على الطريقة الحميدية
التلوُّن التركي المعاصر في العالم العربي
اتبعت الدولة التركية المعاصرة سياسة نشطة لمحاولة إيجاد دور لها في المنطقة العربية، والتقليل من المشاكل مع الدول المجاورة، بهدف المشاركة الإقليمية في الشرق الأوسط؛ إذ برز ذلك بجلاء بعد الأحداث والمتغيِّرات التي مَرَّ بها الإقليم بعد تداعيات 11 سبتمبر، واحتلال العراق (2003)، والتطورات السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم الحركات السياسية المتعددة بعد ذلك، إضافةً إلى الحراك الإيراني كقوة إقليمية تتطلَّع إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ووجدت تركيا أن باب الأيديولوجيا قد يحقِّق لها المشاركة السياسية؛ لذا تماهت والتصقت مع حركات وتيارات الإسلام السياسي، كما حديث مع تنظيم جماعة الإخوان الإرهابي، الذي رفع شعار خليفة المسلمين خلال استقبال الرئيس التركي طيب رجب أردوغان في مصر.
الفشل الذريع كان نصيب تكرار الاختراق الأيديولوجي التركي حديثًا.
استغلَّت تركيا الأمر في تحريك الأذرع الإخوانية من أجل التأسيس لكيانات سياسية تابعة أيديولوجيًّا للإخوان وسياسيًّا لأنقرة، كما وجد الإخوان في تركيا أحد أهم “خطوط التراجع” في حالة التضييق عليها في بلدانها الأصلية، ومصدرًا مهمًّا للتمويل، وكذلك الحاضنة السياسية والإعلامية، فما هي طبيعة التحالف الإخواني التركي، وكيف نجح الأتراك في تحريك الخلايا الإخوانية لتلميع “الخلافة العثمانية”؟
دخل رجب طيب أردوغان حليف الحركيين الأكبر في امتحان عسير للاستمرار في حُكم تركيا، وأدرك الإسلاميون العرب أنه براغماتي، ولم يَعُد يساندهم كما السابق، فهل يستمرون في دعمه؟ أم أن تركيا عمومًا أدارت ظهرها لهم؟
الانتخابات التركية لم تكن شأنًا خاصًّا بتركيا فقط، فقد حَظِيَت باهتمام دول وشعوب المنطقة؛ نظرًا لارتباطها بأطياف حركيَّة أيديولوجية كالإخوان، ويرى محلِّلون سياسيون أن الإسلاميين في المنطقة العربية ينظرون إلى التجربة التركية كامتداد لتجربتهم، وأنها نجاح للإسلاميين الذين استطاعوا البقاء في الحكم لفترة طويلة، خصوصًا أردوغان الذي يرونه حليفا إستراتيجيًّا، نجح في نظرهم في تحقيق العديد من المكاسب على المستويَين المحلي والدولي، ولذلك يدعمون بكل قوة استمراره في الحكم لأن تركيا أردوغان كانت أكبر الداعمين الإقليميين لتيارات الإسلام السياسي، حين وقفت إلى جانب جماعة الإخوان الإرهابية في مصر بعد عزل محمد مرسي، أيضًا وجدت نفسها تمنح قيادات الإخوان حق العيش في تركيا التي تحوَّلت إلى محطة للمعارضة المصرية على حد سواء أيًّا كانت توجهاتها؛ إذ احتضنت إسطنبول وأنقرة قنوات إعلامية مصرية معارضة، وليس مصر فحسب، فكثيرة هي الروابط التي جمعت حزب العدالة والتنمية التركي بحركة النهضة التونسية، وكذلك كان الإسلاميون في المغرب ينظرون له بكثير من الإعجاب، والأمر ذاته في دول أخرى، بينما كان الدعم التركي جليًّا في الحالة الليبية، حيث قدَّمَت تركيا الدعم العسكري والتدخل المباشر.
على الرغم من ذلك فإن أردوغان له سياسة براغماتية واضحة المعالم، فحين وقف مع الحركات الإسلامية لم يتبنَّ مواقفها بالكامل وإستراتيجياتها في العمل، وبقي مع ذلك منفتحًا على الأطراف السياسية العربية الأخرى.
وواقعيًّا وفي السنوات الأخيرة غيَّرَت تركيا نهجها، ولم تَعُد ملاذًا آمِنًا لقيادات وتيارات الإسلام السياسي العربي، وكان أردوغان يبحث منذ مدة عن صلح مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتكرَّرَت اللقاءات الثنائية بين مسؤولي البلدين بشكل غيَّر تمامًا اللهجة العدائية التي جمعتهما، كذلك فتحت تركيا والإمارات العربية المتحدة صفحة جديدة بعد سنوات من العداء، حتى صرَّحَت إحدى الصحف البريطانية أن الإسلام السياسي بات أمرًا مستهلَكًا في السياسة الخارجية التركية عندما يتعلق الأمر بالمصالح مع الدول العربية، وأن مبرِّرات تركيا للصلح مع كل الدول العربية – بالإضافة إلى إسرائيل – متعددة، ومن ذلك أسباب اقتصادية تخصُّ رفع قيمة الليرة، وجلب الاستثمار الخليجي، وكذلك إضعاف الدعم المصري والإسرائيلي لليونان في شرق المتوسط، ولتحقيق هذه المكاسب احتاجت أنقرة لتقديم عدة تنازلات، وبذا فشلت فعليًّا تيارات الإسلام السياسي في الحصول على موطئ قدم على الخريطة السياسية في المنطقة بعد فَقْدِها الحليف وانكشاف عورتها للمجتمعات العربية بأنها مجرد حالة من الوهم والخيال البعيد عن أرض الواقع.
ومن جهة أخرى نزعت العديد من حركات تيار الإسلام السياسي أكثر إلى الانخراط في مسار للقبول بالديمقراطية والتعددية السياسية والمشاركة في السلطة، والإعلان عن تَبنِّي الحريات العامة والفردية، ثم القول بفصل مجال الدعوة عن السياسة، والبدء بالتفكير بهذا المبدأ من قِبَل العديد من الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي اليوم، وهذا التوجه لدى حركات واتجاهات إسلامية لوحظ عليها ذلك في إقليم مضطرب؛ فالإسلاميون وتحديات ما بعد الربيع العربي أدركوا ضرورة إحياء مفهوم “ما بعد الإسلام السياسي”، أو العبور إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، وهو ما يعني تَخلِّي الحركات الإسلامية عن كثير من شعاراتها وأهدافها وفلسفاتها التي تأسَّست عليها، وشَكَّلَت جوهر فكرها وخطابها السياسي والديني خلال العقود الماضية، مثل: إقامة الدولة الإسلامية، أسلمة المجتمع، مواجهة التيارات العلمانية، وأيضًا مقولات: الإسلام هو الحل، إلى القبول بالديمقراطية كصيغة وأسلوب نهائي لنظام الحكم، وهذا أسلوبهم وطريقتهم في التلون وتغيير الجلود حسب الأحداث والمتغيرات السياسية منذ بدايات تأسيس تلك الحركات في البلاد العربية.
- أحمد سليمان الرحاحلة، الدور التركي الجديد في منطقة الشرق الأوسط.. الفرص والتحديات (عمَّان: رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشرق الأوسط، 2014م).
- إسماعيل عزام، “حليفهم في امتحان صعب.. كيف ينظر الإسلاميون لانتخابات تركيا؟”، على الرابط: https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D8%A9/s-9106
- حسام مطر، “تركيا في الشرق الأوسط بين الطموح وقيود النفوذ”، لبنان: مجلة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الإستراتيجية، العدد 144، 2013م).
- محمد أبو رمان، ما بعد الإسلام السياسي مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية (عمّان: مؤسَّسة فريدريش إيبرت، 2018م).