في سياق التباكي على الخلافة المزيَّفة للأتراك
استمات أصحاب الفكر الإسلاموي المتطرف في تقديم "التنظيم" بديلًا
عندما تقرأ الكتب التاريخية المحسوبة على التيار الحركي الإسلامي ستجد أنها تتعمد تزييف حقائق تاريخ الدولة العثمانية لمصلحة تلميعه، وإظهاره بصورة تُغلِّفها هالة من القدسية، وتغييب الحقيقة التاريخية المعتمدة على الوثائق والمصادر التاريخية الجادة، ومزجها بحالة من العاطفة الدينية، حتى تكون أكثر تأثيرًا وقبولًا لدى عامة الناس.
السؤال الذي يتبادر للذهن هنا: هل كانت الدولة العثمانية تستحق هذا العمل لجعلها أنموذجًا صالحًا للخلافة، أم كانت دولة عرقية؟ رغم أن كتب الفقه حسمت مسألة شروط الخلافة، مثلما أوردها علي بن محمد الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية”، وغيره من فقهاء الإسلام، فالماوردي اشترط شروطًا سبعة لتولي منصب الخلافة، وكان آخرها: النَّسَب العربي.
أُلفت المئات من كُتب التاريخ المُتطرِّف التي دافعت عن العثمانيين وسلطانهم عبد الحميد الثاني، وخوَّنت كل من ينتقدهم.
إلا أن أنصار تيار الإسلام السياسي رأوا في سقوط الدولة العثمانية سقوطًا للخلافة وللدين بالجملة، وبالتالي انطلقوا في عملية الحشد السياسي من أجل إحياء الخلافة الإسلامية، وذلك بعد إلغاء السلطنة العثمانية عام (1924)، وتأمين استقلال تركيا بنظام جمهوري جديد، والذي جاء خلال عدة مراحل، منها سحب الصلاحيات من السلطان العثماني وعزله سياسيًّا، وجعله سلطانًا صوريًّا، فالسلطان أصبح بلا سلطنة، وصدرت مجلة المؤتمر الإسلامي من أجل ذلك، والتي بدورها نادت بأهمية وضع قواعد للخلافة الإسلامية المدنية التي يظهر فيها عُلوُّ التشريع الإسلامي والتعليم والتربية، واختيار خليفة وإمام للمسلمين، كما جرت في نفس السَّنة التي أُلغيت فيها دولة العثمانيين عدة محاولات لعقد مؤتمر من أجل ذلك، إلا أن المؤتمر الذي عقد سنة (1926) قد فشل فشلًا كبيرًا بسبب طموح وتطلُّع ملك أفغانستان “أمان الله خان” والملك فاروق لمنصب الخلافة، ضاربين بما اتفق عليه علماء الشريعة من شروط تتوفر في الخليفة.
أحد الكُتَّاب قال: “ودخل سليم القاهرة ونُودي به سلطانًا خليفةً خادمًا للحرمين الشريفين”، ويذكر المؤرخ التركي آق أحمد كوندز بقوله: “ولا شك أن سلاطين بني عثمان كانوا من النوع الثاني في الأقل، ولم تكن خلافتهم خلافة شكلية خالية من الصلاحيات والمسؤوليات، استعمل السلاطين العثمانيون عناوين الخليفة وإمام المسلمين اعتبارًا من السلطان سليم وحتى الخليفة الأخير عبد المجيد أفندي”، وفيما ذكره كوندز استخدم عبارة خليفة الله بعد ضم حلب وغيرها دليل على تلك الأحقية بالخلافة، بينما ذلك تسطيح للمسألة الشرعية في موضوع شروط الخلافة.
وينقل أنور الجندي في كتابه “السلطان عبد الحميد والخلافة”: “والإنصاف يقتضي أن يقال: للقرآن تعاليمه الواضحة التي توجب تَساوي الناس في جميع الحقوق، فإذا ما قامت رئاسة تتفق مع هذه التعاليم التي جاء بها القرآن فهي تنطبق عليها الصفة الإسلامية، ولا يستطيع أي طاعن أن يطعنها حينئذ في سُمُوِّها وكفالتها لجميع الناس، فإذا لم تتَّفق هذه الرئاسة مع تعاليم القرآن فإنه لا يصح القول بأن هذه الخلافة خلافة إسلامية؛ لأنه إذا صادقت تعاليم كتاب الله الذي هو دستور الدعوة الإسلامية، فهل يصح أن ينسب الإسلام ما هو متصادم مع دستوره”.
ثم نجده يناقض ما نقله، ويذكر أن هناك مؤامرة كبرى لإسقاط الخلافة امتدت لقرن من الزمان، وأن عبد الحميد الثاني قد حمل لواء الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، بمعنى أن ينضوي تحت لواء الخلافة الإسلامية جميع المسلمين في العالم من جميع الطوائف، ثم شرع يدافع دفاعًا مستميتًا عن السلطان المستبِدِّ والذَبِّ عنه بأسلوب عاطفي بعيدًا عن الحقائق التاريخية الموثوقة، كما أن هناك عددًا من الكُتَّاب الذي تولوا الدفاع عن التاريخ العثماني، مثل زياد أبو غنيمة في كتابه “جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك”، الذي يتفق إلى حد ما في طرحه مع الجندي، وبعاطفة جياشة لتلك الدولة، واعتبر أنها تعرض تاريخًا لحملات التشويه، واتهم مَن تحدث عنهم بسوء بالحقد على الإسلام.
ويمكننا القول بأن تيار الإسلام السياسي حاول تقديم نفسه كبديل للدولة العثمانية، باعتبارها خلافة وجب إحياؤها كشرط وجود للأمة الإسلامية، وذلك من خلال تنظيمات تحترف الدين لأغراض السياسة كتنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي، وغيرهم من الجماعات الإسلامية المنبثقة منها أو نهجت نهجها، فقد رسَّخ حسن البنا، مؤسس الجماعة ومرشدها الأول فكرة الخلافة عند عناصر التنظيم، وأفرد لها مساحات كبيرة من رسائله التي كانت يَبُثُّها وسط أتباعه، وتجلَّى ذلك في رسالة التعاليم؛ إذ طالب أتباعه بالسعي صراحةً للحكومة الإسلامية، ومن ثم عودة الخلافة الإسلامية المزعومة، والتي لا يزال يحلم بها كثير ممن على منهجه للسيطرة على العالم.
- أحمد آق كوندز وآخر، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).
- أنور الجندي، السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية (بيروت: دار ابن زيدون للطباعة والنشر، 1407هـ).
- جمال عبد الهادي وآخر، أخطاء يجب أن تصحَّح في التاريخ.. الدولة العثمانية (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1995).
- علي الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية (بيروت: دار الكتب العلمية، 1978م).
متناسين أنها دولة انتهت قبل سقوطها بقرون
ربط "العثمانيون الجُدد" سقوط سلطنة الأتراك بالتحرر العربي
لم يكن سقوط الدولة العثمانية مرتبطًا بحركات التحرر العربية التي انتشرت في معظم الأراضي الواقعة تحت الاحتلال العثماني، ولا بقيام الدولة السعودية التي أفاقت معها الجزيرة العربية بعد سُباتٍ عميق لقرون، رغم ما يُشيعه العثمانيون الجدد، إنما بدأت نهاية السلطنة العثمانية منذ وفاة سلطانها سليمان القانوني سنة (1566)، أي قبل قرابة 400 عام من سقوطها.
لقد كان للصراعات على الحكم بين الأمراء والسلاطين، وعمليات القتل والنفي والاحتجاز لمن ظُنَّ أنهم قد يهدِّدون العرش ذات يوم من الأبناء والإخوة داخل بيت العثماني، وتدخل الحرملك، ودسائس النساء، كذلك انحسار هيبة السلاطين، وصعود قوى ومراكز عسكرية وإدارية، وانتشار المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، والعجز عن حلها، كل ذلك كان له دورٌ في ارتخاء الدولة وبداية انحدارها.
وقد ربط كثير من العثمانيين الجدد، خاصة العرب منهم، بين حركات التحرر العربية وسقوط الدولة العثمانية، متناسين أن التحرر العربي بدأ في وقت مبكر جدًّا، أي بعد الاحتلال العثماني بأعوام، خاصة في مناطق عسير والباحة والحجاز، أما نجد فبقيت منطقةً بِكرًا، لم تَطلها اليد العثمانية إلا لاحقًا بعد قيام الدولة السعودية الأولى، حينها استشعر الأتراك خطر قيام دولة عربية وطنية، خصوصًا في الجزيرة العربية.
يشير الدكتور محمد أمحزون في بحثه المعنون “تدهور العلاقات بين الترك والعرب إبان الحكم العثماني” بقوله: “اجتمعت مجموعة من العوامل الداخلية في السلطنة العثمانية فهيَّأت الطريق للضعف والتخلف والانحلال على كافة الصُّعُد، مما هيَّأ الظرف وأتاح المجال لتدهور العلاقات بين الدولة العثمانية والولايات العربية”.
أثر الاحتلال العثماني للبلاد العربية سلبًا في تجهيل وتأخير المنطقة واستهلاك خيراتها لصالح سلاطين العثمانيين.
لقد سبق الضعفُ في كيان الدولة العثمانية في كافة النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية قيامَ الولايات العربية بالثورة ضدَّها، واستهدفت بعض هذه الحركات الانفصال عن الدولة، أو دعم الاستقلال الإقليمي، وقد بَدَا ذلك واضحًا في محاولة ولايات المغرب العربي الانفصال على يد عصبيات عسكرية بحرية مثل الدايات في الجزائر، والبايات من الأسرة الحسينية في تونس، والأسرة القرمانلية في طرابلس.
وفي المشرق العربي قامت انتفاضات عدة مثل حركة فخر الدين المعني في لبنان في القرن السابع عشر، وظاهر العمر في فلسطين، وعلي بك الكبير في مصر في القرن الثامن عشر، وآل العظم في الشام، بالإضافة إلى ظهور حركة الأئمة الزيدية في اليمن، والسنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان.
كما أن فرض السلطنة العثمانية على الولايات العربية ما يسمى “نظام الالتزام” زاد من كُره العرب للاحتلال العثماني المتسلط عليهم؛ إذ أحدث النظام القاسي خللًا اقتصاديًّا وماليًّا، وكان النظام مُجحِفًا؛ إذ كانت الدولة تعهد إلى شخص من ذوي النفوذ والثراء في العادة بجباية الضرائب المربوطة على الأراضي الزراعية والمقررة على الفلاحين العرب.
وقد تدهور هذا النظام من الناحية التطبيقية في الولايات العربية ابتداءً من القرن الثامن عشر؛ إذ كان يتم تعيين الأتباع والمقربين في مراكز القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية، فانعكست هذه الأوضاع على الفلاح العربي، وعانى الكثير من الاستبداد والجور، سواءً من الملتزم وأعوانه أو من الأمراء وأتباعهم، حيث كانوا يقومون على فترات متقاربة بجولات في الريف ينهبون فيها المحاصيل الزراعية والماشية، كما كانوا يقتحمون بيوت الفلاحين بحثًا عن مدخراتهم.
لقد كان للاحتلال العثماني أثره السيئ في الولايات العربية، فلا هم فهموا العرب جيدًا، ولا العرب تقبَّلوا أفعالهم المنافية لعاداتهم وتقاليدهم ومكارمهم، لقد كانوا قوميتين متنافرتين، ولم يستطع الترك حكم العرب إلا بالبندقية والخيانة وتفريق الصفوف، لكن ذلك لم يَدُم طويلًا، فقد تأسَّست أول دولة عربية مستقلة في الجزيرة العربية بعد قرون طويلة من الشتات، بقيادة الإمام محمد بن سعود، وهو ما استدعى استنفار الجيوش العثمانية للقضاء على أكبر مهدِّد لسلطتهم الاحتلالية، ولكونها نموذجًا عربيًّا فريدًا، يُحتذى به في بقية البلدان العربية.
فإلى جانب الدولة السعودية الأولى، وولايات المغرب العربي التي انتفضت ضد الاحتلال العثماني؛ دخلت ولاية اليمن إلى طريق الاستقلال من العثمانيين، بعدما التفَّت القبائل على الزعيم اليمني الزيدي المطهر، الذي هزم الجيش العثماني في صنعاء، ونجح ببناء دولة يمنية، بعيدًا عن الهيمنة العثمانية، ما دفع السلطان العثماني سليم الثاني لإرسال قوة عسكرية ضخمة إلى اليمن لإعادة احتلالها والسيطرة عليها بعد انتفاضة سكانها، وفي ولاية عدن قام قاسم بن شويع المعيَّن من إمام اليمن بالثورة ضد الاحتلال العثماني، ومع كل تلك المحاولات كان للقوة العسكرية التركية كلمتها الحاسمة في القضاء على تلك المحاولات العربية.
انتشار المظالم والاستبداد والعنصرية التركية العثمانية، وفساد الولاة وتعدِّيهم على السكان المحليين، وانتهاك حقوق الناس وسفك الدماء ونهب الأموال، كان له دوره في ثورة الولايات العربية ضد العثمانيين، كذلك الانغماس في الشهوات والترف؛ إذ تمادت الحكومة العثمانية في ذلك، وتفشَّت الرذيلة والإسراف، مما أدى إلى تراجع قيم الدولة وانهيارها، كل ذلك دفع العرب الأحرار للثورة ضد الحاميات العسكرية التركية، والدخول معها في اشتباكات دائمة طوال أربعة قرون، ولا أدَلَّ على ذلك مما قام به السعوديون في عسير والباحة ونجد والأحساء وإقليمي تهامة والحجاز، حين كبَّدوا الأتراك خسائر فادحة، رغم قلة الإمكانات وضعف الأسلحة، غير أن الإرادة كانت دافعًا وراء الإصرار على طرد المحتل التركي.
- أحمد عبد الرحيم، في أصول التاريخ العثماني، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1986).
- سعد الحميدي، الصراع بين القوميتين العربية والتركي وأثره في انهيار الدولة العثمانية (الدوحة: د.ن، 2011).
- السيِّد رجب، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970).
رغم الدعاية المتطرفة
لم يستطع العثمانيون حماية المنطقة العربية والعالم الإسلامي كما يدَّعون
اجتهد الكثيرون في تصوير الدولة العثمانية على أنها حاضنة جامعة للمناطق والدول الإسلامية، وأنها ساهمت في منع تسرُّب حملات التنصير والتبشير إلى المناطق الإسلامية، وأنها كانت تمثل خلافة إسلامية مكتملة الأركان، رغم بعض السلبيات التي يمكن اعتبارها بمثابة النقطة السوداء في جسد الثور الأبيض.
حاولت الأقلام المتأسلِمة طمس حقيقة مسؤولية الدولة العثمانية في إيجاد موطئ قدم للغرب في المناطق العربية من خلال تسهيل تغلغل الحملات التبشيرية، خاصة في الشام وجبل لبنان وفلسطين والعراق، بل وأصبحت الكنائس النصرانية جزءًا من الجهاز الحكومي العثماني.
بعض الأقلام المحسوبة على تيار الإسلام السياسي تستميت في الدفاع عن الدولة العثمانية، رافعةً إياها إلى مراتب الخلافة الإسلامية التي نجحت في مهامها “الماوردية” في حماية الدين وسياسة الدنيا، ولم يقف هؤلاء عند هذا الحد، بل انبرَوا للهجوم على كل مَن طعن في هذه الخلافة المزعومة، متهمين كثيرًا من المؤرخين بأنهم “التقوا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية”، حيث “اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق، والكذب والبهتان والتشكيك والدَّسِّ، ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الأعمى، والدوافع المنحرفة، بعيدة كل البعد عن الموضوعية”.
استماتَ البعض في الدفاع عن الدولة العثمانية بمرجعية براغماتية وليس بمرجعية دينية.
غير أن القراءة التاريخية تُحيل على وجود إجماع عند المؤرخين بأن الدولة العثمانية لم تتعامل بمنطق الخلافة الإسلامية، لا مع الشعوب المسيحية ولا مع الشعوب العربية والإسلامية.
في هذا السياق ساهمت السياسات العثمانية المتعاقبة في دخول المستعمر المسيحي إلى العمق العثماني بطريقة غير مباشرة، ثم بطريقة مباشرة أدَّت إلى تقسيم أجزاء مهمة من الوطن العربي والإسلامي، واستباحة الجزء الآخر لعقود من الزمن، من خلال نظام الامتيازات الذي شكل الأرضية السلبية للضرب في مظاهر السيادة السياسية للدولة العثمانية.
لقد شكَّل نظام الامتيازات “تنازلًا خطيرًا على سيادة الدولة، وتمييزًا سلبيًّا بين المواطنين والمقيمين، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن “تلك الامتيازات التي ارتبطت بسليمان القانوني” “كانت فاتحة شر على العثمانيين وعلى الشعوب العربية الخاضعة لاحتلالهم”.
ونعتقد أن أهم شهادة على تقصير الدولة العثمانية في حماية الدول العربية هي شهادة آخر سلاطين الدولة العثمانية نفسه، ألا وهو السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يحكي في مذكراته كيف ترك تونس ومصر لمصيرهما مقابل الاحتفاظ بنفوذ الدولة العثمانية في مناطق أخرى، فيقول: “حمَّلني سعيد باشا في مذكراته مسؤولية التقصير في مشكلتَي تونس ومصر، بينما كان هو في ذلك الحين يبعثر الأيام والشهور في (ليت ولعل)، وإني أفخر بما أسنده إليَّ على شكل تقصير، لم أكن أتصور اتخاذ الحرب وسيلة لكل مسألة من المسألتين، فأنا دائمًا ضد الحرب، ولو كنت اندفعت للمقاومة في تونس فربما تسبَّبتُ في ضياع سوريا.. ولو وقفت بعناد في مصر لكنت بالتأكيد فقدت فلسطين والعراق”.
هذه الشهادة تقطع بأن العثمانيين لم يتعاملوا مع المناطق العربية بمنطق الأجزاء “المشكِّلة” للدولة، وإنما بمنطق الأجزاء “المكملة” للإمبراطورية، لذلك كانت دائمًا مستعدة للتخلي عنها مع أول مناسبة، في مقابل توافُقات تعقدها مع الدول الغربية.
هذا المعطى يؤكد إشكالية “سطحية الحكم”، حيث فشلت (أو لم تركز الدولة العثمانية) في إدماج الشعوب ضمن بنية الدولة، وهو التعاقد السياسي الذي أصبح إحدى تمظهرات الاندماج ضمن إطار سياسي جديد (الدولة)، وهذا ما نص عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1541 بتاريخ 15 دجنبر 1960.
وهنا نسجل كلامًا مهمًّا لأحد المؤرخين الذين تناولوا تاريخ آل عثمان، حين ربط سقوط الدولة العثمانية بإهمال “توثيق الروابط بينها وبين الولايات المفتوحة، ما حال بين الحكم العثماني وتغلغله في حياة الشعوب التي تألفت منها الدولة من ناحية، وجعل هذه الشعوب لا تشعر بحاجتها إلى الاتصال اليومي المباشر بالسلطة للتعامل معها من ناحية أخرى”.
إجمالًا يمكن القو، بأن الدولة العثمانية خططت لإخضاع بعض المناطق العربية من أجل شرعنة مشروعها التوسعي كما حدث باحتلالها للحرمين الشريفين، وحكمت مناطق أخرى لأغراض التوسع، وكذا الاستفادة من خيرات المنطقة (اليمن والسواحل العربية)، ولو تعمل يومًا على تحسيس شعوب هذه (المستعمرات) بأنهم جزء من الدولة، ولذلك ارتفعت المطالب الاستقلالية لهذه الشعوب مع بروز أولى مؤشرات سقوط إمبراطورية “الرجل المريض”.
- أحمد عبد الرحيم، في أصول التاريخ العثماني، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1986).
- سعد الحميدي، الصراع بين القوميتين العربية والتركي وأثره في انهيار الدولة العثمانية (الدوحة: د.ن، 2011).
- السيِّد رجب، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970).