أعقاب الهزيمة الكبرى سنة (1829)
الإذلال الروسي للعثمانيين أرخى بظلاله على زيادة الأطماع تجاه البلاد العربية
الامتيازات الأجنبية في العقلية العثمانية:
استخدم العثمانيون الامتيازات الأجنبية لاستمالة الدول المعادية لها، وكانت هذه الامتيازات أقرب ما تكون إلى استباحة أجنبية للسلطنة وقوانينها، فالامتيازات الأجنبية في عصر الدولة العثمانية الممنوحة لفرنسا على سبيل المثال؛ أقرَّت للفرنسيين قانونًا خاصًّا ينفصل عن سلطة الدولة العثمانية، امتيازات غير معتادة بين الدول، لكن السلطان سليمان القانوني منحها للفرنسيين أعقاب توقيعه مع ملك فرنسا فرنسوا الأول، ومع مرور الوقت انتشرت القنصليات الفرنسية ممثلة لاحتلال فرنسي غير واضح، متسترة وراء امتيازاتها داخل الدولة العثمانية، حتى أصبحت تمثل سلطة فعليَّة داخل الدولة.
امتيازات عدَّتها الدول الأوروبية – لاحقًا- حقوقًا مكتسبة لها ولرعاياها، أما التبرير الذي ساقته السلطة العثمانية لم يبتعد عن أن العثمانيين كانوا بأمَسِّ الحاجة للعلاقات التجارية الأوروبية والتجار الأوروبيين لتنشيط حركة التجارة لديهم، لكن هل هذا يكفي لإعطاء الأوروبيين والروس من بعدهم كل تلك الامتيازات، منها إعفاءات كبيرة من الضرائب، وامتيازات دينية تغلغلت داخل الجسد العثماني، ما أسفر عن تدخل الأوروبيين في الشؤون الداخلية للدولة، وأعاق جهود الإصلاح والتنظيم.
الامتيازات الروسية:
في أعقاب الهزيمة المَذَلَّة للعثمانيين من الروس العام (1829) أدرك الأوروبيون – فرنسا وإنجلترا- أن الروس اقتربوا كثيرا من حدودهم الأوروبية، ما دفعهم لإقناع العثمانيين بقبول الصلح وتوقيع معاهدة أدرنة مع روسيا في عهد السلطان محمود، والتي بمقتضاها دعمت روسيا مركزَها في البحر الأسود، بينما تقَلَّصت السيادة العثمانية، فانحسرت عن جميعِ مَصابِّ نهر الدانوب في البحر الأسود.
مع حرية الملاحة الروسية في البحر الأسود، وعَدَم تفتيش السُّفُن الروسية أثناء عبورِها للمضائق العثمانية، وتعَويض الدولة العثمانية روسيا مبالِغ كمصاريف حرب، يُطلَق سراح الأسرى الذين عند الدولتين، وتستَقِل بلاد الصرب، وتُعاد الامتيازات القنصلية الروسية، ويعامَل رعايا روسيا معاملة رعايا الدول الأوروبية الأخرى بذات الامتيازات.
من الانتصار الروسي إلى إذلال العثمانيين:
كان هدف الروس بعد الانتصار الساحق على العثمانيين من توقيع اتفاقية أدرنة؛ هو إذلالهم ودفعهم للإفلاس، وفرض تبعية الدولة العثمانية لهم، وعلى إثر تلك الهزيمة والمعاهدة فُرضت غرامات حرب لصالح الروس قدرها قرابة 12 مليون قطعة ذهبية، القصد منها تكبيل العثمانيين ماليًّا، في الوقت الذي كانت فيه الحرب في حد ذاتها استنفدت مالية العثمانيين ودمرتها.
لم يتوقف الانتصار العسكري على الأرض فقط، بل امتدت تأثيراته إلى مساحات واسعة، فقد عُدَّت معاهدة أدرنة انتصارًا باهرًا لسياسة القيصر الروسي نيقولا الأول، إثر حصوله على امتيازات فتحت له أبواب الدولة العثمانية من جهة الدانوب والقوقاز، وتغلغل فيها النفوذ التجاري الروسي، وبذلك أصبحت الدولة العثمانية بأكملها بعاصمتها إسطنبول تحت رحمة الروس، وكان بإمكانهم القضاء عليها متى شاءوا.
يقول إياد ناظم في كتابه “الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية”: “مع مطلع القرن التاسع عشر مرَّ الموقف الروسي تجاه الدولة العثمانية بمرحلتين؛ الأولى: تمثلت بازدياد النفوذ الروسي في محاولته قطع أوصال الدولة العثمانية من خلال مساندة روسيا للتمردات البلقانية، ويتَّضح ذلك جليًّا في حصولها على امتيازات في المضائق بعد الغزو العسكري المباشر للدولة العثمانية، وإجبارها على توقيع معاهدة أدرنة عام (1829)، أما الثانية: فتمثلت في مهمة البحث عن نتائج انحلال الدولة العثمانية”.
وسياسة روسيا التي لعبت دور المراقب لما يجري داخل الدولة العثمانية في استغلال أي ظرف تمر به لتحقيق مكاسبها بطرق سليمة، تجسَّدت في مساندة روسيا للدولة العثمانية في القضاء على توسُّع محمد علي، وبالتالي أجبر السلطان محمد الثاني على الموافقة على عرض روسيا.
الأثر على الإقليم العربي:
لم يكن الإقليم العربي يحتل موقعًا مهمًّا ولا أولوية من أولويات العثمانيين، لا سياسيًّا ولا اقتصاديًّا، ولا حتى ادعاءهم الأخوة الإسلامية، وعند عقد تلك الامتيازات السياسية والتجارية، كان لا بد أن يقع تأثيرها على الأقاليم العربية المحتلة من العثمانيين، ومع ذلك لم يأخذ العثمانيون البلاد العربية في حسبانهم، ولم يلتفتوا إليها أبدًا.
لقد نتج عن تلك الامتيازات العثمانية للروس أن حاول قيصر روسيا نيقولا عام (1853) الاتفاق مع بريطانيا على اقتسام أملاك الدولة العثمانية، ومنها أراضٍ عربية، فاقترح على بريطانيا اقتسام مصر وكريت، في مقابل أن تستولي روسيا على إسطنبول، لكن بريطانيا رفضت الفكرة، خاصة وأنها لم تكن تزال – حينها- متمسكة بإستراتيجية المحافظة على الدولة العثمانية.
وبسبب فشل روسيا في هذه المحاولة مع بريطانيا حاولت التأثير على فلسطين عن طريق الكنائس المسيحية فيها في محاولة للسيطرة عليها، وبهذا تدخلت فرنسا أيضًا بحجة حماية المسحيين في القدس ولبنان.