التهاون العثماني مع الأوروبيين
حوَّل البحر الأبيض المتوسط من بحر عربي إلى فرنسي
كانت سياسة منح امتيازات اقتصادية وقنصلية وعسكرية للأوروبيين إحدى الطرق التي انتهجتها الدولة العثمانية لاستمالة الدول الأوروبية لصالحها وتنفيذ أجنداتها، ومع ذلك لم تنجح تلك السياسة، فقد انقلب عليها الفرنسيون على سبيل المثال، وبالرغم من كل الامتيازات غير المألوفة التي منحها العثمانيون للفرنسيين، إلا أنهم غدروا بهم، ولم يَفُوا بتعهداتهم بغزو مشترك على إيطاليا أو النمسا أعداء العثمانيين، بل إن الفرنسيين أعادوا تحالفهم مع النمساويين.
سار العثمانيون على طريق خاطئ أثمر فيما بعد عن فتح الباب للأوروبيين لغزو البلاد العربية من جديد بعد تلك الامتيازات بعدة عقود، وكأن سلاطين بني عثمان قد فتحوا الباب مجددًا للحملات الصليبية لتطأ الأراضي العربية تحت باب الامتيازات هذه المرة.
المنح العثمانية
لم تكن فرنسا الأولى في الاستفادة من سياسة الامتيازات العثمانية، فقد سبقها منح إمارتَي جنوة والبندقية امتيازات تجارية مهمة، لكن فرنسا لكونها صاحبة أسطول عسكري وتجاري كبير استفادت من تلك الامتيازات، التي كان أهمها منح حرية التجارة البحرية للفرنسيين، ما حوَّل فرنسا إلى عملاق التجارة في البحر الأبيض المتوسط، في حين كان يعاني العرب الذين احتلَّهم العثمانيون من ويلات الفقر والجوع وتحطُّم تجارتهم.
لذا شهد النشاط التجاري الفرنسي في البحر المتوسط في القرن الثامن عشر تطورًا ملحوظًا، حيث ترددت السفن الفرنسية على معظم موانئ البحر المتوسط لتنقل البضائع من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال دون عوائق، بسبب الحماية التركية والامتيازات الخاصة، حتى إنها حققت تفوقًا ملحوظًا على السفن العثمانية ذاتها، وبلغ الأمر أنها كانت تنقل البضائع ومنتجات الولايات العثمانية إلى حاضرة الدولة العثمانية نفسها.
وأعفى العثمانيون كل فرنسي من دفع الخراج الشخصي، كما أن المراكب العثمانية ملزمة بمساعدة ما يرتطم من السفن الفرنسية على شواطئ الدولة، وبحفظ ما بها من الرجال والمتاع، وبذلك صارت فرنسا ملكة التجارة في البحر الأبيض المتوسط وجميع البلاد المُحتلَّة من قِبل الدولة العثمانية، في المقابل كان أبناء القرى العرب يدفعون المكوس والضرائب، وتُحمل على ظهور السفن والقوافل باتجاه السلطنة العثمانية لتزداد غنى ويزداد العرب فقرًا.
تقول الكاتبة صليحة بغزو في مؤلَّفها عن الامتيازات الأوروبية في المنطقة العربية: “لقد استفادت فرنسا من الامتيازات التي منحها العثمانيون لها أكثر مما استفاد العثمانيون أنفسهم”، في المعاهدة التي تمت بين السلطان سليمان القانوني والفرنسيين، وانعقدت لتلبية المطالب الغربية دون مقابل يذكر، واستفادت منها فرنسا عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، واستغلتها لفتح أبواب التجارة مع المشرق.
كما قام الفرنسيون بنشر قنصلياتهم في كافة أنحاء الأقاليم العثمانية بهدف اختراقها، والوصول إلى أعماق المجتمع العربي، في الإسكندرية وبيروت وطرابلس والشام، وهي المدن التي احتلتها فرنسا فيما بعد.
أما البحر الأبيض المتوسط فتحوَّل من بحيرة عربية إلى فرنسية بسبب الانحياز العثماني للأوروبيين، وأجبر العثمانيون الموانئ العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط لتكون مرافئ آمنة للفرنسيين، وتقدم الدعم والحماية والتعويض حتى عند ارتطامها بالشُّعَب المرجانية، ولعبت تلك الموانئ دورًا كبيرًا في جذب حركة التجارة الدولية، وكان من أبرزها موانئ مصر والشام والمغرب وتركيا، التي سهَّلت صفقات التجارة الفرنسية، حتى صارت السفن الفرنسية أهم السفن التجارية وأكثرها نشاطًا في البحر خلال القرن الثامن عشر.
اخترق الفرنسيون العالم العربي بمباركة عثمانية.
وفي خضم ذلك النشاط التجاري الفرنسي لعبت مصر دورًا بارزًا في ذلك الوقت، خاصة بعد تراجع دور طريق رأس الرجاء الصالح، وعودة الريادة إلى الطرق والموانئ المصرية، ودورها في الربط بين تجارة الشرق والغرب، خاصة أن فرنسا ساهمت في إضعاف طريق رأس الرجاء الصالح لإضعاف النفوذ الهولندي والإنجليزي، وقد نتج عن هذا سيطرة مصر على ثلثي التجارة الأوروبية عبر المتوسط، مما جذب إليها الكثير من التجار والجاليات الأوروبية، خاصة الجاليات الفرنسية.
- محمد قطب، “النشاط التجاري الفرنسي في البحر المتوسط في القرن الثامن عشر الميلادي”، مجلة بحوث الشرق الأوسط، القاهرة- جامعة عين شمس، العدد 53 (2020).
- صليحة بغزو، الامتيازات الأوروبية في المنطقة العربية، جامعة يحيى فارس، الجزائر، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية (2019).
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).