"التبشير" الدرامي

القيامة المزيَّفة لـ "أرطغرل"

أصبحت الدعاية السياسية في عالمنا المعاصر لا تعتمد على النشرات أو الخطب المباشرة، وإنما ابتكرت طرقًا أخرى أكثر تشويقًا وأعمق أثرًا. ومن أهم هذه الطرق السينما والدراما بشكلٍ عام؛ حيث تنبه رجال الدعاية السياسية إلى أهمية الدراما وسحر الصورة، وتأثيرها المباشر على المُشاهِد، هذا التأثير الذي لا يقارن بتأثير الكلمة المكتوبة، أو حتى الكلمات المباشرة عبر الخطب السياسية. ويزداد تأثير الدراما إذا اقترن سحرها بعبق التاريخ، من هنا عرف صناع الدراما هذا السر، وعقدوا تحالفًا مع رجال السياسة حول توظيف التاريخ في العمل الدرامي لصالح الأنظمة السياسية.

وربما يُعد هذا مدخلاً جيدًا لفهم السر وراء الصعود الكبير للدراما التركية، خاصةً في العقد الأخير، لا سيما مع الإنتاج الواسع للعديد من المسلسلات التاريخية التي تُمجِّد التاريخ العثماني، في محاولةٍ لتأكيد الدور التركي في المنطقة من خلال التأثير على وعي المشاهد، والترويج للنموذج التركي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

ومن أخطر المسلسلات في السنوات الأخيرة مسلسل “قيامة أرطغرل”، هذا المسلسل الشهير الذي وصل عدد حلقاته إلى 150 حلقة، واستمر عرضه خمسة مواسم، ودُبلج إلى عدة لغات أبرزها العربية والإنجليزية والأوردية. ولا أدل على كونه جزءًا من آلة الدعاية السياسية، الذي أُيدَّ من تيار الإسلام السياسي في عالمنا العربي للترويج له في سبيل “عثمنة” التاريخ الإسلامي، وتجاهل الدور العربي.

وعلى رغم الإنتاج الضخم لقيامة أرطغرل، وحملات الترويج الواسعة له، تعرض لكثيرٍ من النقد، فكم المقالات التي عالجت ما يمكن أن نسميه ظاهرة مسلسل قيامة أرطغرل كبيرة للغاية؛ إذ وجه البعض النقد لهذا المسلسل على أساس أنه كُتب من أجل خدمة قضايا معاصرة، ووظَّف التاريخ لخدمة السياسة؛ إذ يُظهر أرطغرل داعيًا لوحدة الأمة الإسلامية، ومقاومة من يريدون احتلال القدس. ويرى هؤلاء أن أرطغرل ظهر وكأنه المُخَلِّص الإسلامي. من هنا يذهب البعض الآخر إلى أن خطورة مسلسل مثل قيامة أرطغرل لا تقف عند كارثية تقبل تيار الإسلام السياسي له، بل “تتجاوزه إلى قيامهم بدعم رسالته وتبنيها والتبشير بها”.

ويطرح الانتشار الواسع والجدل الكبير المصاحب لمسلسل قيامة أرطغرل مسألة مهمة وخطيرة؛ هي العلاقة بين التاريخ والدراما، ومدى مصداقية الطرح التاريخي في العمل الدرامي. بالقطع هناك هوامش يحق للعمل الدرامي التحرك فيها، ولكن دون الإخلال بمصداقية التاريخ. ويصبح ذلك أمرًا ضروريًا، خاصةً أن المشاهد العربي ليس لديه خلفية ثقافية تاريخية تساعده على النظر إلى أحداث المسلسل على أنها دراما تاريخية، وليس كتاب تاريخي، بل ودعونا نؤكد أن معظم المشاهدين يستمدون- للأسف الشديد- معلوماتهم التاريخية من خلال الأعمال الدرامية. من هنا تأتي خطورة مثل هذه الأعمال، لا سيما مع الإنتاج الكبير الذي صرفت عليه الكثير من التكاليف، وسحر الصورة، وانبهار المُشاهِد بالديكور والملابس التاريخية.

الخطيئة الكبرى لمسلسل مثل قيامة أرطغرل، أنه أبعد ما يكون عن التاريخ وحقائقه. ويرجع ذلك إلى توظيف المسلسل لشخصية أرطغرل عبر 150 حلقة، بينما كل ما نملك عن أرطغرل في كتب التاريخ هو أسطر لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة. من هنا كانت كارثة التوسع في الخيال الذي وقع فيه كل من المؤلف والمخرج، هذا فضلاً عن الإطالات السخيفة والمط في الأحداث، واختراع قصص الحروب العديدة لإبهار المشاهد بجهاد أرطغرل، بينما نحن لا نملك إلا أسطر قليلة عنه في التاريخ.

ويجمع عُمد دراسة التاريخ العثماني على ندرة المعلومات التاريخية في بدايات التاريخ العثماني خاصةً زمن أرطغرل وحتى ابنه عثمان. ويصف البعض ذلك بقوله: “يخيم ضباب كثيف على بدايات الدولة العثمانية”. بل ويعترف المؤرخون الأتراك الآن بهذه المسألة: “المعلومات حول التاريخ العثماني في أعوامه الأولى تعتمد على المؤلفات التي يعج أغلبها بالروايات الشعبية، التي دونت في القرن الخامس عشر لتعكس قبل كل شيء وجهات نظر العثمانيين أنفسهم في ذلك الزمان”. هكذا توضح المراجع التركية ندرة المادة التاريخية حول أرطغرل على وجه الخصوص، وأن حتى ما كتب عنه، تم تدوينه بعد زمن أرطغرل بعشرات السنين، وأنه في أغلبه “روايات شعبية”.

من هنا يبدأ المؤرخ التركي خليل اينالجيك دراسته عن تاريخ الدولة العثمانية بالأمير عثمان، ويكاد لا يذكر شيئًا عن أرطغرل لمحدودية دوره، وأيضًا لعدم وجود معلومات تاريخية عنه، بينما يقدم المسلسل عنه 150 حلقة من خيال المؤلف والمخرج.

لذلك يلجأ المسلسل إلى اختراع الأساطير، واللجوء إلى ثيمة النبوءة والبشارة، وهي أبعد ما تكون عن التاريخ. ويظهر ذلك جليًا في اللقاء المقدس بين أرطغرل والقطب الصوفي ابن عربي، وهو ما لم يحدث في التاريخ؛ إذ نرى في المسلسل كيف بشَّر ابن عربي زوجة أرطغرل بأن حملها سيكون ولدًا، وطلب من أرطغرل أن يسميه عثمان، فهكذا يبشر ابن عربي بأن هذا الوليد سيكون المؤسس لدولة كبرى هي الدولة العثمانية، والأكثر من ذلك أن ابن عربي لا ينقطع عن الدعاء لأرطغرل وابنه عثمان، من أجل تحقيق حلمهما في الجهاد وإنشاء الدولة، بل ويتكهن بالطالع عندما يقرأ أمامهما الآية الكريمة: “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”.

رغم الخزعبلات التي ربطت أرطغرل بابن عربي وجد مسلسل أرطغرل رواجًا لدى التيارات المتطرفة.

إن مسلسل قيامة أرطغرل اختلق الأساطير ووظفها من أجل خدمة الواقع السياسي التركي الحالي، وتبنى تيار الإسلام السياسي هذا التوظيف الدرامي من أجل صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية.

  1. أكمل الدين أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة، (إسطنبول: منظمة المؤتمر الإسلامي، 1999).

 

  1. خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤط (بيروت: دار المدى الإسلامي، 2002).

 

  1. روبير مانتران، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي (القاهرة: دار الفكر، 1993).

 

  1. مارك فيرو، السينما والتاريخ، ترجمة: سحر يوسف (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2019).

 

  1. محمد بنعزيز، مسلسل قيامة أرطغرل، الدعاية الدينية تصنع مجد الزعيم التركي، هسبريس، 28 إبريل (2023).

 

  1. وليد فكري، كيف خدعنا؟ الدراما التاريخية التركية كمرجعية تاريخية، سكاي نيوز عربية، 24 نوفمبر (2019).