صراع الرايات
تولَّى أمر مكة العديد من الأمراء العباسيين، الذين كانوا يقومون بإمارة الحج، غير أن الحال وصل بهم إلى تسلُّط نفوذ العنصر التركي، وكانت القيادة اسمية، ووصلت إلى العلنية من القيادات التي ولَّاها بنو العباس أمر الحج.
لقد اعتمد العباسيون منذ قيام دولتهم على العناصر الأجنبية، وكان لذلك الأمر أثر خطير في الدولة على المدى البعيد، وكان لتواجد العنصر التركي دور مؤثر في مجرى الأحداث في الدولة العباسية بعدما استعان بهم الخليفة العباسي المعتصم بدلًا من الاعتماد على العنصرين العربي والفارسي، ولم يكن ذلك العنصر خادِمًا لمصالح الدولة بقدر ما كان مصدر إزعاج حسبما ذكرت العديد من المصادر التاريخية، وقد دأبوا مثلًا على معاملة سكان بغداد بكل جفوة، مما كان سببًا في المطالبة بخروجهم منها.
وكان عهد الخليفة المتوكل كبداية لدور العنصر التركي، وسعوا في تلك الفترة إلى التخلص ممن تبقى من النخبة العربية المقرَّبة من البلاط العباسي، وعملوا على فرض سيطرتهم على مفاصل الدولة بدايةً من الخليفة حتى أصغر مسؤول.
وأما أمر تولِّيه الحرمين على سبيل المثال لا الحصر: لما أراد أشناس الحج سنة ٢٢٦هـ، جعل المعتصم إليه ولاية كل بلد يدخلها، فحجَّ فيها، واستناب على الحج بالناس محمد بن داود العباسي، وقد دُعِي لأشناس على منابر الكوفة وفيْد، ومكة، والمدينة، حتى عاد إلى سامراء، وذكر الطبري أسماء الذين دعوا له على المنابر، وقد كانت إمارته للمدينة قصيرة جدًّا لا تستدعي أن يتولى إمرتها، والمدة عبارة عن تأدية مناسك الحج والعودة، ومُنِح لقب سلطان، وتلك منحة لم يسبقه إليها أحد، وأكَّد الخبر الأزرقي في تاريخه وكذلك السباعي .
وذكر الطبري في تاريخه عددًا من السنين التي تولى فيها أمر الحج، وتقلَّد مناصب وألقاب عناصر تركية في الدولة، ومنها أحداث السنوات 222، 233، 234، 257 الهجرية، حيث وَلِي مكة العديد من الأمراء العباسيين، الذين كانوا يقومون بإمارة الحج، غير أنهم لم يكونوا من الأقوياء، وظهورهم بصفتهم واللقب.
وحظي قادة الجيش الأتراك بالاهتمام الخاص بشؤون الحج، ومنهم إيتاخ سنة 234هـ الذي فوض الخليفة إليه أيضًا ولاية كل بلد يدخلها حتى يصل إلى مكة ويعود منها، وسبقه أشناس، وشعر الخليفة المتـوكل بتوغل الأتـراك في الدولة، واستبدادهم بأمـور الخلافة وإدارتهـا وجيشهـا، فـأحَبَّ أن يُضعـف شوكـة الأتـراك ويُقـلِّل من نفوذهم، فـبدأ بإيتـاخ، حيث تمـكَّن من سجنه وقتـله في أثنـاء عودته من الحـج في بغـداد.
ونتج عن ذلك نتائج عدة، وأبرزها تعدُّد الرايات من أخلاط متعددة في المشاعر المقدسة للذين شقوا ومزَّقوا وحدة الدولة، ومنهم أحمد بن طولون المتولي أمر مصر باسم الدولة الطولونية فيها عام 269هـ، وتلك حوادث لم تخلُ من الصراع بين أصحاب الرايات، واستباحة الدماء من أجل البقاء للأقوى رايةً، ولم يَسلَم أهل مكة وكل من حج لا في المشاعر أثناء تأدية نُسك الحج ولا داخل مكة، وكانوا يشاركون في الخلافات التي تنشب، مما يؤثر على أعمال الحج ذاتها، وقال الطبري في نفس أحداث 269هـ بأنها كانت وقعة توجَّهت من جهة ابن طولون بتكليف قائدين تضرَّر أهل مكة، وشارك من كان دورهم الاستغلال لأخذ المال مقابل أعمال تعدي، وأشدها في يوم التروية، إلى أن وصل الحال بالناس أن خافوا على بطلان حجهم، وممن وثَّق أخبارًا شتى النجم ابن فهد في إتحاف الورى وغيره، وانعدام الأمن ومن بعده انتشار الغلاء للسياسات التي تم ممارستها، وخاصة سنة 260هـ، وتبع ذلك هجرة أهل مكة حسبما ذكر الأزرقي للغلاء والوباء بمكة المشرفة.
كان للصراعات السياسية أثر للجوع والفقر، وقلة الموارد في مكة، وأصبح موسم الحج في تلك السنون ملاذًا للصراعات السياسية وتوغُّل نفوذ الأتراك من جهة، وعناصر أخرى من جهة، ودخلت الصراعات المذهبية جوهر أيام أداء فريضة الحج.