المشهد السياسي المشترك
شهدت العلاقات الثنائية بين إيران وتركيا في عقد الثمانينيات فترة من الانتعاش النسبي أثناء الحرب العراقية- الإيرانية، بسبب اضطرار إيران إلى تمرير صادراتها ووارداتها عبر حدودها مع تركيا، التي تمتد من شمال غربي إيران وجنوب شرقي تركيا بطول 499 كيلومترًا، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وظهور الدول الآسيوية المستقلة عنه في منطقة آسيا الوسطى وبحر قزوين، ظهر صراع إقليمي جديد بين إيران وتركيا على مناطق النفوذ هناك. ومَرَدُّ ذلك أن هذه المنطقة الجغرافية الممتدة من قازاقستان شرقًا وأذربيجان غربًا، التي تشكِّل الامتداد الجغرافي والثقافي لكلا البلدين، ترقد على ثروات نفطية وغازية هائلة، يعتقد المختصون أنها سوف تؤثر في معادلات التوازن بسوق الطاقة العالمية، وما يعنيه ذلك من توزيع جديد لأوراق اللعب الإستراتيجية إقليميًّا وعالميًّا.
من جهة أخرى وفيما يخص آسيا الوسطى نظرت السياسة التركية الإقليمية في النصف الأول من التسعينيات إلى تلك المنطقة على أنها الأداة الممتازة لإعادة إنتاج الأفكار القومية التركية، والبوابة الرئيسة لدخول عوالم الحصانة الإقليمية، بالعائدات الهائلة التي تتوقعها لهذه المنطقة من نفط وغاز، وبالمقابل ترتبط إيران بعلاقات تاريخية مع تلك المناطق؛ إذ فقدت إيران في حروبها مع روسيا القيصرية أراضي شاسعة في القوقاز وآسيا الوسطى، وبموجب معاهدة تركمان جاي 1813 فقدت إيران جمهورية جورجيا الحالية وأراضي شاسعة وصلت إلى باكو عاصمة جمهورية أذربيجان الحالية، ومناطق واسعة في سيروان وشماخي وشكي وكنجة وقرة باغ وأجزاء من مغان وطالش.
أما معاهدة «كلستان» 1828م فقد سلخت من إيران كل الأراضي الواقعة شمالي نهر آرس على تخوم القوقاز، مثل يريفان عاصمة أرمينيا الحالية، ونخجوان أو ناختشيفان التابعة لأذربيجان والواقعة داخل حدود أرمينيا.
كان المشهد السياسي أكثر إثارة في زمن الرئيس التركي تورغت أوزال حيث شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين فترة من التفاهم الاقتصادي، أعقبتها فترة من الازدهار النسبي خلال عام 1995-1996م الذي ترأس فيه نجم الدين أربكان وحزب الرفاه الحكومة التركية.
وفي ذلك العام وقَّع البلدان اتفاقية لتصدير الغاز الإيراني إلى تركيا بقيمة 23 مليار دولار، وهي الصفقة الأضخم في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين الجارين، يمتد بمقتضاها خط أنابيب نقل الغاز من مدينة تبريز الإيرانية وحتى مدينة أرضروم، لمد تركيا بالغاز لمدة ثلاثين سنة.
وبالرغم من هذا «التقارب النسبي» في العلاقات الإيرانية- التركية فإن هذه العلاقات لم تتطور بعد الإطاحة بنجم الدين أربكان من رئاسة الوزراء في تركيا، بسبب التصادم في منظومة القيم لكل من النظام السياسي في إيران وتركيا، وكذلك حدود الأدوار الإقليمية المتاحة لكل منهما.
ومشهد أكثر إثارة العلاقات الإيرانية- التركية بعد احتلال العراق عام 2003م، لتبدُّل موازين القوى الإقليمية لمصلحة إيران، وبشكل جعل المصالح التركية عرضة للخطر لموقف القومية الكردية ومواصلة نضالها ضد احتلالهم، ومخاطر امتداد النضال إلى جنوب شرق الأناضول وأغلبيته في التركيبة السكانية أكراد، كما أدى احتلال العراق إلى إعادة توزيع لموازين القوى الإقليمية عمومًا، وبين إيران وتركيا خصوصًا؛ إذ إن انهيار النظام العراقي السابق وهيمنة الأحزاب السياسية الشيعية على الحكومة والبرلمان العراقيَّين، وكذلك الإصرار الكردي في شمال العراق والسلطة المركزية ببغداد، أدَّت كلها إلى تزايد النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، بالتزامن مع نشوء تهديدات جديدة للأمن القومي التركي، يرفضون ما تم قبوله ضد غيرهم من القوميات!!
نتيجة للمشهد السياسي المتقلب
أدَّى احتلال العراق إلى نتيجة واضحة في التنافس الإيراني – التركي، مفادها أن الطرفين الأميركي والإيراني أصبح الأقوى على الساحة العراقية، فالأول يحتلُّ العراق عسكريًّا، والثاني يحكم ويتحكم في مقدَّرات السلطة في بغداد عن طريق الحلفاء، كلاهما لا يستطيع إزاحة الآخر، طهران لا تملك الأدوات العسكرية ضد تلك القوى، ولا يملكون سوى التهديد بالسلاح النووي، ولن يستمر ذلك طويلًا؛ لأنه خواء السياسة، أما واشنطن وإن سيطرت عسكريًّا فإنها تعاني مأزقًا مستحكمًا متمثلًا في تصاعُد عمليات المقاومة، ولا يُمكِنها إزاحة حلفاء إيران من المشهد السياسي، وتتكرر المشاهد وتتبدَّل الشخصيات، ويبقى الفكر المتجذِّر تتوارَثُه دهاليز متاهات السياسة في تاريخهم.