وقعة الجلالية
تكرار الجريمة القرمطية في الحرم المكي على الطريقة العثمانية
يربط كثير من المؤرِّخين بين حادثة استباحة العثمانيين لمكة المكرمة سنة 1041هـ (1631م) وبين حادثة استباحة القرامطة لها عام 317هـ (929م)، فالجريمة واحدة وإن اختلف المُنفِّذ.
يقول ابن كثير في تعليقه على حادثة القرامطة وقائدهم أبي طاهر القرمطي: “وقد ألحَدَ هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادًا لم يسبِقه إليه أحد، ولا يلحقه فيه، وسيُجازيه على ذلك الذي لا يعذِّب عذابَه أحد، ولا يُوثِق وثاقَه أحد”.
وذكر ابن كثير روايةً عمن حضروا هذا اليوم تُظهِر جهل وفُجر القرامطة، حيث قال: “كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير -ورفع صوته بذلك- أليس قُلتم في بيتكم هذا: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَا}؟ فأين الأمن؟”.
وفي المقابل يَصِف الشيخ محمد بن عَلّان الصدِّيقي الشافعي حوادث اعتداء عسكر الترك العثمانيين على الحرم والكعبة المشرفة شيئًا مشابهًا فيقول: “إن بعض العسكر –الترك- سَكِر ، فدخل الحرم ، وضرب الحجر الأسود بسيفه، وضرب البيت الشريف، فأريد تأديبه، فتعصَّب له جماعته ومنعوه”.
قانصوه وجنوده:
أُعطِي الأمير التركي قانصوه ولاية اليمن، فتجهَّز في عسكر جرَّار زهاء عشرة آلاف، وسافر هو والفرسان بَرًّا، والباقون بحرًا، فوصل مكة في صفر من سنة ١٠41هـ (1631م)، وكان قد أُمِر أن ينظر في أمر مكة، ويُولِّي فيها مَن يختاره، فلما وصل إلى مكة اجتمع بواليها، ولم يكن قانصوه إلا قادِمًا لعزله، عندها أحسَّ الوالي بالخديعة، وهَمَّ بقتال قانصوه، لكن قانصوه استمال عسكر والي مكة، وتقول الرواية التاريخية أن قانصوه استطاع خداع الوالي ومَن معه حتى قبض على الجميع، وأمر بخنق الوالي أحمد بن عبدالمطلب، ثم أخرجه لعساكره عاريًا؛ إمعانًا في الإهانة.
ولم يكن احتلال قانصوه ومن معه من العثمانيين لمكة إلا وبالًا عليها، فما إن انتهت فتنته الأولى بقتل الوالي حتى اقتحم جنود قانصوه مكة المكرمة، وهذا دليل آخر على فشل الإدارة العثمانية في الحرمين الشريفين اللَّذَين احتلَّتهما بعد هزيمة المماليك، وانفلات الأمن فيهما، وتفلُّت جنودها، وعدم السيطرة على تصرفاتهم وأفعالهم المجرمة، ولقد سمَّى مؤرِّخو مكة استباحة جنود العثمانيين لمكة المكرمة “وقعة الجلالية”؛ نسبة إلى رئيس قُطَّاع الطُّرق هؤلاء.
تقول الرواية التاريخية: “في العشر الأول من شهر شعبان سنة إحدى وأربعين وألف هجرية، الموافق لسنة ثلاث وثلاثين وستمائة وألف ميلادي وصلت أخبار من جانب اليمن بأن عسكرًا من الأتراك خرجوا عن طاعة الوزير قانصوه باشا، وهم جماعة من الأشقياء، أجمَعوا الرأي بأن يخرجوا لمكة للبغي والفجور، فلم يزالوا في الجبال مقيمين بالنهار، ويقطعون الليل بالأسفار حتى وصلوا إلى مكة”.
30 ألفًا من الترك العثمانيين فعلوا بمكة الجرائم، وانتهكوا الحُرُمات.
وصل هؤلاء العساكر من جهة اليمن بعدد يُقدَّر بأكثر من ثلاثين ألفًا، وهم نفس الذين دخل بهم قانصوه باشا إلى مكة المشرفة عند وصوله من السلطنة العثمانية في طريقه إلى جهة اليمن لإزاحة واليها، ومن ثم الاستيلاء على اليمن، ولما وصل قانصوه لمكة صادر أعيانها، وقتل بعض أشرافها، ثم توجَّه إلى اليمن، وكان كلما دخل قرية نهب أهلها وظلمهم.
اضطراب الأوضاع في مكة المكرمة:
لما بلغ أهالي مكة قدوم المرتزقة من جنود العثمانيين دخلهم الخوف مما سمعوا من جرائم ارتكبوها في حق الأهالي والنساء، فاستعدَّ الأهالي مع واليهم، وخرجوا للقاء المرتزقة العثمانيين قبل دخولهم مكة، ووقع اللقاء بالقرب من وادي البيار، فحصلت معركة كبرى، لكن أهالي مكة مع واليهم انهزموا.
ويروِي المؤرخ إبراهيم بن منصور الهاشمي عن حادثة استباحة مكة وقتل أهلها المعروفة بوقعة الجلالية فيقول: “ما أن دخل الجنود الأتراك العثمانيون مكة إلا وجاهَروا بالطغيان، وبالَغوا في قتل المسلمين، وارتكبوا الفجور بالنساء، وقتلوا الحجاج والمجاورين والعلماء، وأخرَجوا الأعيان من بيوتهم، واستولوا على أموالهم ومواليهم وحريمهم وعيالهم، لقد كانت جريمة كبرى ندر مثيلها، وتباهَوا بالزنا وشرب الخمور، بل كانوا يتفاخرون بقتل الأنفس والبغي والفجور، فتعب الناس أشد التعب، وحصل الخوف الشديد، وتسلَّطَت عساكر الترك على الناس، وأتعبوهم وأهلكوهم فسقًا، ونهبًا، وظلمًا، وشُربًا، وتقطعت الطرق، وصار منهم فساد عظيم، وشناعة ومصائب وأهوال في أهالي مكة المشرفة، وفسَقوا بكل صبي وحُرَّة، وتعطَّلَت شعائر حرم الله الرحمن، وانتُهِك حرم الله، واختلَّ الدين بالمسجد الحرام، ولم يراعوا حُرمة البيت والمقام”.
- أحمد السباعي، تاريخ مكة.. دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران في العهد العثماني، كتاب منشور على شبكة الإنترنت على الرابط: http://surl.li/kjrhz.
- علي السنجاري: منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم، دراسة وتحقيق: ماجدة فيصل زكريا (مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، 1998).
- منصور البهوتي، إعلام الأعلام بقتال من انتهك حُرمة البيت الحرام، تحقيق: جاسم الدوسري (بيروت: دار البشائر، 1988).
- منصور البهوتي، رسائل علماء الإسلام في قتال من استباح مكة وقتل الأنام، تحقيق: إبراهيم الهاشمي (بيروت: دار البشائر، 2015).