تأثير الحملات العثمانية إلى اليمن على الحجاز
السلب والنهب
تعدُّ قصة حُكم العثمانيين لليمن أُنموذجًا واضحًا على فشل الإدارة العثمانية في حكم العالم العربي، وعدم قدرتهم على تفهُّم الأوضاع الداخلية للبلاد، وكيفية التعامل معها.
ويذكر أحد المؤرخين اليمنيين أن ضم اليمن إلى ولايات الدولة العثمانية كان “قرة عين السلطان سليمان القانوني”، ويرجع ذلك إلى الأهمية الإستراتيجية لليمن، من حيث سيطرته على جنوب البحر الأحمر وبحر العرب، وحاجة العثمانيين إلى التمركز في هذه المناطق، خاصة بعد فشلهم في مواجهة البرتغاليين في المياه العربية الجنوبية، كما يمكن إرجاع حرص العثمانيين على ضم اليمن إلى رغبتهم في تأكيد نفوذهم الروحي في الحجاز؛ حيث انتحل السلطان العثماني لنفسه لقبًا دينيًّا هو “حامي الحرمين الشريفين”؛ إذ يعتبر اليمن البوابة الجنوبية للحجاز، هكذا تجمَّعَت العديد من العوامل وراء الغزو العثماني لليمن.
وفي البداية حرص العثمانيون على الاستيلاء على السواحل اليمنية، وخاصةً الموانئ المهمة التي تُتِيح لهم السيطرة على الملاحة البحرية في جنوب البحر الأحمر، وبعد قليل تغيَّرت الإستراتيجية العثمانية في هذا الصدد، حيث ازدادت أطماعهم في السيطرة على الداخل اليمني، وأدَّى ذلك إلى اصطدام العثمانيين مع العصبيات المحلية التي كانت تحكم الداخل اليمني.
وازداد الأمر سوءًا مع عدم تفهُّم الإدارة العثمانية للطبائع القبلية والاختلافات المذهبية السائدة في اليمن، من هنا نشبت العديد من الثورات المحلية ضد الحكم العثماني، الذي ضعف بشدة نتيجة وعورة الجبال، واختلاف طبيعة الساحل عن الداخل، وزاد الأمر بلّة تَعسُّف الإدارة العثمانية وفساد الولاة، وعمليات النهب التي كان يقوم بها الجنود العثمانيون، وتشير المصادر التاريخية إلى أن إستانبول اعتادت أن تُرسِل إلى اليمن من تريد إبعادهم أو نفيهم، بل وأحيانًا بعض المجرمين.
وإزاء تَضَعضُع النفوذ العثماني في اليمن دأبت إستانبول على إرسال العديد من الحملات العسكرية إلى اليمن، في محاولة لاستعادة نفوذها هناك، والحق أن الحجاز قد عانَى بشدة من جرّاء هذا الأمر؛ إذ مرَّت بعض الحملات العثمانية بالحجاز وهي في طريقها إلى اليمن، وأدَّى ذلك إلى حالة من عدم الاستقرار في الحجاز، وعلينا أن نتذكر ما أشرنا إليه سابقًا من اعتياد الإدارة العثمانية إرسال أسوأ أنواع الجنود وأفسدهم إلى اليمن، لندرك كم كانت محنة الحجاز من جرَّاء ذلك.
وتذكر المصادر التاريخية مرور ثلاث من تلك الحملات العثمانية بالحجاز هي: حملة حيدر باشا في عام 1032هـ/ 1623م، وأيضًا حملة أحمد باشا الكرجي عام 1037هـ/ 1628م، وكذلك حملة قانصوه باشا في عام 1039هـ/ 1629م، وتَصِف لنا هذه المصادر كَمَّ المعاناة التي عاشها أهل الحجاز من جرَّاء ذلك؛ إذ لم يحترم قادة هذه الحملات الوضع الخاص لأشراف مكة، وعملوا على التدخل في شئونهم، كما فرضوا عليهم العديد من الطلبات الجائرة، بل تطاول بعضهم وقام بعزل بعضهم وتعيين آخرين، بما يتعارض مع العرف السائد في هذا الشأن منذ فرض العثمانيين نفوذهم على الحجاز.
كما قام بعض هؤلاء القادة بتصفية بعض الموظفين المحليين من أهل مكة، والأمر الأكثر بشاعة هو قيام بعض الجنود العثمانيين بعمليات سلب ونهب شملت أسواق ومنازل جدة ومكة، وتحت زعم ضرورة توفير الإمدادات لهذه الحملات العسكرية قام القادة العثمانيون بمصادرة أملاك تُجَّار وأعيان جدة ومكة.
هكذا لم يَكتفِ العثمانيون بفشلهم في إدارة اليمن، فعمدوا إلى إرسال الحملات العسكرية المتتالية في محاولة لاستعادة نفوذهم هناك، إلا أن هذه الحملات العسكرية قامت أثناء عبورها الحجاز إلى اليمن بفعل الكثير من الاضطرابات والسلب والنهب، مما أدَّى إلى تذمُّر أهل الحجاز من الحكم العثماني، وسيؤدي ذلك إلى ثورة أهل الحجاز ضد الحكم العثماني، لا سيما ما حدث بعد ذلك أثناء الحرب العالمية الأولى.