متناسين أنها دولة انتهت قبل سقوطها بقرون
ربط "العثمانيون الجُدد" سقوط سلطنة الأتراك بالتحرر العربي
لم يكن سقوط الدولة العثمانية مرتبطًا بحركات التحرر العربية التي انتشرت في معظم الأراضي الواقعة تحت الاحتلال العثماني، ولا بقيام الدولة السعودية التي أفاقت معها الجزيرة العربية بعد سُباتٍ عميق لقرون، رغم ما يُشيعه العثمانيون الجدد، إنما بدأت نهاية السلطنة العثمانية منذ وفاة سلطانها سليمان القانوني سنة (1566)، أي قبل قرابة 400 عام من سقوطها.
لقد كان للصراعات على الحكم بين الأمراء والسلاطين، وعمليات القتل والنفي والاحتجاز لمن ظُنَّ أنهم قد يهدِّدون العرش ذات يوم من الأبناء والإخوة داخل بيت العثماني، وتدخل الحرملك، ودسائس النساء، كذلك انحسار هيبة السلاطين، وصعود قوى ومراكز عسكرية وإدارية، وانتشار المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، والعجز عن حلها، كل ذلك كان له دورٌ في ارتخاء الدولة وبداية انحدارها.
وقد ربط كثير من العثمانيين الجدد، خاصة العرب منهم، بين حركات التحرر العربية وسقوط الدولة العثمانية، متناسين أن التحرر العربي بدأ في وقت مبكر جدًّا، أي بعد الاحتلال العثماني بأعوام، خاصة في مناطق عسير والباحة والحجاز، أما نجد فبقيت منطقةً بِكرًا، لم تَطلها اليد العثمانية إلا لاحقًا بعد قيام الدولة السعودية الأولى، حينها استشعر الأتراك خطر قيام دولة عربية وطنية، خصوصًا في الجزيرة العربية.
يشير الدكتور محمد أمحزون في بحثه المعنون “تدهور العلاقات بين الترك والعرب إبان الحكم العثماني” بقوله: “اجتمعت مجموعة من العوامل الداخلية في السلطنة العثمانية فهيَّأت الطريق للضعف والتخلف والانحلال على كافة الصُّعُد، مما هيَّأ الظرف وأتاح المجال لتدهور العلاقات بين الدولة العثمانية والولايات العربية”.
أثر الاحتلال العثماني للبلاد العربية سلبًا في تجهيل وتأخير المنطقة واستهلاك خيراتها لصالح سلاطين العثمانيين.
لقد سبق الضعفُ في كيان الدولة العثمانية في كافة النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية قيامَ الولايات العربية بالثورة ضدَّها، واستهدفت بعض هذه الحركات الانفصال عن الدولة، أو دعم الاستقلال الإقليمي، وقد بَدَا ذلك واضحًا في محاولة ولايات المغرب العربي الانفصال على يد عصبيات عسكرية بحرية مثل الدايات في الجزائر، والبايات من الأسرة الحسينية في تونس، والأسرة القرمانلية في طرابلس.
وفي المشرق العربي قامت انتفاضات عدة مثل حركة فخر الدين المعني في لبنان في القرن السابع عشر، وظاهر العمر في فلسطين، وعلي بك الكبير في مصر في القرن الثامن عشر، وآل العظم في الشام، بالإضافة إلى ظهور حركة الأئمة الزيدية في اليمن، والسنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان.
كما أن فرض السلطنة العثمانية على الولايات العربية ما يسمى “نظام الالتزام” زاد من كُره العرب للاحتلال العثماني المتسلط عليهم؛ إذ أحدث النظام القاسي خللًا اقتصاديًّا وماليًّا، وكان النظام مُجحِفًا؛ إذ كانت الدولة تعهد إلى شخص من ذوي النفوذ والثراء في العادة بجباية الضرائب المربوطة على الأراضي الزراعية والمقررة على الفلاحين العرب.
وقد تدهور هذا النظام من الناحية التطبيقية في الولايات العربية ابتداءً من القرن الثامن عشر؛ إذ كان يتم تعيين الأتباع والمقربين في مراكز القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية، فانعكست هذه الأوضاع على الفلاح العربي، وعانى الكثير من الاستبداد والجور، سواءً من الملتزم وأعوانه أو من الأمراء وأتباعهم، حيث كانوا يقومون على فترات متقاربة بجولات في الريف ينهبون فيها المحاصيل الزراعية والماشية، كما كانوا يقتحمون بيوت الفلاحين بحثًا عن مدخراتهم.
لقد كان للاحتلال العثماني أثره السيئ في الولايات العربية، فلا هم فهموا العرب جيدًا، ولا العرب تقبَّلوا أفعالهم المنافية لعاداتهم وتقاليدهم ومكارمهم، لقد كانوا قوميتين متنافرتين، ولم يستطع الترك حكم العرب إلا بالبندقية والخيانة وتفريق الصفوف، لكن ذلك لم يَدُم طويلًا، فقد تأسَّست أول دولة عربية مستقلة في الجزيرة العربية بعد قرون طويلة من الشتات، بقيادة الإمام محمد بن سعود، وهو ما استدعى استنفار الجيوش العثمانية للقضاء على أكبر مهدِّد لسلطتهم الاحتلالية، ولكونها نموذجًا عربيًّا فريدًا، يُحتذى به في بقية البلدان العربية.
فإلى جانب الدولة السعودية الأولى، وولايات المغرب العربي التي انتفضت ضد الاحتلال العثماني؛ دخلت ولاية اليمن إلى طريق الاستقلال من العثمانيين، بعدما التفَّت القبائل على الزعيم اليمني الزيدي المطهر، الذي هزم الجيش العثماني في صنعاء، ونجح ببناء دولة يمنية، بعيدًا عن الهيمنة العثمانية، ما دفع السلطان العثماني سليم الثاني لإرسال قوة عسكرية ضخمة إلى اليمن لإعادة احتلالها والسيطرة عليها بعد انتفاضة سكانها، وفي ولاية عدن قام قاسم بن شويع المعيَّن من إمام اليمن بالثورة ضد الاحتلال العثماني، ومع كل تلك المحاولات كان للقوة العسكرية التركية كلمتها الحاسمة في القضاء على تلك المحاولات العربية.
انتشار المظالم والاستبداد والعنصرية التركية العثمانية، وفساد الولاة وتعدِّيهم على السكان المحليين، وانتهاك حقوق الناس وسفك الدماء ونهب الأموال، كان له دوره في ثورة الولايات العربية ضد العثمانيين، كذلك الانغماس في الشهوات والترف؛ إذ تمادت الحكومة العثمانية في ذلك، وتفشَّت الرذيلة والإسراف، مما أدى إلى تراجع قيم الدولة وانهيارها، كل ذلك دفع العرب الأحرار للثورة ضد الحاميات العسكرية التركية، والدخول معها في اشتباكات دائمة طوال أربعة قرون، ولا أدَلَّ على ذلك مما قام به السعوديون في عسير والباحة ونجد والأحساء وإقليمي تهامة والحجاز، حين كبَّدوا الأتراك خسائر فادحة، رغم قلة الإمكانات وضعف الأسلحة، غير أن الإرادة كانت دافعًا وراء الإصرار على طرد المحتل التركي.
- أحمد عبد الرحيم، في أصول التاريخ العثماني، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1986).
- سعد الحميدي، الصراع بين القوميتين العربية والتركي وأثره في انهيار الدولة العثمانية (الدوحة: د.ن، 2011).
- السيِّد رجب، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970).