"المنطقة العربية في ظل الانهيار العثماني"
ارتبط تاريخ منطقتنا العربية قسرًا بالدولة العثمانية مدة تزيد على أربعة قرون، منذ أن وصل السلطان سليم الأول مصر والشام، فكانت المنطقة خلالها تعيش تحت تأثير التغيرات السياسية والاقتصادية والإدارية، ومراحل القوة والضعف حتى الانهيار، وبلداننا العربية كان لها نصيبها الأكبر من ذلك التغيير، سواء كان إيجابًا أو سلبًا، ولعل الأخير هو الأكثر تأثيرًا وإيلامًا على واقع المنطقة، فالعثمانيون يدركون تمامًا ماذا يعنيه العرب بأقاليمهم المختلفة من قوة كامنة تم كبتها بحجج واهية تارة، وتخوُّف من عودة القوة للعرب من جديد الذين كان لهم القدح المُعَلَّى في نشر الإسلام والفضل على الحضارة الإسلامية بل والإنسانية جمعاء.
ومن هنا يتبادر للذهن تساؤل: هل كان سقوط الدولة العثمانية بداية لاستباحة المناطق العربية كما يدَّعي البعض؟ أم أن سقوط هذه المناطق كان بسبب حالة التخلف الحضاري والسُّبات الثقافي التي أسهم في تكريسها سلاطين الدولة العثمانية وجعلها على هامش التاريخ؟
والحقيقة أن كلتا الحالتين كان لهما التأثير المباشر في واقع المنطقة العربية التي كانت تتطلَّع للتخلص من التسلط العثماني، كما هو الحال في مصر والشام والعراق؛ لذا برزت منذ القرن الثامن عشر بعض الأسر الحاكمة التي استقلت عن الدولة العثمانية، وظلَّت مرتبطة ارتباطًا اسميًّا لا يعدو كونه للحصول على مباركات السلاطين باستقلالهم، ودفع العائدات السنوية عن كل ولاية، والنماذج كثيرة كما هو الحال في أسرة باشوات مصر “علي باشا الكبير”، و”محمد علي باشا” فيما بعد، وأيضًا حسن باشا وابنه أحمد باشا ولاة العراق الذين أسَّسوا نظام حكم المماليك فيه، وقِس عليهم الأسر التي حكمت في الشام بمفهومه الواسع.
ومن جهة أخرى أسهم نظام الامتيازات العثماني في تسهيل عملية الاختراق والانتشار للاحتلال الغربي، وتحويل مجموعة من المناطق العربية إلى مستعمرات ومحميات غربية، ففي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حاربت بريطانيا لجانب الدولة العثمانية ضد روسيا في حرب القرم، وبعدها منحت الدولة العثمانية بريطانيا وفرنسا الحق في المتاجرة ونقل البضائع إلى داخل الأراضي العثمانية من خلال عدد من المعاهدات، ومزيدًا من الامتيازات، وسرعان ما امتدت تلك الامتيازات وزاد نفوذها وإحكام سيطرتها على منطقتنا العربية، حيث الطرق والممرات التجارية البحرية والبرية، كما استعانت الدولة العثمانية بالبنوك والمصارف الأوروبية لمواجهة الأزمات والحروب المتتالية، التي مكَّنَت بصورة كبيرة الدول الأوروبية من الدولة العثمانية، حتى أصبحت رهينة لتلك القوى الأوروبية العظمى.
ولعل مصر الخديوية خير مثال على حالة الضعف والهزال الذي مرت به الدولة العثمانية، فاحتلال مصر من قِبَل الحكومة البريطانية كان هدفًا مشروعًا لديها، والذي بُدِئ بتنفيذه في عام 1882م، وظلت مصر ترزح تحت الاحتلال البريطاني حتى أصدرت بريطانيا الإعلان الأحادي الجانب باستقلال مصر عام 1922م، ثم المعاهدة المصرية الإنجليزية، ومن ثم عادت السيطرة التدريجية لملك مصر الخديوية، وبحلول عام 1934م حصلت مصر على استقلالها الكامل.
فتبعات الانهيار العثماني كان مكلِّفًا وباهِظًا على منطقتنا العربية، ولا يمكن نسيان معاهدة “سايس بيكو” 1916م، وما أحدثَته من تمزيق لكيان العرب ووحدتهم الديمغرافية، التي لا زالت بعض بلداننا العربية تعاني من تبعاتها حتى يومنا هذا بسبب سوء السياسة والإدارة العثمانية، وتخبُّطها وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى.