المراوحة الصوفية بين الترك
والفرس واتفاقهما الباطني
يُعَدُّ مفهوم “التصوف” مفهومًا ملتبسًا يدور حوله الكثير من النقاشات، متى ظهر؟ ومَن هم أبرز شخصياته؟ خاصةً من العجم الذين تولَّوا بناءه الفكري، وتأسيس طُرقه، وعقائده وفلسفاته.
يُعِيد الكثير من الباحثين بداية ظهور “التصوف” بشكله الفارسي إلى القرن الثاني من الهجرة، نتيجةً لما استجدَّ في المجتمع الإسلامي من تطورات، وفي القرون الثاني والثالث والرابع الهجرية ظهر التصوف في صورة تختلف تمام الاختلاف عن صورته الأولى التي عرفها المسلمون الأوائل، المتمثلة في الزهد والانقطاع للعبادات، ولم يقف عند حدود الزهد والمجاهدة، وإنما تعدَّى ذلك إلى غاية بعيدة، وهي الفَناء، أي فناء الإنسان في نفسه واتحاده برَبِّه، وذلك تأثُّرًا بالمذاهب الفلسفية القديمة من بوذية وفارسية ويونانية، نتيجة لحركة الفتوحات الإسلامية التي تولَّد عنها الاختلاط بين الثقافات.
مصدر التصوف وموطنه الأصلي:
يعتبر التصوف بوجه عام فلسفة حياة، ونظرة للوجود، ووجوده كظاهرة عُرفت لدى الهنود والفرس، واليونان، واليهود، والمسيحيين، يقول الباحث أبو العلا عفيفي في منشور له بعنوان “التصوف الفلسفي في الإسلام” واصفًا كيف نشأ التصوف الفلسفي الذي قاده الفرس في العالم الإسلامي ونشروه: إن العوامل التي ساعدت على ظهور التصوف الفلسفي كثيرة ومتعددة، فقد كانت البيئة التي يعيش فيها “متصوفة” القرن الثالث الهجري مزيجًا غريبًا من الأمم المختلفة والثقافات المختلفة والديانات المختلفة والفلسفات المختلفة، بل وكان الجو الذي يتنفَّس فيه المسلمون خليطًا من هذه العناصر كلها، فلا عجب إذن أن يأتي “التصوف الفلسفي” في الإسلام، ممثلًا لك مذهبًا من المذاهب، حاويًا لك بدعة إسلامية غير إسلامية، وبعضها يتعارض مع التعاليم الإسلامية معارَضة صريحة.
ويشير أيضًا إلى عناصر مهمة دخلت على التصوف الفلسفي الذي قاد فيما بعد التصوف الفارسي والتركي، منها:
أولًا: الفلسفة الأفلاطونية، حيث لا تكاد تخلو مسألة من مسائل التصوف الفلسفي الإسلامي من أثر الفلسفة الأفلاطونية.
ثانيًا: المسيحية، قاصدًا الحياة المسيحية والآخذة عن الرهبان نظرياتهم في طبيعة المسيح والتثليث.
ثالثًا: الفلسفة الهندية والبوذية، التي دخلت إلى الإسلام عن طريق الفرس، وهي طرق استوطنت فارس في فترة ما قبل الإسلام بألف سنة، ولذلك غصَّت فارس بالفكر الوثني الهندي، بل من كثير من معلمي التصوف الأوائل الذين قدِموا من مراكز ومدن استوطنت فيها العقائد الهندية البوذية ومنها مدينة بلخ، التي جاء منها عدد كبير من أساتذة التصوف الفارسي، ومنها انتقلت إلى الأتراك فيما بعد، والذين وجَدوا في فارس منبعًا كبيرًا للفلسفات والعقائد التي أعطتهم تصوُّرهم التركي للإسلام.
وللبحث أكثر في نشأة التصوف سنجد أن منبته فارسي، والثابت أن أول مَن أسَّس حركة التصوف هم الفرس؛ الذين يمثلون عصب الباطنية ودمها الفوار، وكبار المتصوفة والمنظِّرين له فرس؛ كالبسطامي، والحلاج، ومعروف البلخي، وابن خضرويه البلخي، ويحيى بن معاذ الرازي. وللباطنية مرجعيات فارسية متعددة الثقافات والعقائد، والفرس أُصيبوا بداء الغنوص، وهي فلسفة حلولية ذات طابع روحاني صوفي محض سرت في أديان وطوائف عدة، بنِسَب متقاربة، كما أن الفرس – المتعصبين لفارسيتهم- قاموا متعمِّدين بصبغ الإسلام بالزرادشتية، وأذابوه في ثقافتهم وعقائدهم.
امتزاج الفرس مع الأتراك:
لا يمكن فك الاشتباك بين القوميتين الفارسية والتركية، فهما تشربان من نفس النبع العقائدي – الفارسي الهندي المسيحي-، ولديهما نفس المشاعر ضد العرب – خصومة وكراهية وغرور ثقافي- ولعل رحلة في تأسيس الدولة الصفوية تكشف لنا ذلك التشابك؛ إذ تعود أصول الدولة الصفوية التي أسَّسها إسماعيل الصفوي -والذي كان مبدؤه التصوف التركي لإحدى فِرَق الصوفية الحروفية والمنسوبة لصفي الدين الأردبيلي – إلى أسرة ظهرت في شمال أردبيل بأذربيجان من أسرة تركية تخصَّصت في الوعظ والإرشاد، والتصوف، عُرفت بالأسرة الصفوية، وهذه المنطقة كان يسكنها الترك، بالإضافة إلى الأكراد والأرمن، ولذلك اعتبرت الدولة الصفوية امتدادًا للدولة التركمانية التي كانت قائمة آنذاك، بل إن اللغة التي اعتمدت داخل البلاط الصفوي كانت اللغة التركية.
تشابُك الفرس والترك في منبع فكري واحد؛ تمحوَر في التصوف، ومنبعه بين الأمَّتين.
يقول الكاتب ميشيل مزاوي في كتابه أصول الصفويين: تبقى الطريقة البكتاشية – التي استوطنت تركيا وصَبَغتها بكل تعاليمها وأفكارها – أقرب إلى التحدر من تعاليم “بابا إسحاق، وهم يجمعون بين التعاليم المسلمة والمسيحية في بدعية ظاهرة، وأُسّ عبادتهم الجمع بين الله والنبي محمد وعلي بن أبي طالب في ثالوث يشبه الثالوث المسيحي”.
مرجع البكتاشية ادَّعى أنه نبي من الله:
بابا إسحاق الذي تنتسب إليه الطريقة البكتاشية التركية، والذي ادَّعى النبوة وأنه مُرسَل من الله سنة 638 هجرية، هو أحد مشايخ الصوفية الذي تميَّز بشخصية كارزمية جذابة، واجتذب إليه التركمان الفقراء، وزعم أنه نبي مُرسَل من الله، فصدَّقَته أعداد كبيرة من التركمان، وأصبحوا يُطلِقون عليه اسم بابا إسحاق رسول الله.
وبالرغم من مقتل بابا إسحاق في إحدى المعارك، لكن أتباعه من التركمان لم يصدقوا بمقتله بوصفه رسولًا مقدسًا لا يمكن أن يموت حسب اعتقادهم، ومن جهة أخرى نجد أن البكتاشية التي رعتها الدولة العثمانية وسهَّلت لها العمل المباشر مع الفرقة الإنكشارية العسكرية في الجيش العثماني، وسيطرت عليه، هي طريقة صوفية فارسية الحقيقة والمنشأ، ولكنها مع ذلك تربَّت وترعرعت في تركيا، وتُنسَب هذه الطريقة إلى محمد بكتاش الخراساني الفارسي النيسابوري، المولود في نيسابور سنة ٦٤٦هـ.
- أحمد علي، التصوف.. التاريخ والإشكالية، منشور على منصة خطوة، على الرابط:
- أمين الشقاوي، الصوفية وخطرها على بلاد الإسلام، منشور على منصة الألوكة، على الرابط: https://www.alukah.net/
- أبو العلا عفيفي، التصوف الفلسفي، منشور على منصة طواسين، على الرابط:
- ميشيل مزاوي، أصول الصفويين، ترجمة: ثائر أديب (بيروت: المركز العربي للأبحاث والسياسات، 2018).