عثمنة الدولة العثمانية والتخادم
في الكتابات عن الدولة يتم تأكيد أن كل تركي عثماني وليس كل عثماني تركيًّا، تلك عرقية تأصلت في تاريخها. إن الدولة العثمانية على مر عصورها التاريخية كانت تسمى بـ”الدولة العلية” ولم تستخدم أي مسمى أو لقب يشير إلى عرقها التركي، لقد كانوا أتراكًا حسبما نقرأ في المؤرخات المختلفة، حتى اللغة لم تنسب إليها، بل عُرِفت أيضًا باللغة العثمانية، وقد اقتبسوا ما شاؤوا من العربية والفارسية، إضافة إلى الأبجدية كانت عربية خالصة!!
لقد مكنت ظروف التجمعات المحلية – القوميات – في الدولة العثمانية من المحافظة على التقسيمات القومية فيما بينهم.
كان المجتمع العثماني يتألف من تركيبة معقدة عرقيًّا – دينيًّا – وثقافيًّا، لم يكن لمشكلة القوميات وجود في ظل نظام “الملل العثمانية” الذي يستمد أحكامه من قانون حقوق أهل الذمة الإسلامي.
كانت الدولة العثمانية تدعو إلى فكرة الوطن الأم مع تساوي جميع الرعايا أيًّا كان جنسهم ودينهم أمام القانون، وما تناقضت فيه هي أن الدولة العثمانية تركت العناصر الكثيرة والمتنوعة كما هي، وفي المقابل عملت على تقوية الخصوصيات المحلية والقومية لهم.
إن القوميات المختلفة التي كان يضمها نطاق الدولة أخذت تستيقظ بعدما مكنتها الدولة دون وعي منها عن خطورة ما ستجلبه، فمثلًا أدركوا أن انهيار الدولة وتفككها يكمن في تشجيع الحركات القومية والتيارات الانفصالية ضدها. وكان لنشوء القومية بين شعوب أوروبا الشرقية معتمدة على مبادئ الثورة الفرنسية والألمانية المثل الأعلى لدى القوميات في الدولة العثمانية.
من خلال دراسة قمت بها اتضح أن الدولة اعتمدت في إدارة الشعوب على الزعامات المحلية طالما لا تعارض سلطانها، وتعاملوا مع تلك الزعامات التي تتخادم معها بأنها ناطقة بلسانهم ومتصرفة بشؤونهم في حدود ما يخدم مصالحها داخل ما يتفق مع النظام العام.
أما الظروف التي أحاطت بقيام الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان في محيط مسيحي، حيث افتقدوا الروابط السلالية واللغوية والتراثية والدينية بينهم وبين الغالبية الساحقة من الشعوب التي دانت لسلطانهم.
استصدرت الدولة في عام 1255هـ/1839م قانونًا عُرف بالتنظيمات الخيرية، أدى ذلك إلى ترابط الجماعات المختلفة المتناقضة، مما نتج عن تحركاتهم لتكوين وعي وهوية مستقلة، ثم مطالبة بتحقيق الانفصال والاستقلال عن الدولة، وبالتالي تحولت نتائج التنظيمات إلى إدارة تبرر مطالبتهم، وفي ذلك يقول برهان غليون: “إن النظام الملي الذي كان سائدًا في العهد العثماني ليس نظامًا طائفيًّا، وإنما هو نظام عصبوي (قومي)، فصار نظام الملل طائفيًّا؛ لأن العصبيات والتضامنات الطبيعية صارت أداة للتوظيف السياسي”. تلك الأنظمة كان الغرض منها إدارتها وتوجيهها ضد الشعوب التي تسيطر عليها الدولة، ولكنهم صاروا مما تعانيه الدولة، ومنها نظام الملل.
لقد ازدادت التأثيرات والاختراقات السياسية من القوى التي ترعرعت برعاية الدولة في تكوين اجتماعي طائفي ارتبط وعمل على رعاية مصالحها داخل الدولة ودعمها إلى جانب العمل على تكوين غطاء سياسي دبلوماسي من السفراء في إستانبول والقناصل الموجودين في المدن المهمة في مختلف أرجاء الدولة العثمانية. وعمل أبناء الطوائف المختلفة في الدولة -وبدعم مستمر من القوى السابقة الذكر- على إنشاء مؤسسات في مختلف المجالات خاصة بهم، مما كان له الأثر البالغ للدولة وتفاقم معاناتها، لكنهم اضطروا إلى الاستمرارية في طريق شائك.
ونعاصر تلك الآثار ومدى احتواء الجمهورية البديل عن الدولة لتلك القوميات…
لقد حصدوا ما بذروه….