القوة العثمانية الناعمة
من خلال مسلسل قيامة أرطغرل
لا يمكن لقوة إقليمية أو دولية أن تصنع لها مستقبلا مجيدا دون الارتكان إلى تاريخ تليد، وإذا كانت الدولة تعاني من فقر تاريخي، فإن أولى أولوياتها هو صناعة تاريخ جديد والمراكمة له ليصبح جزء من بنية الدولة وأحد أهم مصادر قوتها الناعمة.
وإذا كان العثمانيين قد راكموا لتاريخ مهم واستطاعوا التوسع في أجزاء واسعة من قارات العالم الثلاثة (إفريقيا، آسيا وأوروبا)، فإن هناك حلقات مفقودة في التاريخ العثماني يجعلها غير قادرة على الترويج للقوة الناعمة لتركيا. ولعل أهم نقاط ضعف التاريخ العثماني تكمن في غياب رمزية قوية للأب المؤسس، والذي أُريد له أن يكون شخصا مقدسا يمتاز عن بني البشر ويسمو عليهم بانتمائه وأفعاله ومعجزاته.
ورغم أن الإعلام التركي الرسمي يعترف، على استحياء، بالنسب العثماني الرسمي وانتهائه إلى مؤسس الدولة عثمان بن أرطغرل، إلا أن الأذرع الإعلامية غير الرسمية والمدعومة بالكتائب الإلكترونية الإخوانية، لا تزال تدغدغ مشاعر العوام بالانتماء المزعوم إلى الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، في محاولة لإضفاء طابع من الشرعية على ما أطلقوا عليه “الخلافة العثمانية”. ولعل استماتة الأتراك في محاولة ربط أصل نسبهم بالخليفة عثمان بن عفان مرده إلى محاولة شرعنة مؤسسة “الخلافة” وتحقيق شرطي “العروبة” و”القرشية” كشروط أساسية ومقدمات شرعية لاعتلاء منصب “الخلافة”.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم التنظيمات والجماعات التي حكمت، أو حاولت الوصول إلى الحكم، اجتهدت في رفع مؤسسها إلى مراتب القداسة. ولعل آخر هذه التنظيمات جماعة الإخوان المسلمين والتي أحاطت مؤسسها حسن البنا بهالة من الغموض الغريب، حتى إنك تكاد لا تجد فيديوهات لرمز التنظيم رغم أنه لم يتم اغتياله إلى بتاريخ 12 فبراير 1949م (باستثناء فيديو يتيم لا يتجاوز دقيقة واحدة)، مع أننا نتوفر على فيديوهات للحرب العالمية الأولى والثانية وفيديوهات حول هتلر والأزمة الاقتصادية وحتى الثورة البلشفية. ولعل هذا التعتيم المشبوه يبقى الغرض منه رفع المؤسس إلى مرتبة فوق مستوى البشر والتي لا يمكن تداول حركاتها وسكناتها من خلال الفيديوهات والتسجيلات لما في ذلك من خطر ظهور الرمز بمظهر الرجل العادي الذي لا يمتاز عن سواه في خُلق أو خِلقة.
وارتباطا بنقطة البحث، انتشرت مجموعة من الأساطير التاريخية حول نشوء وقيام الدولة العثمانية، حيث زعم بعضها بأن نسب العثمانيون يصل إلى “يافث بن النبي نوح” وبأن المؤسس الروحي للدولة العثمانية أرطغرل هو ابن سلطان مسلم أطلقوا عليه اسم سليمان شاه ورفعوه إلى مقام المجاهدين الذي رفعوا راية الإسلام قبل أن “يستشهد” في نهر الفرات، ويقوم ابنه أرطغرل بقيادة عشيرته المنتمية إلى عشيرة “قايي” التركية وحكم جزء من شبه جزيرة الأناضول تحت راية السلاجقة قبل أن يؤسس لحكم آل عثمان بعد “جهاد” مرير ضد الإمبراطورية البيزنطية، حسب رواية المقربين من الأطروحة التركية.
ومن خلال البحث بين تراب المخازن، لم نجد أي مرجع محايد يدعم هذه الأطروحة أو يسندها، وإنما مجرد ادعاءات تحاول ترسيخ صورة مشرقة لأرطغرل من خلال مجموعة من الكتابات التي تم اختيارها بذكاء من طرف الحكام الجدد للآسيتانة، من أجل صياغة تاريخ على المقاس، يساعد في تكتيكات الانتشار والاختراق، وهو ما نجحت فيه تركيا في العديد من الدول التي سقطت في فخ الدعاية الإخوانية.
ولأن أدوات التأثير الحالية تكمن في الشاشة ومعيار المصداقية مرتبط بما رأته أعين المشاهد، فقد تم تحويل شخصية أرطغرل إلى مادة درامية، خصصت لها أحدث التقنيات التلفزيونية، وتفنن القوم في بناء سيناريو يرفع هذه الشخصية إلى مستوى لا يصله إلى من عاش مطالع النبوءات.
هكذا إذا، نجح الإخوان والأتراك في تهييء اللا شعور العربي لاستقبال وتقبل بل والتهجد باسم أرطغرل آناء الليل وأطراف النهار، في ظل غياب إعلام موازي (مع بعض الاستثناءات) قادر على فضح البروباغندا العثمانية أولا، وأدواتها الإخوانية ثانيا، وأبعاد المؤامرة على وطننا العربي ثالثا.
ويشكك سواد الباحثين في هذه الرواية معتبرين أن شخصية “سليمان شاه” هي شخصية خيالية صنعتها البروباغندا العثمانية في محاولة منها لإيجاد أرضية وأصول إسلامية لتأسيسها وخلق نسب راقي لأصولها. ويرى آخرون أن هذه الشخصية تعود في الأصل للقائد السلجوقي سليمان الذي أسس لمُلك السلاجقة في الأناضول والذين أطلق عليهم لقب “سلاجقة الروم”.
لقد اجتهد تيار الإسلام السياسي في محاولاته تقديس “المنبت العثماني”، من خلال العودة بأصولهم إلى العثمانيين وليس إلى العرق التركي مع اعتبار هذا الأخير جزء من مكون الدولة وليس العرق المؤسس لها. هذا الطرح يجد ما يفسره في الحمولة السلبية التي روجها آل عثمان حول لقب “تركي” في التاريخ العثماني، فنجد، على سبيل المثال لا الحصر، المؤرخ عبد العزيز الشناوي في كتابه “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها” يقول “فكانوا يطلقون لفظة تركي على الفلاح العثماني الجاهل أو أحد سكان قرى الأناضول بمعنى واحد هو الجلف تهكما عليه، أو تحقيرا له، أو سخرية به”.
وبالعودة إلى شخصية أرطغرل نفسه فإن مجموعة من الشكوك تحيط حول انتمائه الإسلامي، على خلاف الكتابات العثمانية التي تقدمه على أنه مجاهد ومن أصحاب السابقة إلى الإسلام في قومه، حيث يذهب البعض إلى أنه ربما كان مسلم في الأصل ولا صحة للادعاء القائل بأنه أول من أدخل الإسلام في قومه وهو ما يدخل في إطار محاولة تجميل صورته في اللا وعي الجماعي لأتباع الأطروحة العثمانية، بل ويذهب البعض، إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن عشيرة أرطغرل لم يكونوا مسلمين وإنما اعتنقوا الإسلام في عهد ابنه عثمان الذي ينتسب إليه العثمانيون.