء باتجاه سوريا، أو لبنان، والأردن ودول الخليج العربي.
تصاعد التحدي الأمني للحكومة العراقية، ففي ظل عدم قدرة حكومة العراق على مواجهة “تنظيم داعش” – الذي خلَقَتْه ودعمته طهران نفسها-، استغلت إيران حاجة العراق والأوضاع التي يمر بها.
وبطبيعة السياسة الأمريكية تجاه العراق، شجَّعَت إدارة باراك أوباما الدور الإيراني على ممارسة تأثيرات في التوازنات الداخلية العراقية، فبالرغم من عدم مشاركة إيران رسميًّا في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده واشنطن، فإن الإدارة الأمريكية رحَّبَت بالدور الإيراني في العراق، مما يعني منح طهران الضوء الأخضر لتأدية دورها في العراق.
اختراق السلطة.. الطريق إلى قلب العراق:
استفادت إيران كثيرًا من الاحتلال الأمريكي للعراق، وبنائه نظامًا سياسيًّا قائمًا على الأحزاب المنطلقة من بُعْد طائفي وولاء خارجي، لقد كانت إيران جاهزة تمامًا، واستطاعت -من خلال المؤسسات التي بناها الاحتلال الأمريكي، في البرلمان والمحافظات والوزارات- التسلُّلَ إليها عبر نُخَب تَدِين بالولاء لطهران، بل تحوَّلَت إلى منظومة من الموظفين الذين يأتَمِرون بتوجيهات إيرانية يعملون لمصلحة بلاد غير بلادهم.
لقد كان الاختراق عميقًا وقاسيًا؛ إذ بدأت طهران في تصفية كلِّ مَن تعتقد أنه يمثِّل خطرًا على مشروعها الاحتلالي، فالقتل والاغتيال للنخب العراقية المتعلِّمة والمستقلة كان ظاهرة ممتدة على كامل العراق، راح ضحيتها عشرات الآلاف من عسكريين وسياسيين وأطباء ومهندسين وعلماء وأساتذة جامعات وشعراء وكتاب ومثقفين، لقد كان تجريفًا ممنهجًا للعراق، كما نفَّذ وكلاء إيران في العراق سياسة التصدي لأي علاقات أو تصالح عربي عراقي، بهدف عَزْل العراق عن محيطه وفضائه العربي.
وفي المحصلة فإن إيران تسعى من خلال تدمير العراق لهدفين لا ثالث لهما؛ أولًا: الانتقام المتوحِّش للشعور المتراكم داخل الوجدان الإيراني ضد كل ما هو عربي وعراقي على وجه الخصوص، فالعراق الذي كان محتلًّا من الإمبراطورية الساسانية ذات يوم تحوَّل في عهد الأمويين والعباسيين ليكون عاصمة إدارة الشأن الفارسي، ومنه تنطلق الجيوش وإدارة خرسان وبقية الأقاليم الفارسية، ولذلك سيبقى العراق ذا حساسية مفرطة في إيران.
ثانيًا: لا يمكن أن تقبل النخبة الحاكمة في طهران أن يكون البلد الذي تسيطر عليه أفضل من بلدها، خاصة أنها فشلت تمامًا في تحسين أوضاع بلادها أو تطويرها أو النهضة بها، فإيران اليوم تُعَدُّ واحدة من أكثر الدول تخلُّفًا وتدهورًا على كافة الأصعدة، فهل يُعقَل أن تقبل طهران أن تصبح بغداد عاصمة متقدمة متنورة ومضيئة، وهو ما ينسحب تمامًا على بيروت أو صنعاء.
- أحمد حقي، طبيعة وأشكال التحالف والتعاون عبر العصور المختلفة بين إيران والغرب (عمَّان: دار عمَّار، 2013).
- أفشان إستوار، “المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية: حين تتصادم سياسات الهوية مع الإستراتيجية”، دراسة نُشرت على موقع مالكوم كير-كارنيجي بتاريخ 30 تشرين الثاني-نوفبر ( 2016).
- معمر خولي، “التغلغل الإيراني في العراق.. الدوافع والأشكال وأدوات التأثير”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية، موسوعة حول العراق (2016).
- وصفي عقيل وخالد الدباس، “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي.. دراسة حالة “العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، مج45، ع4 (2018).