الصراع الفارسي العثماني
على العالم العربي والتمهيد للاستعمار الأوروبي
تأجج التنافس والصراع بين الدولة الفارسية والدولة العثمانية، والذي يعود فعلًا إلى بدايات تكوين كلا الدولتين؛ فقد كانت بوادره في بلاد فارس بعد ظهور إسماعيل الصفوي، الذي اجتاح في بدايات القرن السادس عشر الميلادي العاصمةَ تبريز عاصمة دولة “الآق قوينلو” -الخروف الأبيض- ومن ثم قام ببسط سيطرته على معظم أقاليم إيران، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم بالحديد والنار إلى مذهبه، ولعل الشرارة التي أشعلت فتيل الصراع بين الشاه الصفوي والدولة العثمانية القابعة في آسيا الصغرى والمتمددة نحو أوروبا، هو هروب آخر سلاطين “الآق قوينلو” بعد اشتباكات ومعارك طاحنة في جهات ديار بكر، فرَّ على إثرها السلطان مراد بن يعقوب خائفًا يترقب، والتجأ إلى الأراضي العثمانية.
وعلى ما يبدو فإن تلك التحولات كان لها أثرها العميق في الأوساط العسكرية العثمانية، ومما زاد من مخاوف العثمانيين استيلاء الشاه إسماعيل الصفوي على بغداد سنة 1508م آخر معاقل “الآق قوينلو”، مما زاد احتمالات اندفاعه نحو الغرب، وتهديد كيان الدولة العثمانية.
فالعلاقات عدائية بين كلا الدولتين منذ البداية، ولم تَسِر على وتيرة واحدة عبر تاريخهما، فعندما تكونان في أوج قوتهما يحدث التنافس والصراع العسكري المباشر، وأما في حالة الضعف أو التهديد الخارجي لكل منهما، فيميلان إلى تحسين تلك العلاقة وإن بصورة مؤقتة، وقد ترتب على ذلك أن كان التنافس والصراع واقعًا فقط على الأراضي العربية، وليس على أراضي كل منهما!! بل استخدم العرب كأرض معركة وصراع نفوذ فقط بين الفرس والعثمانيين، وذهب نتيجة ذلك مئات الآلاف من الضحايا، لكن أيًّا منهم لم يحتلَّ أراضي الآخر، وجاءت معركة “جالديران”، وهي إحدى المعارك الكبيرة بين القوتَين، التي ذهب فيها قرابة أكثر من عشرة آلاف قتيل من أبناء العرب، ومن نتائجها المباشرة استيلاء العثمانيين على ديار بكر، وبسط سيطرتهم على إمارة ذو القدر، وبالتالي فتحت الباب على مصراعيه لاكتساح الجيوش العثمانية البلدان العربية، وتغيَّرَت خلالها الموازين السياسية والاقتصادية في منطقتنا العربية لصالح الأتراك العثمانيين، وأمام تلك الهزيمة المدوية التي تلقَّاها الشاه إسماعيل الصفوي اتجه لعقد تحالفات عسكرية مع بعض الدول الأوروبية ضد العثمانيين.
في الواقع أدَّت العلاقات البراجماتية لكلٍّ من فارس الصفوية والدولة العثمانية مع القوى الأوروبية إلى سرعة سقوط العالم العربي في أيدي الاستعمار الأوروبي؛ إذ تحالَفت فارس مع البرتغاليين والإسبان، ثم الإنجليز، نكايةً في الدولة العثمانية، وأيضًا لتنشيط التجارة الفارسية مع الغرب، كما عقدت الدولة العثمانية اتفاقيات مع الدول الأوروبية عُرِفت بالامتيازات الأجنبية، من أجل تنشيط التجارة العثمانية مع الغرب، لكن هذه السياسة من جانب كلٍّ من فارس والدولة العثمانية التي مرَّت فيها الأخرى بمراحل من الضعف والانحلال، قد فتحت شهية القوى الاستعمارية نحو مهاجمة العالم العربي بأساليب وطرق مختلفة، فذلك الصراع بين الدولة الفارسية والدولة العثمانية قد أنهك منطقتنا العربية لعدة قرون طويلة، وتسبَّب في الخراب لها، فالجغرافية العربية كانت ساحة لذلك الصراع المدمر، الذي انعكس بدوره إلى حالة من التدهور السياسي والاقتصادي في منطقتنا، وجعل منها لاحقًا لقمةً سهلة للمستعمر الأوروبي.