من خطوات الفشل العثماني وأثره على المنطقة العربية
تولَّد عن نظام الامتيازات الأوروبية رغبة أقليات المنطقة الارتباط بالدول الغربية لتحقيق مصالحهم
انفتحت الدولة العثمانية على الامتيازات الأجنبية منذ القرن الخامس عشر الميلادي، واستمرت على هذا النهج حتى القرن التاسع عشر الميلادي، وخلال تلك الفترة الزمنية مرَّت الدولة العثمانية بمراحل من القوة والانتشار إلى مرحلة السكون والاستقرار، ثم دخلت في حقبة من الضعف والانحدار وانتهت بالانهيار، وقد كبَّلت الدولة نفسها بعدد كبير من الامتيازات الأجنبية والمعاهدات السياسية والاقتصادية مع الدول الغربية، وبدأت تلك الدول في القرن الثامن عشر بالدخول في حقبة النهضة الصناعية، وتبعتها حقبة الاستعمار والزحف الأوروبي نحو أفريقيا وآسيا.
انعكست الثورة الفرنسية والثورة الصناعية بتأثيرها لمصلحة التمدد الأوروبي شرقًا نحو الطرق التجارية والملاحية بحثًا عن الثروات والمصادر الاقتصادية في بلدان الشرق المختلفة، وتلك الفترة أيضًا شهدت تراجع الدولة العثمانية، ودخلت في مرحلة الضعف الذي أطلق عليها الأوروبيون مصطلح “الرجل المريض”، فالامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية لأوروبا أتاحت سبل اختراق أوروبي للبنية العثمانية، وذلك بتحويلها نظام المِلل العثماني من نظام مثالي للتعددية والحريات الدينية والسياسية، في عصر عُرف بحِدَّة الصراعات والاضطهادات الدينية، إلى نظام أسهم بفعل تسامحه وخصوصيته في تسهيل ربط هذه المِلَل بالدول الأوروبية.
ساهم نظام المِلَل العثماني في خَلْق طابور خامس داخل المنطقة العربية ولاؤه للدول الأوروبية.
فقد تحوَّل نظام المِلَل العثمانية من الولاء للإمبراطورية إلى الولاء لأعدائها الطامعين بها، فقد تحوَّل ولاء أعداد كبيرة من النصارى في البلاد العثمانية إلى أوروبا نتيجة المنافع التي كانوا يتمتعون بها عن طريق القنصليات الأوروبية والارتباطات الكنسية، ومع مرور الوقت فقد هؤلاء هويتهم العثمانية ليلتحقوا بالهوية الأوروبية التي يؤكدها قانون الوصاية ونظام الامتيازات، وأصبح النظام أحد الأدوات المستخدَمة للضغط على الدولة وتمرير المخططات الاستعمارية، الذي أثَّر بصورة كبيرة في منطقتنا العربية التي كانت مسرحًا لمثل تلك المخططات الإجرامية.
ولكن السؤال هنا: ما الدوافع التي مهَّدَت لهذا التحول؟ وهل هي الطبيعة المصلحية أم قوة أوروبا النصرانية وضعف الدولة العثمانية؟ أم هذا وذاك مضافًا له أخطاء السلاطين وصراعاتهم المسلحة مع الولاة والمماليك؟ إن تلك الأسباب لا تقل أهمية عن التدخلات الأجنبية وقوة الاختراق الأجنبي للطوائف، إضافةً إلى ذلك كله أن الدولة العثمانية قد وقعت أيضًا تحت ضغط نمو الدين العام، مما جعلها تقترض من الدول الأوروبية لسداد مثل ذلك الدَّين بسبب تخبُّط تصرفات السلاطين في حروبهم المكلِّفة وغير المدروسة.
أما عن تأثير الامتيازات فيقول المستشرق الفرنسي أندريه ميكال: “إن الامتيازات الأجنبية ثم التدخلات العسكرية، وأحيانًا النشاط المكثَّف للإرساليات الدينية راحت تربط الطوائف المسيحية أو بعضها اقتصاديًّا وثقافيًّا بالغرب”، فالقنصليات الأجنبية في الدولة العثمانية حوَّلَت ذلك نظام الحماية الدينية إلى شبكة من المصالح والحماية الاقتصادية والسياسية والثقافية للطوائف النصرانية، فكانت القنصليات بأمر وتشجيع من حكوماتها تمنح البراءات لموظفيها والعقود لتَراجِمَتها المحليين وعائلاتهم، بحيث يمكن أن يَنعَم هؤلاء بالرعوية الفرنسية أو النمساوية أو السويدية وغيرها، فكانت بلاد الشام ومصر أبرز المناطق التي تأثَّرت من تغلغل الدول الأوروبية على المستوى السياسي من نفوذ القناصل السياسيين، والديني بإرسالياتهم التنصيرية، والاقتصادي من خلال نفوذ التجار والشبكات التجارية المرتبطة بالناحية العِرقية والمذهبية.
- أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني (بيروت: دار الشروق، 1982).
- روجر أوين، الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي 1800-1900م، ترجمة: سامي الرزاز (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1990).
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).
- محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، ط2 (بيروت: دار النفائس، 1983).
- يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان (إسطنبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988).