الإنجليز فازوا بمميزات تشابه المميزات الفرنسية
فقدت الدولة العثمانية سيادتها الحقيقية داخل إطار الامتيازات الأجنبية
شكَّلت الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية للقوى الأجنبية المفاتيح التي مهَّدت للتدخل الاستعماري في المنطقة العربية، خاصة وأن هذه الامتيازات مُنحت في مناطق مُحتلَّة من الدولة العثمانية، فيما تحفظت إسطنبول على منحها داخل المجال الترابي التاريخي للسلطة، إلا في حدود ما يرفع من خزينة الدولة لتمويل مجهودها الحربي.
كانت الامتيازات الأجنبية أهم أسباب استغلال التدخلات الاستعمارية في المنطقة العربية.
هذا التوجه شكَّل انحرافًا عن الشعارات والمبرِّرات التي ادَّعَتها الدولة العثمانية قبل احتلالها أجزاء كبيرة من الوطن العربي، وهو رد على بعض المتعثمِنين والمتأتركين، الذين يرون في إسطنبول عاصمة إسلامية تمثل سلطة الخلافة المزعومة.
في هذا الصدد لم تكن اتفاقيات الامتيازات بدعة عثمانية من ناحية المرجعية الاصطلاحية أو القانونية أو المعاملات التجارية بين الدول، ولذلك انبرى المؤرخون للحكم على هذه الاتفاقيات ليس من خلال المبدأ، وإنما من خلال علاقتها بممارسة السيادة على المجال الترابي للدولة.
وهنا يرى الباحثون أن الامتيازات العثمانية لفائدة الدول المسيحية لم تكن من قَبِيل تسهيل المعاملات التجارية، أو “المعاملة بالمثل” فقط، وإنما شكَّل، بعضها، تنازلاً خطيرًا على سيادة الدولة، وتمييزًا سلبيًّا بين المواطنين والمقيمين، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن “تلك الامتيازات التي ارتبطت بسليمان القانوني”.. “كانت فاتحة شر على العثمانيين، وعلى الشعوب العربية الخاضعة لاحتلالهم”.
ويمكن القول بأن معاهدة الامتيازات العثمانية الفرنسية التي عُقدت بين فرنسوا الأول ملك فرنسا وسليمان القانوني سنة (1535)، قد فتحت المجال أمام إنجلترا ليشملها الاتفاق ولو مستقبلاً، حيث نص الجزء الثاني من البند 15 من المعاهدة على إمكانية دخول إنجلترا “في هذا الاتفاق إذا وافقت على ذلك في بحر ثمانية أشهر، وقد اشترط ملك فرنسا أن يكون للبابا وملك إنجلترا الحق في الاشتراك بمنافع هذه المعاهدة لو أرادوا”.
في هذا السياق، شكَّلت بدايات القرن 16 انفتاح بريطانيا على التجارة مع إمارات الشرق، ليتجسَّد ذلك بتوقيعها على معاهدات تجارية مع مجموعة من الأقاليم الخاضعة للسلطنة العثمانية، وهو ما أعطى المؤشرات الأولى للتنسيق التجاري بين الإمبراطوريتين.
في هذا الإطار، نشير إلى أن المحاولات الأولى تمت بشكل فردي، وقام بها التاجر الإنجليزي أنطوني جنكسون، الذي التقى بالسلطان سليمان القانوني سنة (1553)، حيث تمكن من الحصول على حرية التجار الإنجليز في مزاولة نشاطهم التجاري في أقاليم الدولة العثمانية، لكن تحت راية العلم الفرنسي.
وبالرغم من هذا الاتفاق فإن التجار الإنجليز كانوا يفضلون الطرق البرية التي تمر عبر إيران، وهو ما أثار حفيظة العثمانيين الذين كانوا يريدون الاستفادة من منافع عبور التجار الإنجليز، مما حدا بالعثمانيين إلى التصدي لهم حتى تُجبرهم على المرور ضمن أراضيها، فقاموا سنة (1562) بإرسال وفد إلى الشاه ليطلب منه عرقلة اتجاه الطريق التجاري، وفي سنة (1578) تمكَّن العثمانيون من إخضاع أذربيجان وشيروان، مما جعلهم يسيطرون في نهاية الأمر على هذه الطريق.
تطورت العلاقات العثمانية البريطانية رغم معارضة فرنسا والبندقية لها، ونجم عن ذلك عقد اتفاقيات بامتيازات لصالح التجار البريطانيين، الذين كانوا يشكِّلون مصدرًا مهمًّا لدعم الخزينة العثمانية التي أنهكتها الحروب والانشقاقات غربًا وجنوبًا وشمالاً، وبمقتضى معاهدة الامتيازات المُبرَمة بين الطرفين سنة (1580) سُمِح بحرية التجار الإنجليز في مزاولة نشاطهم التجاري في أقاليم الدولة العثمانية، وحق رفع العلم الإنجليزي على السفن التجارية بدلاً من العلم الفرنسي، فضلاً عن تخفيض نسبة الرسوم الجمركية.
إن قراءة نقدية لمعاهدة الامتيازات بين الدولة العثمانية وبريطانيا تمر عبر تحليل بنود الاتفاقية، التي تضم بنودًا تدخل في خانة التعامل التجاري العادي، فيما بعض البنود تمَسُّ بجوهر السيادة العثمانية، وشكَّلت مبررًا للتدخل البريطاني في الشؤون الداخلية للأقاليم الخاضعة للحكم العثماني.
وهنا نشير، على سبيل التدليل لا الحصر، إلى البند السابع عشر من الاتفاقية، الذي ينص على “في حالة حدوث خلاف بين الإنجليز أنفسهم فإن السفير المذكور أو القنصل هو الذي يتولى الفصل بينهم بموجب أعرافهم، ولا يجوز لأحد منعهم من ذلك”، هذا البند وإن كان مقبولاً بخصوص الأمور المدنية بين الإنجليز فإنه يصطدم مع النوازل الجنائية، أو التي لها تأثير على الأمن العام، حيث الاختصاص يكون مرتبطًا بمكان وقوع الجريمة، وغير مرتبط بجنسية مرتكبيها.
ومن خلال هذا البند يتبيَّن أن الإنجليز استغلوا هذا الفجوة من أجل توسيع دائرة وصايتهم على المسيحيين، وليس فقط على المواطنين الإنجليز، وذلك وفق تفاهمات وتوافقات مع قوى دولية أخرى على أساس تبادُل الوصايات على الرعايا المسيحيين، وهو ما شكَّل الإطار المبدئي للاتفاقيات التي عقدها الغرب المسيحي لتقسيم العالم العربي والإسلامي.
وبين ضرورات المحافظة على التوازنات السياسية والعسكرية، ومحاولة تخفيف العبء على خزينة الدولة العثمانية، وبين الأطماع الغربية في إيجاد موطئ قَدمٍ لها في المنطقة العربية من خلال استغلال اتفاقيات الامتيازات “كحصان طروادة”، بدأ التغلغل الاستعماري في المنطقة.
1- إدريس الناصر، العلاقات العثمانية الأوروبية في القرن 16 (بيروت: دار الهادي 2008).
2- سهيلة أحمد، الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية بين الآثار الإيجابية والسلبية، رسالة ماجستير، جامعة المدية، الجزائر (2015).
3- ميسون عبيدات، الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية (عمَّان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1435هـ).
4- وليد فكري “الامتيازات.. عندما سلّم العثمانيون للمستعمر مفاتيح البلاد”، مقالة نشرت على موقع قناة سكاي نيوز عربية على الرابط:
https://www.skynewsarabia.com/blog/1330906
5- ياسر قاري، دور الامتيازات الأجنبية في سقوط الدولة العثمانية، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى (2001).
6- الياقوت أحمد، معاهدات الامتيازات بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، رسالة ماجستير، جامعة النيلين (2018).
حصل الألمان على امتيازات أشعلت التنافس الأجنبي
التحالف العسكري للألمان مع الدولة العثمانية أضرَّ بالمنطقة العربية
تعتبر مسألة الامتيازات الأجنبية من أخطر عوامل ضعف الدولة العثمانية، نظرًا للأثر السيئ للامتيازات في بنية الاقتصاد والمجتمع، وانعكاس ذلك على الولايات العثمانية، وفي مقدمتها الولايات العربية، التي تأثرت بشدة بهذا الأمر.
بدأت حُمى الامتيازات الأجنبية مبكرًا في تاريخ الدولة العثمانية، منذ القرن السادس عشر، وبصفة خاصة مع الاتفاقية التي أبرمها السلطان سليمان القانوني مع فرنسا، تحت دعوى المساعدة في تنمية فرنسا وتقويتها لتكون حليفًا أساسيًّا للدولة العثمانية في غرب أوروبا، وبعدما انتشرت حمى الامتيازات الأجنبية لتشمل العديد من الدول الأوروبية، خاصةً مع دخول الدولة العثمانية مرحلة الضعف، وتحوُّلها إلى “رجل أوروبا المريض”، ويكفي أن نذكر هنا تجرؤ فرنسا -حليفة الدولة العثمانية، وأول من استفاد من الامتيازات الأجنبية- على احتلال مصر عام (1798)، ثم احتلال الجزائر (1830)، وهما من أهم ولايات الدولة العثمانية، كما استفادت إنجلترا من عقد الامتيازات الأجنبية مع الدولة العثمانية، ومع ذلك تجرأت الأولى، وقامت باحتلال مصر عام (1882).
وجاءت ألمانيا في مؤخرة الدول الأوروبية التي استفادت من نظام الامتيازات الأجنبية؛ نظرًا لتأخر حدوث الوحدة الألمانية، وظهور الإمبراطورية الألمانية كقوة كبرى على الساحة الأوروبية والدولية؛ إذ بدأ التغلغل الألماني في الدولة العثمانية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفي حقيقة الأمر رحبت الدولة العثمانية بشدة بمسألة التقارب مع ألمانيا، وعقد العديد من الامتيازات معها، وكانت حجة الدولة العثمانية في ذلك أن ألمانيا لم يُعرَف عنها تاريخ استعماري في المنطقة، ولم تقم باحتلال بعض الولايات العثمانية، مثلما فعلت إنجلترا وفرنسا، وللأسف لم تدرك الدولة العثمانية أن اهتمام ألمانيا بالمنطقة يرجع إلى التنافس الاستعماري بين ألمانيا والدول الاستعمارية الكبرى، مثل إنجلترا وفرنسا وروسيا، ويؤكد ذلك مدى فشل الدبلوماسية العثمانية، وعدم قدرتها على قراءة الأوضاع الدولية، في ظل التنافس الأوروبي على مناطق النفوذ في آسيا وأفريقيا.
ويعتبر منح ألمانيا امتيازات مهمة فيما يتعلق بخطوط المواصلات داخل الدولة العثمانية، لا سيما الولايات العربية، من أهم وأخطر الأمور؛ نظرًا لانعكاس ذلك على المنطقة العربية، وفتح المجال للمزيد من تغلغل النفوذ الأوروبي، والتنافس الاستعماري على المنطقة؛ إذ ترتب على زيارة الإمبراطور الألماني ويليام الثاني للدولة العثمانية في عام (1898) منح ألمانيا امتيازًا جديدًا لإنشاء خط سكة حديد برلين-بغداد بتمويل من البنك الألماني، ثم طُرحت بعد ذلك فكرة امتداد هذا الخط من بغداد إلى البصرة، لكي يصل إلى رأس الخليج العربي، وبذلك تمتد يد ألمانيا إلى هذه المنطقة الإستراتيجية ذات الطابع الخاص.
وأثار هذا المشروع غضب إنجلترا، التي نظرت إلى هذا الخط على أنه تغلغل ألماني في المنطقة التي تعتبرها إنجلترا ذات أهمية خاصة لها؛ إذ إنها أحد الممرات الأساسية إلى الهند؛ أكبر مستعمرات إنجلترا في آسيا.
كما أن دخول ألمانيا إلى المنطقة عرقل الخطط المستقبلية لإنجلترا في السيطرة على المشرق العربي، خاصةً بعد احتلال بريطانيا لمصر عام (1882)، من هنا شهدت المنطقة منذ ذلك الوقت صراعًا مريرًا بين القوى الاستعمارية، وهو ما ظهر جليًّا أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
ومن النقاط المثيرة في موضوع الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدولة العثمانية لألمانيا، ومدى تأثير ذلك على المنطقة العربية، مسألة مدى ارتباط ذلك بالمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ويضرب البعض مثالاً على ذلك بمسألة تأسيس المستعمرة الشهيرة “بتاح تكفا” في فلسطين، والملابسات التي دارت حول ذلك الأمر؛ إذ قرَّر الصهيوني بتاح تكفا المشمول بالجنسية الألمانية بناء مستعمرة دون أخذ الإذن القانوني، واعترض عرب المنطقة على ذلك الأمر، كما اعترض والي القدس، وطالب بإزالة المستعمرة، وعندئذٍ قدم القنصل الألماني في القدس احتجاجًا إلى السلطات المحلية في فلسطين، وعندما لم يفلح القنصل الألماني في تمرير الأمور مع السلطات المحلية، قام برفع المسألة إلى السفير الألماني في إسطنبول، التي نجحت عام (1883) بتمرير الأمر استنادًا إلى مسألة الامتيازات الأجنبية، حيث وافقت إسطنبول على مشروعية بناء المستعمرة.
ومن النقاط الأخرى المثيرة، والتي انعكس أثرها السيئ على المنطقة العربية، مسألة تغلغل نفوذ الجيش الألماني داخل الجيش العثماني؛ حيث حصلت ألمانيا على امتياز تطوير الجيش العثماني من خلال إرسال البعثات العسكرية الألمانية لتدريب الجيش العثماني، هذا فضلاً عن امتياز إمداد الجيش العثماني بالأسلحة اللازمة من خلال مصانع التسليح الألمانية، وأدَّى ذلك إلى ازدياد شعبية النموذج العسكري الألماني داخل صفوف الضباط والقادة العثمانيين، وأدَّت البعثات دورها الناجح في جر الدولة العثمانية إلى التحالف مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، وعلى رأسهم إنجلترا وفرنسا.
وانعكس هذا التحالف العسكري العثماني-الألماني بالأثر السيئ على مستقبل المنطقة العربية؛ إذ أصبحت منطقة المشرق العربي ميدانًا عسكريًّا للصراع الاستعماري أثناء الحرب العالمية الأولى، ونتج عن ذلك سقوط المشرق العربي – خاصةً العراق وبلاد الشام- في يد إنجلترا وفرنسا، بعد هزيمة الدولة العثمانية وألمانيا في الحرب.
ربط العثمانيون مصيرهم بالألمان وكان سقوط الألمان سقوطًا لهم في الحرب العالمية الأولى.
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).
- سحر أحمد، “النفوذ الألماني في الدولة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر”، من بحوث في المؤتمر العلمي لكلية التربية بالجامعة المستنصرية، العراق، د.ت.
- سهام هنداوي، التطور التاريخي للعلاقات الألمانية العثمانية.. وثائق سرية 1876- 1909 (دمشق: دار نينوى، 2015).
أعقاب الهزيمة الكبرى سنة (1829)
الإذلال الروسي للعثمانيين أرخى بظلاله على زيادة الأطماع تجاه البلاد العربية
الامتيازات الأجنبية في العقلية العثمانية:
استخدم العثمانيون الامتيازات الأجنبية لاستمالة الدول المعادية لها، وكانت هذه الامتيازات أقرب ما تكون إلى استباحة أجنبية للسلطنة وقوانينها، فالامتيازات الأجنبية في عصر الدولة العثمانية الممنوحة لفرنسا على سبيل المثال؛ أقرَّت للفرنسيين قانونًا خاصًّا ينفصل عن سلطة الدولة العثمانية، امتيازات غير معتادة بين الدول، لكن السلطان سليمان القانوني منحها للفرنسيين أعقاب توقيعه مع ملك فرنسا فرنسوا الأول، ومع مرور الوقت انتشرت القنصليات الفرنسية ممثلة لاحتلال فرنسي غير واضح، متسترة وراء امتيازاتها داخل الدولة العثمانية، حتى أصبحت تمثل سلطة فعليَّة داخل الدولة.
امتيازات عدَّتها الدول الأوروبية – لاحقًا- حقوقًا مكتسبة لها ولرعاياها، أما التبرير الذي ساقته السلطة العثمانية لم يبتعد عن أن العثمانيين كانوا بأمَسِّ الحاجة للعلاقات التجارية الأوروبية والتجار الأوروبيين لتنشيط حركة التجارة لديهم، لكن هل هذا يكفي لإعطاء الأوروبيين والروس من بعدهم كل تلك الامتيازات، منها إعفاءات كبيرة من الضرائب، وامتيازات دينية تغلغلت داخل الجسد العثماني، ما أسفر عن تدخل الأوروبيين في الشؤون الداخلية للدولة، وأعاق جهود الإصلاح والتنظيم.
الامتيازات الروسية:
في أعقاب الهزيمة المَذَلَّة للعثمانيين من الروس العام (1829) أدرك الأوروبيون – فرنسا وإنجلترا- أن الروس اقتربوا كثيرا من حدودهم الأوروبية، ما دفعهم لإقناع العثمانيين بقبول الصلح وتوقيع معاهدة أدرنة مع روسيا في عهد السلطان محمود، والتي بمقتضاها دعمت روسيا مركزَها في البحر الأسود، بينما تقَلَّصت السيادة العثمانية، فانحسرت عن جميعِ مَصابِّ نهر الدانوب في البحر الأسود.
مع حرية الملاحة الروسية في البحر الأسود، وعَدَم تفتيش السُّفُن الروسية أثناء عبورِها للمضائق العثمانية، وتعَويض الدولة العثمانية روسيا مبالِغ كمصاريف حرب، يُطلَق سراح الأسرى الذين عند الدولتين، وتستَقِل بلاد الصرب، وتُعاد الامتيازات القنصلية الروسية، ويعامَل رعايا روسيا معاملة رعايا الدول الأوروبية الأخرى بذات الامتيازات.
من الانتصار الروسي إلى إذلال العثمانيين:
كان هدف الروس بعد الانتصار الساحق على العثمانيين من توقيع اتفاقية أدرنة؛ هو إذلالهم ودفعهم للإفلاس، وفرض تبعية الدولة العثمانية لهم، وعلى إثر تلك الهزيمة والمعاهدة فُرضت غرامات حرب لصالح الروس قدرها قرابة 12 مليون قطعة ذهبية، القصد منها تكبيل العثمانيين ماليًّا، في الوقت الذي كانت فيه الحرب في حد ذاتها استنفدت مالية العثمانيين ودمرتها.
لم يتوقف الانتصار العسكري على الأرض فقط، بل امتدت تأثيراته إلى مساحات واسعة، فقد عُدَّت معاهدة أدرنة انتصارًا باهرًا لسياسة القيصر الروسي نيقولا الأول، إثر حصوله على امتيازات فتحت له أبواب الدولة العثمانية من جهة الدانوب والقوقاز، وتغلغل فيها النفوذ التجاري الروسي، وبذلك أصبحت الدولة العثمانية بأكملها بعاصمتها إسطنبول تحت رحمة الروس، وكان بإمكانهم القضاء عليها متى شاءوا.
يقول إياد ناظم في كتابه “الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية”: “مع مطلع القرن التاسع عشر مرَّ الموقف الروسي تجاه الدولة العثمانية بمرحلتين؛ الأولى: تمثلت بازدياد النفوذ الروسي في محاولته قطع أوصال الدولة العثمانية من خلال مساندة روسيا للتمردات البلقانية، ويتَّضح ذلك جليًّا في حصولها على امتيازات في المضائق بعد الغزو العسكري المباشر للدولة العثمانية، وإجبارها على توقيع معاهدة أدرنة عام (1829)، أما الثانية: فتمثلت في مهمة البحث عن نتائج انحلال الدولة العثمانية”.
وسياسة روسيا التي لعبت دور المراقب لما يجري داخل الدولة العثمانية في استغلال أي ظرف تمر به لتحقيق مكاسبها بطرق سليمة، تجسَّدت في مساندة روسيا للدولة العثمانية في القضاء على توسُّع محمد علي، وبالتالي أجبر السلطان محمد الثاني على الموافقة على عرض روسيا.
الأثر على الإقليم العربي:
لم يكن الإقليم العربي يحتل موقعًا مهمًّا ولا أولوية من أولويات العثمانيين، لا سياسيًّا ولا اقتصاديًّا، ولا حتى ادعاءهم الأخوة الإسلامية، وعند عقد تلك الامتيازات السياسية والتجارية، كان لا بد أن يقع تأثيرها على الأقاليم العربية المحتلة من العثمانيين، ومع ذلك لم يأخذ العثمانيون البلاد العربية في حسبانهم، ولم يلتفتوا إليها أبدًا.
لقد نتج عن تلك الامتيازات العثمانية للروس أن حاول قيصر روسيا نيقولا عام (1853) الاتفاق مع بريطانيا على اقتسام أملاك الدولة العثمانية، ومنها أراضٍ عربية، فاقترح على بريطانيا اقتسام مصر وكريت، في مقابل أن تستولي روسيا على إسطنبول، لكن بريطانيا رفضت الفكرة، خاصة وأنها لم تكن تزال – حينها- متمسكة بإستراتيجية المحافظة على الدولة العثمانية.
وبسبب فشل روسيا في هذه المحاولة مع بريطانيا حاولت التأثير على فلسطين عن طريق الكنائس المسيحية فيها في محاولة للسيطرة عليها، وبهذا تدخلت فرنسا أيضًا بحجة حماية المسحيين في القدس ولبنان.