الحجاز كولاية
عمدت الدولة العثمانية إلى سَنِّ قوانين وأنظمة لم تكن موجودة من قبل، منها إعلان الحجاز ولاية عثمانية يُشرف على إدارتها وشؤونها العامة موظَّف عثماني تركي برتبة باشا يسمى والي الحجاز، وأبقَت الحكومة للأشراف إمارة مكة المكرمة يتولّاها شريف يصدر تعيينه من الباب العالي، ولكنها حَجَّمت من صلاحياته ومسؤولياته، ولم يَعُد له سوى حق الإشراف على شؤون القبائل، والفصل بينهم في الخصومات حتى لا تَزُجَّ بنفسها بشكل مباشر معهم، ولتخوُّفها منهم، ولشريف مكة النظر في بعض المسائل التجارية والاجتماعية الخاصة، وحدَّدَت الدولة له راتبًا معينًا يتسلمه من الخزينة العثمانية المركزية في إستانبول، وألغت عددًا من الأموال والموارد التي كان الأمير يحصل عليها في المرحلة الأولى، وأوجدت الدولة العثمانية كثيرًا من الوظائف الإدارية والعسكرية التي تُعيِّن لها موظفين عثمانيين تكون مسؤولية الإشراف عليهم من قِبَل الوالي العثماني، ولم تكن تلك الوظائف والتعيينات واضحة منذ بداية عودة الحكم العثماني.
ووفقًا لما تنقله السالنامة العثمانية الخاصة بولاية الحجاز لعام 1303هـ / 1886م، فقد تكوَّنَت أركان الولاية من الآتي: عثمان نوري باشا، والي الولاية برُتبة مشير، ومجلس إدارته يتكوَّن من قاضي مكة المكرمة الحنفي عبد الرحيم أفندي، ومفتي الأحناف عبد الرحمن سراج أفندي، والمسؤول المالي (الدفتردار) أحمد منير بك، ومسؤول المراسلات والسكرتارية (المكتوبجي) علي عاطف بك، ومدير الحرم نظيف أفندي، إضافة إلى مأموري الولاية، وهم نائب الوالي (كتخدا الولاية) إسماعيل بك، ومسؤول الترجمة في الحرمين الترجمان أحمد عطا أفندي، وقائد الحامية آلاي بك عبد الرزاق بك، ومدير البريد والبرق علي رضا بك، ومأمور صحة مكة المكرمة نوري أفندي، وتعني كلمة “السالنامة” الكتاب السنوي، وفي السالنامة يتَّضح مدى إحكام عثمنة الحجاز، والسيطرة على تغيير جذوره العِرقية وتذويب الهوية له، وتلك سياسات تعدَّدَت في البلدان العربية.
لم تكن السياسة الجديدة التي اتبعتها الدولة العثمانية كما أرادت الدولة لها من تحقيق الاستقرار وسيادة الأمن في أرجاء الولاية كافة، بل كانت على العكس من ذلك؛ إذ إنها زادت من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في مختلف مدن الولاية، وبخاصة مكة المكرمة وجدة والطائف، وتمثَّل ذلك في عدة مظاهر، منها زرع بَوادر خلاف كبير بين والي الحجاز العثماني وأمير مكة المكرمة الشريف، ومنها ما كان سائدًا بين سنجق جدة العثماني وأمير مكة المكرمة من الأشراف كمثال، وكتب عن تلك الأحداث ووثَّق لها عدد من الباحثين في تاريخ المنطقة مثل السباعي والمعبدي ورضوان وصابرة وإكسونولد، وذلك صحيح إلى حد كبير؛ ولكن كما اتَّضح في عدد من الأحداث أن السياسة العثمانية الجديدة التي طُبِّقت في الإقليم كانت دافعًا ومحرِّضًا أساسيًّا لخلاف استمر طوال هذه الفترة بين كل الذين تولَّوا حُكم الحجاز، سواء من الولاة العثمانيين، أو من أمراء مكة المكرمة من الأشراف، وهو ما لم تشهده المرحلة الأولى بتلك الاستمرارية التي شهدتها المرحلة الثانية.
وفيما يخص الوالي العثماني – التركي – فقد كانت إقامته ومركزه الإداري مدينة جدة، وفيها يُشرف على شؤون الولاية كافةً، ويُمارس صلاحياته ومسؤولياته الأخرى، مثل ولاية الحبش ومشيخة الحرم المكي التي كان يكلِّف بها نائبًا له يسمى نائب الحرم، وتلك سياسة أتَت باضطرابات في الحجاز، والمصادر عجَّت بها.
ونتيجة مباشرة لفِتَن وسوء الأحوال أمَرت الدولة العثمانية الوالي بنقل مقر الوالي إلى مكة المكرمة؛ ليكون أكثر قدرة على مجابهة أمير مكة المكرمة، والسيطرة على شؤون الولاية، وعيَّنَت موظفًا عثمانيًّا في مدينة جدة يتبع للوالي تحت اسم قائمقام جدة.
وبدأ الصراع بين الوالي العثماني وأمير مكة المكرمة، ومثلًا كان الأمير يرى أن وجود موظف عثماني برتبة باشا يتولى شؤون الولاية كافة يمثِّل تعديًا صريحًا على صلاحياته بوصفه حاكمًا للحجاز، ونقصًا من مكانته بوصفه شريفًا، فأعنَفَ في مواجهة عثمان باشا، ما أدَّى إلى نشوب نـزاع بين الطرفين، لكنه لم يتطور إلى قتال مسلح، واستمر طوال عامي 1260 و 1261هـ / 1844 و 1845م، كان كلٌّ من الطرفين يسعى إلى إثارة الحكومة العثمانية في إستانبول ضد الآخر، واستمالتها إلى جانبه، ولكن الدولة رأت من الصالح عدم إثارة أمير مكة المكرمة وأشرافها، وبخاصة في هذه المرحلة المبكرة من عودة الحجاز إلى الحكم العثماني، فأمرت بعزل عثمان باشا من الولاية، وأوكلت إدارتها لوالٍ جديد هو شريف باشا في عام 1263هـ / 1847م.
لكن عزل الحكومة العثمانية لعثمان باشا لم يكن لاقتناعها بوجاهة أسباب أمير مكة المكرمة محمد بن عبد المعين بقدر ما كان تكتيكًا سياسيًّا لجأت إليه الحكومة خوفًا من ثورة الأشراف وانفصال الحجاز عنها، وخصوصًا أن محمد علي باشا ما زال مقيمًا في مصر، وما زالت أطماعه في إقامة دولة كبرى قائمة، إضافة إلى حداثة العودة العثمانية إلى الحجاز، وعدم استتباب القبضة العثمانية عليه، ولكن ما إن انتصف عام 1267هـ / 1851م حتى وصلت الأوامر العثمانية من إستانبول بإمضاء الصدر الأعظم رشيد باشا لوالي الحجاز عبد العزيز باشا الملقب بـ (آغا باشا) بعزل الشريف محمد بن عبد المعين، وترحيله مع عائلته وأبنائه إلى إستانبول، فأبلغ آغا باشا أمير مكة المكرمة، فلما لم يَجِد مفرًّا من الإذعان غادر مع أسرته وأبنائه إلى جدة، ومنها أبحر إلى إستانبول.
وتلك الحادثة توضح مدى سيطرة الدولة على شؤون مكة المكرمة، وتقليصها الكبير لصلاحيات الأمير.
ذلك غَيضٌ من فَيض لنتائج وأحداث اجتاحت الحجاز تحتاج إلى الدراسة بالبحث فيها لتوثيقها.