الفارسية والطورانية
قوميتان متطرفتان مارستَا العنصرية ضد العرب
تعتبر إيران وتركيا من دول الجوار للمنطقة العربية، وكان من المفترض أن تسود علاقات حُسن الجوار بين هذين البلدين والبلاد العربية، لكن وقائع التاريخ تثبت لنا عكس ذلك، فعلى الجانب الإيراني كانت النظرة الاستعلائية الفارسية تجاه العرب عائقًا دائمًا أمام أي محاولة لتوطيد سياسة حسن الجوار، وربما كان للفتح الإسلامي لبلاد فارس أثره العميق في النفسية والعقلية الفارسية المجوسية، الذي بدوره عبَّر عن نفسه في شكل عقدة نفسية مزمنة هي “المجد الخالد للفرس”؛ إذ لم يَنْسَ الفرس أنهم -ومعهم الروم- كانوا سادة العالم القديم حتى الفتح الإسلامي، ما أدَّى إلى نمو النزعة الاستعلائية لدى الفرس، وازدياد الكراهية للعنصر العربي.
وعلى الجانب الآخر ارتبط صعود القومية التركية “الطورانية” في القرن التاسع عشر، خاصةً بين النخبة التركية، إلى تكوُّن نظرة استعلائية تركية تجاه القوميات الأخرى، لا سيما العرب، نتيجة تأثير الثقافة العربية والخط العربي والتاريخ العربي على الدولة العثمانية، من هنا لجأ الأتراك، لا سيما في عصر الاتحاديين، إلى سياسة “التتريك”، وفَرْضها على العرب، في محاولة استعلائية من جانبهم للتخلص من عقدة النقص لديهم تجاه الثقافة العربية.
وبعرض بعض مظاهر النزعة الاستعلائية لدى الفرس تجاه العرب، والمحاولات السيئة التي توضح عقدة النقص لديهم تجاه العرب، خاصةً بعد الفتح العربي لبلاد فارس، ينظر بعض المؤرخين إلى تأييد أهل خراسان للدعوة العباسية على أنه أحد مظاهر عقدة النقص الفارسية تجاه العرب؛ إذ نظر الفرس إلى الدولة الأموية على أنها دولة العرب، وأنها قامت أساسًا على العنصر العربي، وأنها نظرت إلى الفرس على أنهم “موالي”، من هنا كان اندفاع الفرس في الوقوف وراء الدعوة العباسية، ليس حبًّا في العباسية، ولا حتى آل البيت، ولكن كراهيةً للعنصر العربي، ويؤكد البعض على ذلك بموقف أبي مسلم الخراساني، القائد العسكري الفارسي الذي تبنَّى انطلاق الدعوة في خراسان؛ إذ أصدر أبو مسلم أوامره إلى مساعده قائلًا: “إن قدرت ألا تُبقِي بخراسان مَن يتكلم بالعربية فافعل”.
وتتجلَّى عقدة النقص الفارسية تجاه العرب وتظهر بوضوح عند أهم شعراء اللغة الفارسية أبي القاسم الفردوسي؛ إذ يعتبر الفردوسي أحد أهم المؤسِّسين للنزعة الفارسية المتطرفة تجاه العرب، وتعتبر “الشاهنامه” المَعِين الفكري الذي استند إليه التيار القومي الفارسي المتطرف بعد ذلك، ويبكي الفردوسي في الشاهنامه على أطلال مجد الأكاسرة المجوس، وكيف استطاع الفتح العربي الفارسي مَحْوَ هذا المجد، وله في ذلك مقولة تنضح بكَمٍّ كبير من العدائية -بل العنصرية- تجاه العرب والفتح العربي لفارس، يقول الفردوسي: “لقد بلغت الحال بالأعراب، مَن شَرِب لبن النياق وأكل الضِّباب، أن يجعلوا عرش ملوك الفرس لهم إربًا، ألا تبًّا لك أيها الفلك تبًّا”.
ويستمر تأثير الفردوسي ونظرته الاستعلائية والعنصرية تجاه العرب واضحًا لدى التيار القومي الفارسي المتطرف عبر مئات السنين، ويظهر تأثير الفردوسي واضحًا، على سبيل المثال، في أحد أهم الشعراء الإيرانيين في القرن العشرين، وهو الشاعر مهدي إخوان ثالث.
ونستطيع تلمُّس البُعد القومي المتطرف لدى مهدي، ورفضه للإسلام والعرب، من طريقة اختياره لأسماء أبنائه؛ إذ اختار اسم زرادشت لأحد أبنائه، كما اختار اسم مزدك لابنٍ آخر، ويوضح المثال السابق موقف مهدي إخوان تجاه التاريخ الإسلامي العربي لإيران، ونزوعه القومي المتطرف نحو التاريخ الفارسي القديم.
ونستطيع أن نتبيَّن نظرة التيار القومي الإيراني المتطرف في القرن العشرين تجاه العرب، ويمثِّله هنا مهدي إخوان ثالث، مما كتبه في هذا الشأن: “أفسد العرب كل جانب من جوانب الحياة الإيرانية، من الدين والأسطورة المأثورة الشعبية، إلى اللغة والأدب والتاريخ، إن التقاليد العربية المشؤومة، وعدوى التعريب الملوَّثة والفظيعة، أفسدت شِعرَنا التقليدي، ليس فقط على صعيد الشكل، وإنما المحتوى”.
كما يتبيَّن لنا مدى تأثير الفردوسي في مهدي إخوان، واعتباره أستاذه ومرشده في النظرة المتطرفة والاستعلائية تجاه العرب، من الوصية التي تركها مهدي إخوان وأوصى فيها أن يُدفَن بعد وفاته بالقرب من مدفن الفردوسي في مشهد، وبالفعل دُفِن هناك عام (1990).
ولا تختلف النزعة القومية التركية المتطرفة “الطورانية” عن مثيلتها القومية الفارسية المتطرفة، في النظرة تجاه العرب والتاريخ والثقافة العربية بشكلٍ عام، ويمكن رصد الأصول المشتركة بينهما، وخاصةً النزعة في العودة إلى “الوثنية”، وتَخطِّي الفترة التاريخية العربية الإسلامية في الشعر التركي الحديث، كما رصدناه من قبل في الشعر الفارسي، سواء عند الفردوسي أو مهدي إخوان ثالث.
ويتجلَّى ذلك واضحًا عند أحد أهم شعراء التركية في العصر الحديث، وهو الشاعر محمد أمين بك، الذي لمع نجمه بقوة، خاصةً بعد اشتراكه في الحرب التركية اليونانية، وقام بنشر ديوانه وعنوانه “أشعار تركية” عام (1897)، وأخطر القصائد فيه؛ المُعبِّرة عن النزعة المتطرفة، الرافضة للتاريخ العربي الإسلامي، التي تحمل قدرًا كبيرًا من الحنين تجاه العصر الوثني التركي؛ إذ أنشد قائلًا: “أنا تركي، ديني وقوميتي التركية راقيان، قلبي مملوء بالنار”!
وعلى المستوى السياسي تتجلَّى “القومية التركية الطورانية” بشكلٍ واضح خلال عصر حكم الاتحاديين في مطلع القرن العشرين؛ إذ تبنَّى هؤلاء نظرية عنصرية مفادها أن العنصر التركي الطوراني، هو العنصر الأفضل والمتميز، وعليه نادوا بسيادة العنصر التركي على بقية الأجناس، بل وتمادَوا في احتقار بقية الأجناس في الدولة العثمانية، وفي مقدِّمتهم بالطبع العنصر العربي.
من هنا ظهرت سياسة “التتريك”، وهي فرض الصبغة التركية على كافة الأجناس، وفي مقدمتهم العرب، وفي نزعة لا تخلو من الغِلِّ والضغينة تجاه العرب، وضع الكاتب التركي الشهير جلال نوري بك كتابًا بعنوان “تاريخ المستقبل” قال فيه: “إن المصلحة تقضي على حكومة الأستانة بإكراه السوريين على تَرْك أوطانهم، وأن بلاد العرب، لا سيما اليمن والعراق، يجب تحويلها إلى مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين، وليس العربية، ومما لا مندوحة لنا عنه للدفاع عن كياننا أن نحوِّل جميع الأقطار العربية إلى أقطار تركية”.
هكذا يتَّضح لنا مدى النظرة الاستعلائية والعنصرية تجاه العرب، لدى القومية الفارسية المتطرفة، والقومية التركية الطورانية، ومدى انعكاس ذلك في الأدب والسياسة، وتلاشي سياسة حُسن الجوار.
لم يختلف الفرس والترك إلا على النفوذ؛ بينما عملَا على تدمير الجغرافيا العربية.
- محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية، الدولة العباسية، القاهرة، 2003.
- حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك.. دراسة تاريخية أدبية، القاهرة، 2001.
- علي ياسين عبيدات، ترجمة: قصيدة الشتاء، للإيراني مهدي إخوان ثالث، الحوار المتمدن، 1، 5، 2014.
- قيس جواد العزاوي، الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، الطبعة الخامسة، القاهرة، 2014.