امتيازات العثمانيين للدول الغربية
بداية اختراق الاستعمار الاقتصادي والسياسي الأوروبي للمنطقة العربية
تعود العلاقات العثمانية الأوروبية إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وذلك عندما طلبت البندقية الصلح مع العثمانيين، الذين بدورهم عقدوا صلحًا معها سنة (1502)، وبعد ذلك عقد العثمانيون الصلح مع عدد من الدول الأوروبية سنة (1503)، كان من بينها فرنسا، وهي مرحلة تاريخية دخلت فيها أوروبا فترة صلح دامت نحو عشرين عامًا، فقد كانت الدولة العثمانية مضطرة للالتفات إلى الخطر الصفوي في جهة الشرق.
وفي عهد سليمان القانوني دخلت العلاقات السياسية العثمانية – الفرنسية طورًا جديدًا، خلال فترة حكم إمبراطور إسبانيا وملكها شارل الخامس، التي عُرفت أسرته بـ آل هابسبورج، التي سيطرت على مساحات كبيرة من أوروبا الغربية، والوسطى، وكانت فرنسا خارج تلك السيطرة، عندما رفضت الدخول تحت سلطة وحُكم هذه الأسرة، بل إنها دخلت معها في صراعات سياسية وعسكرية كثيرة.
سنة (1535) هُزم ملك فرنسا فرنسوا الأول، ووقَع أسيرًا في قَبضة شارل الخامس، فما كان من فرنسوا إلا أن أرسل من أَسْره رسالة، يستغيث فيها بسليمان القانوني طالبًا نُصرَته، والعون على فِكاك أَسْره، وأرسلت أُمُّه – التي كانت وَصِيَّةً على العرش الفرنسي في غيابه عنه – رسالة أخرى للسلطان، وحمل مَبعوثٌ منها الرسالتَين إلى إسطنبول، لكن فرنسوا أُطلِق سَراحه قبل أن يستجيب سليمان القانوني، ويقوم بمهاجمة قوات إمبراطورية آل هابسبورج، حيث وُقِّعَت معاهدةٌ – أُخْرِج من أَسْره بموجبها – بين الإمبراطورية المذكورة من جهة، وملك فرنسا من جهة أخرى.
ونظرًا لكون الملك فرنسوا قد أُجْبِر على توقيع تلك المعاهدة، وألزَمَه شارل الخامس فيها شروطًا صعبة، أرسل الملك فرنسوا مَبْعوثًا إلى القانوني سنة (1535)، طالبًا عَقْد معاهدة تحالف بين الدولتين؛ سعيًا منه إلى الاستفادة من قوة الدولة العثمانية في الحَدِّ من طموحات شارل الخامس، وإضعاف قوته، فقَبِل السلطان ذلك، وتم توقيع المعاهدة التي شَملَت ستة عشر بَنْدًا سنة (1536).
وتُعد المعاهدة العثمانية الفرنسية بمثابة الدَّعْم والمُساندة لمملكة فرنسا من أجل تنميتها عسكريًّا، واقتصاديًّا، والحَيْلولة دون وقوعها لُقْمة سَائغة لإمبراطورية آل هابسبورج، وبذلك أصبحت فرنسا بتوقيع المعاهدة مع العثمانيين أول دولة أوروبية تَحْصُل على امتيازات الدولة العثمانية، وتَبِعَها بعد ذلك عددٌ من الدول الأوروبية الأخرى فيما بعد، كانت أولها إنجلترا التي حصلت على امتياز تجاري عام (1580)، ثم تلتها هولندا عام (1612)، ثم النمسا عام (1616)، ثم جاءت دول أخرى بعد قرن، أو ما يزيد عنه، كالسويد، وصقلية، والدانمارك، وبروسيا، وإسبانيا.
والواقع أنها ليست مجرد معاهدة، بل امتيازات مُنِحت لأغراض عسكرية وسياسية، لضمان تنمية فرنسا الفقيرة في ذلك الوقت وانفصالها عن جبهة الأمم الأوروبية، فقد تم منح الامتيازات لفرنسا الضعيفة آنذاك، ومن ينظر لتلك الامتيازات أنها كانت من الدولة العثمانية في مرحلة من مراحل قوتها قبل أن تصل إلى مراحل من الانحدار والضعف، ويبدو أن فرنسا هي من صاغت بنود المعاهدة بدهاء ونظرة مستقبلية بعيدة المدى، بينما الأتراك العثمانيون في تلك المرحلة لم يكونوا ينظرون إلى منح الامتيازات على أنها تُشكِّل خطرًا مستقبليًّا، بينما بالنظر الفاحص لبنود تلك المعاهدة يدرك القارئ أن فرنسا قد حصلت على امتيازات لم تكن تحلم بها حينها، وهو ما أكَّد عليه المؤرخ التركي يلماز أوزتونا بقوله: “إن معاهدة الامتيازات هي معاهدة لتنمية فرنسا عسكريًّا واقتصاديًّا، والحيلولة دون وقوعها لقمة سائغة لألمانيا وإسبانيا، وهكذا منح الديوان الهمايوني فرنسا بعض الامتيازات التجارية التي من شأنها تقويتها ببعض الميزات التي لم يعترف بها لغيرها من الدول” .
صاغت الدول الأوروبية معاهداتها مع الدولة العثمانية بما يخدم مصالحها على المدى البعيد.
لقد احتوت بنود المعاهدة على ستة عشر بندًا، فتضمنت البنود الرابع، والخامس، والسادس، السابع منها تنازلات قانونية غير مسبوقة تَمَسُّ السيادة العثمانية، وفي مصلحة التجار الفرنسيين، فعلى سبيل المثال يحق لجميع التجار الذين تربطهم علاقة بين حاكمين أو يقدمون الجزية أخذ بضائعهم وشعبهم، والعيش بأمان وحرية، والدخول في علاقات ومعاملات مع سكان أراضي الدولتين، وسيكونون قادرين على ذلك للتنقل بحرية في سفن غير مسلحة. رعايا الحاكمين أحرار في شراء وبيع جميع أنواع البضائع وتبديلها ونقلها برًّا وبحرًا، باستثناء البضائع الممنوعة، ومنها أيضًا عدم جواز سماع الدعاوى المدنية التي يقيمها الأتراك ضد التجار أو الرعايا من الفرنسيين، ما لم يكن لدى المدعين الأتراك سندات رسمية موثقة من القاضي أو القنصل الفرنسي.
كان السلطان العثماني يرى أن هذا الأمر سيحل القضايا القانونية والجنائية والخلافات بين التجار الفرنسيين وشعبه، وفقًا للقوانين والعادات الدينية المعمول بها في الدولة العثمانية، ولن يتمكن أي قاضٍ عثماني من التدخل في هذا الأمر، ويكون القاضي الفرنسي مسؤولًا عن تقديم طلبات إلى الضباط والمسؤولين الآخرين لتنفيذ المتطلبات القانونية، وتنفيذ الأحكام في حالة عدم امتثال الفرنسيين، أو عصيان أوامر الاستدعاء، أو الامتثال للأوامر الصادرة عن القاضي الفرنسي، سيكون عليهم ذلك، حتى لو أراد التجار الذين هم من رعايا ملك فرنسا، وما إلى ذلك، أن تُنظر قضاياهم أمام المحاكم العثمانية، فإن القضاة لن يغفروا شكاواهم، خلاف ذلك سيكون قرارهم باطلًا.
كما تضمَّنت الامتيازات ما يقضي بأن الدعاوى القضائية بين الفرنسيين ورعايا السلطان، أو من قام بتكريم السلطان بسبب أمر قانوني، أو شخص يحمل الجنسية العثمانية أو وثيقة مكتوبة بخط يد خصمه، أو قاضٍ فرنسي في الدولة العثمانية، أو قنصله، لن يتم استدعاء الخصم الفرنسي أو محاكمته، ولن يكون هناك أي شكل من أشكال المضايقة، كما لن يتمكن القضاة والضباط والمسؤولون الآخرون من استجواب والحكم على شخص فرنسي بدون أحد مترجمي القنصلية الفرنسية.
كما أنه لن يَمثُل أي تاجر أو أي شخص فرنسي أمام القضاة العثمانيين وغيرهم من مسؤولي المحاكم بسبب البنود الجزائية؛ لأنه خارج حق وسلطة القضاة وموظفي المحاكم الآخرين في محاكمة القضايا الجنائية لمثل هؤلاء الأشخاص، وإذا ظهرت قضية جنائية يستدعي الاحتكام فيها التواجد في إسطنبول لا يمكن إحالتها على الفور إلى الحكومة العثمانية. وقد تتابع تجديد المعاهدة العثمانية الفرنسية وإضافة بنود جديدة تصب في مصلحة فرنسا، التي استفادت كثيرًا من المراحل التي مرَّت بها الدولة العثمانية من تذبذب وضعف، كالسماح لفرنسا بالحرب البحرية في المياه العثمانية، والسماح فيما بعد للسفير الفرنسي بزيارة بيت المقدس، ومقابلة الرهبان والقساوسة، وجعل جميع الكاثوليك المقيمين بأراضي الدولة العثمانية تحت حماية فرنسا منذ فترة مبكرة.
وصف مؤرخون كُثُر الامتيازات التي مَنَحها السلطان العثماني لملك فرنسا في بُنُود المعاهدة بأنها كانت البداية للاختراق الاقتصادي للمنطقة العربية والعالم الإسلامي، مما مَهَّد فيما بعد لقُدوم جيوش الاحتلال الأوروبي، بحجة حماية المصالح الاقتصادية الأوروبية في المنطقة.
ومما ترتب على تلك الامتيازات الفرنسية الأثر السلبي على العالم العربي، فقد تبعها توقيع معاهدات والسماح بإرساليات دينية كاثوليكية عدة إلى كافة بلاد الدولة الموجود بها نصارى، خصوصا الشام، لتعليم أولادهم، وتربيتهم على محبة فرنسا، وهو أمر قد وضع اللبنات الأولى – وبشكل قانوني ورسمي – للوصاية الفرنسية على النصارى في بلاد الشام، هذه الوصاية التي نكبت البلاد العربية منذ القِدَم، وما زالت آثارها ماثلة حتى يومنا الراهن.
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط (بيروت: الدار العربية للعلوم ، 1994م).
- محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، ط2 (بيروت: دار النفائس، 1983).
- يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود (إسطنبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988).