أوغوز خان وأرطغرل:

كيف نشأت أساطير النسب العثماني؟

ينحدر العثمانيون الأتراك من القبائل الأوغوز، التي تتكون من ستة فروع رئيسة، وكل فرع ينقسم إلى أربعة فروع أخرى، مما يجعلها تضم 24 فرعاً. يعتقد الأتراك أن جميع هذه الفروع تنتمي إلى “مته”، المعروف في ملاحمهم التاريخية كأوغوز خان. وتؤكد العديد من المصادر التاريخية أن العثمانيين ينتسبون إلى عشيرة “قابي”.

الأنساب لدى الأتراك افتراضية لا حقيقة فيها باعتراف مؤرخيهم مثل يلماز أوزتونا.

يذكر التركي يلماز أوزتونا أن العثمانيين اعتبروا أنفسهم أحفادًا لمته وخلقوا شجرة نسب تربط عثمان الغازي بأوغوز خان. وقد أطلق محمد الفاتح على أحد أبنائه اسم أوغوز خان، وعلى الآخر اسم تورغوت، نسبةً إلى قادة الأوغوز المشهورين. وقد أضاف المؤرخون العثمانيون في القرن الخامس عشر إلى ذلك أن العثمانيين ورثوا عرش الدولة التركية الكبرى من السلاجقة، الذين بدورهم كانوا ورثة القاراخانيين.

في الواقع، اندمج الأتراك والمغول واختلطوا إلى حد يصعب معه تمييز الأنساب بينهم. ومع غزو المغول للشرق، بدأت موجات جديدة من الأتراك تتدفق على الأناضول، واختلطوا بمن لجأوا إليها هربًا من المغول، مما أدى إلى اندماجهم في المجتمع التركي. هذا التعقيد يجعل تحديد النسب بدقة أمراً صعبًا، كما أظهرته كتابات بعض المؤرخين الأتراك.

على سبيل المثال، في كتاب “فذلكة التواريخ” لحاجي خليفة، عُرّف عثمان بأنه ابن أرطغرل بن سليمان شاه، ويُقال أن نسبه يتصل بأوغوز بن قره خان. لكن محقق الكتاب أضاف تفاصيل طويلة ومعقدة لهذا النسب، مما يثير الشكوك حول مصداقيته.

وبالمثل، نجد في كتاب “سجل عثماني” للتركي محمد ثريا، روايتين متناقضتين حول نسب أرطغرل؛ الأولى تربطه بنسل عيص بن إسحاق، والأخرى تجعله من نسل يافث بن نوح. يسرد ثريا نسبًا طويلًا وغير متناسق لأرطغرل، مما يضعف موثوقية هذه الروايات.

من الواضح أن محاولات الأتراك لتحديد أنسابهم بشكل دقيق مليئة بالفرضيات والتخمينات، دون دليل ثابت. هذا ما يؤكده المعاصر أوزتونا، الذي وصف شجرة نسب أرطغرل بأنها افتراضية، وأشار إلى أن قصة اعتناق أرطغرل وابنه عثمان الإسلام ربما لفقت لتعزيز مكانة الأسرة.

  1. أكمل الدين إحسان أوغلى، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة (إسطنبول: ارسيكا، 1999م).

 

  1. حاجي خليفة، فذلكة التواريخ، تحقيق: سيد محمد السيد (أنقرة: مؤسسة العالي أتاتورك للثقافة واللغات والتاريخ، 2009م).

 

  1. محمد ثريا، سجل عثماني، (إسطنبول: معارف نظارات جليلة، 1308ه).

 

  1. يلماز أوزتونا، المدخل على التاريخ التركي، ترجمة: أرشد الهرمزي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2005م).

 

  1. يلماز اوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، (إسطنبول: منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م).

غموض وتضارب روايات وأساطير

التباينات في روايات نسب أرطغرل وعائلته التاريخية

تعتبر شخصية أرطغرل شخصية هامشية في التاريخ التركي، ولولا الترويج الدرامي لصناعة الشخصيات، لظل غير معروف باستثناء كونه والد مؤسس السلطنة العثمانية. الأتراك الجدد، بالتعاون مع الإسلامويين والتنظيمات العربية الداعمة للمشروع العثماني، تعمدوا تحويل أرطغرل إلى شخصية أسطورية من خلال الكتابات والدراما، ما جعله يُعتبر شخصية ملهمة، في حين أنه في الواقع كان مجرد زعيم قبلي فرّ مع قبيلته إلى الأناضول السلجوقية هربًا من وسط آسيا، حيث استقبلهم السلاجقة وأعطوهم أراضٍ ليعيشوا فيها ويشكلوا حاجزًا ضد البيزنطيين.

أصول العثمانيين تعود إلى قبيلة قابي، وهي جزء من قبائل الغز (الأوغوز) التركمانية التي كانت تسكن في وسط آسيا. بعد الغزو المغولي، هاجروا غربًا نحو الأناضول، حيث التقت بالسلاجقة الذين وضعوهم كحاجز بينهم وبين البيزنطيين، مانحين إياهم أراضي في وسط الأناضول ليستقروا فيها تحت حكم دولة سلاجقة الروم في عام (1123م). بعد استقرارهم، قرروا الترحال نحو حوض الفرات، لكن قائدهم غرق أثناء عبور النهر. انقسمت القبيلة بعد وفاته؛ فريق عاد إلى آسيا الوسطى، وفريق بقي في الأناضول تحت قيادة أرطغرل، الذي انضم إلى الدولة السلجوقية وعمل كقوة عسكرية ضد البيزنطيين.

المغول والسلاجقة شكلوا قوة العثمانيين من هجين بين الترك والتتار.

يذكر محمود شاكر في كتابه “محنة المسلمين في كوسوفو” أن الدولة العثمانية نشأت في عام 688هـ (1289م)، عندما بدأ عثمان بن أرطغرل بتوسيع إمارته التي منحه إياها السلطان السلجوقي علاء الدين لقاء مساعدته في قتال البيزنطيين. تمثل هذه الأراضي المنطقة بين “كوهتية وبورصة” اليوم، وكان الهدف منها أن تكون درعًا للسلاجقة ضد الغارات البيزنطية. ورغم فضل السلاجقة، انقلب عثمان عليهم واستولى على أراضيهم.

تثير المصادر التاريخية الشكوك حول إسلام أرطغرل، حيث تدعي بعض الروايات أن الإسلام دخل إلى قبيلته بعد وفاته، في عهد ابنه عثمان. يشير وليد فكري في كتابه “الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال” إلى أن هوية أرطغرل الإسلامية محل شك، حيث تُظهر الأدبيات العثمانية تناقضات في رواياتها، فبعضها يعتبره مسلمًا أصليًا، وأخرى تدعي أن إسلام قبيلته جاء لاحقًا.

ويؤكد كثير من المؤرخين أن شخصية أرطغرل أسطورية إلى حد كبير، وغالبًا لم يكن مسلمًا في البداية، بل تحولت القبيلة للإسلام في عهد ابنه عثمان. حتى اسم عثمان كان “أوزمان” بالأصل، وتغير إلى عثمان بعد اعتناقه الإسلام وزواجه من ابنة شيخ صوفي.

الأمر ينطبق على اسم والد أرطغرل، المعروف باسم سليمان شاه، الذي لا يوجد له ذكر في المصادر المعاصرة لأرطغرل، مثل ابن بطوطة والمؤرخ البيزنطي يوحنا السادس قانتاقوزن. أقدم ذكر لأرطغرل ووالده جاء في عملة عثمانية نقشت عليها أسماء أرطغرل ووالده غندوز آلب، مما يشير إلى أن اسم الجد الحقيقي ليس سليمان شاه، بل غندوز آلب.

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2019).
  2. محمود شاكر، محنة المسلمين في كوسوفا (الرياض: مكتبة العبيكان، 2000م).
  3. صفحات من التاريخ، العملات التي سكها عثمان غازي، على الرابط:

http://www.hakikat.com/dergi/211/hyilmaz211.html

  1. منصة CNN العربية، مؤرخ كويتي يثير جدلا حول أرطغرل: يغلب أنه وثني غير مسلم وليس ثابتا تأسيسه للدولة العثمانية، على الرابط:

https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2019/03/27/kuwaiti-historian-artogrol-hisory

تشغيل الفيديو

التوجه الاستراتيجي للعثمانيين الجدد:

السيطرة على العقول عبر الدراما

سعى العثمانيون الجدد بكل جهد لإعادة كتابة تاريخ الدولة العثمانية بطريقة تدعم ارتباطهم بسلالة آل عثمان. هذه المحاولة تُستغل في تعزيز منظومة القوة الناعمة، والتي يسعى بعض الأتراك إلى الاستفادة منها لإحياء العقيدة التوسعية على حساب بعض البلدان العربية، خاصة تلك التي تأثرت بالإيديولوجية الدينية، وحاولوا تدمير بعض الأوطان تمهيداً لتحقيق “التمكين” لمشروعهم السياسي.

الأتراك أرادوا إعادة كتابة التاريخ لتحقيق الأجندة السياسية.

في هذا السياق، عمل التنظيم الإخواني على تلميع صورة وتاريخ العثمانيين، حتى أن بعض العرب المخدوعين يتمنون أن يعودوا للحكم تحت القيادة التركية التي يظنونها خلافةً للمسلمين جاءت لتجدد الدين. هذا الاتجاه الغريب تجلى بوضوح خلال ما سُمي بـ”الربيع العربي”، كما رأيناه في استقبال إخوان مصر لرجب طيب أردوغان بشعارات مثل “أردوغان أردوغان يا حبيب الإخوان”.

في سبيل ذلك، استعان العثمانيون الجدد بأشباه المؤرخين لتضخيم شخصية “أرطغرل” وتقديمها على أنها شخصية ذات دور رائد في الإسلام، ورفع مشعل الجهاد تحت راية السلاجقة، ليكمل ابنه عثمان مسيرة والده المجاهد. إلا أن العودة إلى المصادر التاريخية تكشف أن أرطغرل لم يكن مسلماً، بل كان وثنياً ذا أطماع توسعية، جعلت السلطان السلجوقي علاء الدين الأول يشك في نواياه ويمنحه أراضي كبيرة لتجنب إشراك أتباعه في الجيش السلجوقي.

وفي الواقع، أحد المؤرخين الموالين للأطروحة العثمانية امتدح تاريخ سلاطين الدولة العثمانية لكنه اعترف ضمنيًا بأن أرطغرل لم يكن على عقيدة الإسلام. عبد العزيز الشناوي، في كتابه “الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها”، ويذكر أنه على عهد الأمير عثمان، وفي وقت مبكر، تحدد الوضع الديني والعسكري والسياسي للأتراك العثمانيين، فقد اعتنق هذا الأمير الدين الإسلامي وتبعه الأتراك العثمانيون. وكانت عقيدتهم الدينية قبل ذلك غير واضحة تمامًا، ويحتمل أنهم كانوا في حالة تحول من الوثنية أو من عقائد أخرى إلى الإسلام”.

هذا الاعتراف يؤكد أن الأتراك العثمانيين، بمن فيهم أرطغرل، كانوا على الوثنية، ولم يبدأوا في اعتناق الإسلام إلا بعد تولي عثمان بن أرطغرل قيادة التنظيم العثماني. ربما رأى العثمانيون في الإسلام وسيلتهم لتحقيق ما حققه السلاجقة، نظراً لصعوبة منافستهم خارج إطار الدين الإسلامي.

لجأ بعض المؤرخين الموالين للأطروحة التركية إلى ترويج أساطير حول تأسيس الحكم العثماني، مثل ادعاء أن أرطغرل وقع على القرآن في بيت أحد المشايخ وظل يقرأه حتى الصباح، ثم رأى رؤيا تبشر بأن ذريته ستحكم لقرون إذا احترموا القرآن. هذه الروايات طُعِن فيها من قبل المؤرخين، ومن بينهم المؤرخ الألماني Giese ، الذي رأى أن ” هاتين الروايتين محاولتان لدعم مشروعية حكم العثمانيين لسائر القبائل التركية بآسيا الصغرى بتدخل إلهي. وقد حمل المؤرخ التركي المعاصر الأستاذ محمد فؤاد كوبريلي حملة عنيفة على هاتين الروايتين”، وانتقدها أيضًا المؤرخ التركي المعاصر محمد فؤاد كوبريلي.

أنصار الطرح الأردوغاني حاولوا بشدة إثبات “إسلام” أرطغرل، ورفضوا نظرية جيبونز، مستندين إلى المؤرخ التركي محمد فؤاد كوبريلي لتأكيد نظريتهم. لكن بالعودة إلى كتابات كوبريلي، نجد أنه لم يتحدث عن أرطغرل بشكل صريح، بل تناول بشكل عام أن العثمانيين لم يعتنقوا الإسلام إلا في مرحلة لاحقة بعد وفاة أرطغرل.

يعترف كوبريلي بأن الإسلام لم يكن منتشرًا في الأراضي العثمانية الأولى ولا في بقية المناطق التركية، ويقول: “وإنه لأدنى إلى الصواب والحيطة، إزاء هذه الدلائل، ألا نتصور دخولا سريعا في الإسلام لا في الأراضي العثمانية ولا في أراضي الإمارات التركية الأخرى بغرب الأناضول”. لم نجد في كتابه حول قيام الدولة العثمانية أي دليل على إسلام أرطغرل.

ما يعنينا في هذا السياق هو التحذير من محاولات تسميم الفكر العربي بصناعة ميول مؤيدة للأطروحة العثمانية. هذا التوجه الاستراتيجي يعبر عنه الإخواني محمد العوضي، من خلال تقييمه لمسلسل أرطغرل، قائلاً: “نحن انتهينا من المعركة الاقتصادية وأثبتنا أنفسنا…ثم انتقلنا إلى المعركة السياسية…الآن معركتنا هي معركة المزاج العام أي معركة الدراما من أجل امتلاك العقول”.

  1. أكمل الدين إحسان أوغلى، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة (إسطنبول: ارسيكا، 1999م).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة 1980م).

 

  1. محمد فؤاد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد سليمان (القاهرة: دار الكاتب العربي 1967م).

 

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2019).