الدراما والترجمات:

أدوات الترويج للعثمانية الجديدة في العالم العربي

يُجمع علماء الجيوسياسية على أن “العثمانية الجديدة” تتجاوز كونها مجرد ظاهرة ثقافية أو حتى حنين إلى الماضي، لتصبح سياسة منهجية تهدف إلى تعزيز الدور السياسي للإيديولوجيا في الشرق الأوسط، ولا سيما العالم العربي. ويرى الباحثون أن التحول الجوهري في السياسة الحزبية خصوصا في تركيا نجم عن فشل في تحقيق هدفها الرئيس وهو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. عندها، تم إحداث تحول كبير؛ حيث أدرك النظام التركي أن تأثيره في السياسة العالمية يعتمد على تعزيز دوره في شرق المتوسط وجنوب الأناضول، أي في العالم العربي.

ويصف بعض الباحثين ملامح هذه السياسة بقولهم إن داود أوغلو اعتبر الشرق الأوسط “الحديقة الخلفية” لتركيا، ودعا بلاده إلى لعب دور بارز في هذه المنطقة. لذا استجابت تركيا باللعب على القوى الناعمة، مروجة للنموذج التركي عبر الدراما، وخاصة التاريخية منها، من خلال دبلجتها إلى لغة مبسطة ولهجات محلية لضمان وصولها إلى جمهور واسع من العرب، خاصة غير المتعلمين. ومن هنا بدأت سلسلة إنتاج ضخم لمسلسلات عديدة تستحضر الحنين إلى “الماضي”، مع تصوير القادة العثمانيين كأبطال الإسلام، رغم أن هذه الدراما تفتقر إلى الدقة التاريخية، وتوظف الأساطير لخدمة أهداف سياسية معاصرة.

ويتضح هذا في مسلسلات مثل “قيامة أرطغرل” و”قيامة عثمان” وحتى “السلطان سليمان القانوني”. فقد تم تصوير أرطغرل، الذي لا تتجاوز سيرته الحقيقية بضع أسطر، على أنه يسعى لوحدة الأمة الإسلامية ومقاومة أعداء القدس، في محاولة للترويج بأن عودة القدس ستكون عبر العثمانية الجديدة.

لم تقتصر أدوات الترويج على الدراما التركية فحسب، بل شملت أيضًا ترجمة العديد من الكتابات التركية عن التاريخ العثماني إلى اللغة العربية. اتسمت هذه الكتابات بإبراز أهمية العصر العثماني، وتقديمه بطباعة فاخرة وترجمة سلسة. كما تم استقطاب كُتاب عرب، وخاصة من تيار الإسلام السياسي، للكتابة عن التاريخ العثماني.

إعادة كتابة التاريخ العثماني: السياسة الثقافية لتركيا في العالم العربي

من هؤلاء الكُتاب علي الصلابي، أحد أبرز رموز الجناح الفكري لتيار الإسلام السياسي. وعلى الرغم من أن خلفيته التعليمية دينية وليست تاريخية، فقد كتب العديد من الكتب التاريخية حول الدولة العثمانية، مثل “فاتح القسطنطينية”، “السلطان محمد الفاتح”، و”السلطان عبد الحميد الثاني وفكرة الجامعة الإسلامية”.

لاقت كتابات الصلابي ترحيبًا واسعًا بين أنصار تيار الإسلام السياسي وتم الترويج لها بشكل مكثف. ومع ذلك، كانت هناك بعض الانتقادات على مواقع مثل Goodreads، حيث وصف البعض كتاباته بأنها عاطفية وغير موضوعية، تنحاز للدولة العثمانية حتى في عصر انهيارها.

كما برزت كتابات عربية أخرى تروج للعثمانية الجديدة، مثل كتاب “الخلافة العثمانية: دولة القدر” لعابد توفيق الهاشمي، الذي يفتقر أيضًا إلى الخلفية التاريخية، وركز بدلاً من ذلك على تقديم الدولة العثمانية بصورة رومانسية ودينية. وأهدى الهاشمي كتابه إلى الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، معتبراً تركيا تحت قيادته امتدادًا روحياً للخلافة العثمانية.

نرى من هذا أن “العثمانية الجديدة” تمثل سياسة منهجية لكتابة التاريخ التركي والسردية العثمانية باللغة العربية، بهدف غمر العالم العربي بالفكر التركي.

  1. أحمد آق كوندز وآخرون، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: دار ماتباسيليك، 2008).

 

  1. أكمل الدين إحسان أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999).

 

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: دار أبعاد، 2016).

 

  1. عابد توفيق الهاشمي، الخلافة العثمانية: دولة القدر، ط2 (أبو ظبي: د.ن، 2012).

 

  1. عليّ الصلابي، الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط (بورسعيد: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2001).

 

  1. محمد بنعزيز، مسلسل قيامة أرطغرل: الدعاية الدينية تصنع مجد الزعيم التركي، هسبريس، 28 إبريل 2023.

الإخوان كأداة عثمانية:

ودورهم في تحقيق الأطروحات التركية في العالم العربي

كشف موقع “حبر أبيض” عن الأبعاد المخفية في التاريخ العثماني، موضحًا أهداف إعادة صياغته والأدوات المستخدمة لذلك، بالإضافة إلى نطاق انتشاره. وقد نجح الموقع في تسليط الضوء على مخاطر هذه الأجندات التي تستهدف بشكل رئيس العالم العربي، معتمدًا على أحد أخطر التنظيمات الناطقة باللغة العربية لاستغلالها في الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي، بهدف تأسيس كيانات تتبع إيديولوجيا للإخوان وسياسيًا لتركيا.

في هذا الإطار، رأى صانع القرار السياسي في إسطنبول أن التوسع والانتشار يبدأ من خلال توجيه القوة الناعمة، والتي تتضمن تنقية التاريخ العثماني الذي يغلب عليه الطابع المظلم. ومع ميل الشعوب والجماهير عامة للزعيم، أحاط العثمانيون سلاطينهم بهالة من التقديس والتنزيه، محاولين رفعهم إلى مستوى الخلافة الراشدة أو الخلافة على منهاج النبوة، عبر تطويع مشبوه لأحاديث السنة النبوية الشريفة.

في محاولتهم لإعادة صياغة التاريخ لخدمة مشاريعهم الإيديولوجية، ركز العثمانيون الجدد على مراكز قوة الدولة العثمانية، بدءًا من أرطغرل وصولًا إلى سلطانهم عبدالحميد الثاني. اجتهد هؤلاء في تمجيد مناقب السلاطين والتغاضي عن مثالبهم، ليصبحوا رموزًا يُحتذى بها، وكأن الأمة العربية لم تُنتج رموزًا يُشار إليهم بالبنان وتُدرَّس سيرهم.

ننتقل هنا لتناول أبرز سلاطين الدولة العثمانية بعد أرطغرل، ونبدأ بعثمان بن أرطغرل الذي يُوصف بأنه اتصف بالشجاعة والحكمة والإخلاص والصبر و”الجاذبية الإيمانية” والعدل والوفاء والتجرد. وعلى الرغم من أن عثمان لم يُلقب بالسلطان في حياته، فإن الإعلام التركي يطلق عليه “أبو الملوك السلطان الغازي فخر الدين قره عثمان خان الأول بن أرطغرل بن سليمان شاه”، ويعتبرونه المؤسس الأول للدولة العثمانية، رغم وجود تحفظات على هذا التصور بناءً على الوقائع التاريخية.

في السياق نفسه، يتجه أحد رموز التيار الإخواني، علي الصلابي، لوصف شخصية محمد الفاتح بالحزم والشجاعة والذكاء والعزيمة والإصرار والعدل والإخلاص والعلم، مشيرًا إلى أن محمد الفاتح نسب الفضل إلى الله، مما يعكس عمق إيمانه، وكأن الصلابي كان معاصرا له، يعيش معه في قصره، وكأنما كان من المرافقين له.

ووفق النهج ذاته، صُوِّرَ السلطان العثماني سليمان القانوني على أنه أعظم سلاطين الدولة العثمانية، وكتب حوله الكتب والمجلدات، ورفع إلى مرتبة أعلى من مستوى البشرية. وربما تملك هذا الاستعلاء النفسي والكبر السلطوي من السلطان سليمان نفسه، حيث يصف نفسه بقوله: “أنا عبد الله السلطان في ملك هذا العالم…جعلتني أمة محمد محبوب الرحمن…لذا فإني أقتدي بمعجزات محمد بفضل الله…أنا سليمان الذي قرأت الخطبة باسمي في الحرمين. أنا السلطان الذي يُسير السفن نحو بحر الفرنجة والمغرب والهند. أنا سلطان شاه بغداد والعراق وقيصر الرومان ومصر. أنا السلطان على التاج والعرش الذهبي لملك المجر. أنا السلطان في المروءة والإنصاف والإحسان إلى أصغر عبد”.

سليمان القانوني في الرواية العثمانية: بين التعظيم الذاتي ورفع الهالة فوق البشر

هذا الوصف يعكس الاستعلاء الذي اتصف به سلاطين الدولة العثمانية، وتضخيمه من قبل المؤرخين المتعثمنين حتى جعلوا المسلمين ينسون رموز صدر الإسلام ومن أدخل الأتراك في الإسلام. نختم بالحديث عن السلطان عبدالحميد الثاني، الذي يصفه العثمانيون الجدد بـ”السلطان المظلوم”، ويستميتون في الدفاع عنه. وذكر فيه الإخواني الصلابي أنه شرع في إصلاح الدولة وفق التعاليم الإسلامية لمنع التدخل الأوروبي، وحاول تطبيق الشريعة الإسلامية، وقاوم الاتجاهات الغربية المخالفة للحضارة الإسلامية، واهتم بفكرة الجامعة الإسلامية التي أثارت قلق الأوروبيين.

ولا يزال الإخوان يمثلون خنجر الأتراك العثمانيين في قلب الأوطان، حيث يلعبون دور الطابور الخامس ومعول هدم الحضارة العربية والإسلامية، مروجين للأطروحة العثمانية مقابل بعض الامتيازات، تتراوح بين الحماية والسعي للوصول إلى السلطة في البلدان العربية ولو تحت السيادة التركية.

  1. تامر بدر، “عثمان بن أرطغرل”، مقالة نشرت على موقع “تاريخ الإسلام” على الرابط عثمان بن أرطغرل – قادة لا تنسى – أعلامنا| قصة الإسلام (islamstory.com)

 

  1. فريدون أمجان، سليمان القانوني: سلطان البرين والبحرين(القاهرة: دار النيل للطباعة والنشر، 2014).

 

  1. علي الصلابي، الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط (بورسعيد: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2001).

 

  1. يلماز أوزتزنا، تاريخ الدولة العثمانية (إسطنبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988).
تشغيل الفيديو

تحريف الأسماء والهوية:

بين أتمان وعثمان في التاريخ العثماني

كيف تحول قائد عشيرة مرتزق إلى أسطورة إسلامية؟ هذا ما يسعى العثمانيون الجدد وحلفاؤهم من الإخوان المسلمين والجماعات الغاضبة لترويجه، بهدف طمس الهوية العربية الإسلامية.

عندما انتقل أرطغرل من آسيا الوسطى إلى الأناضول شمال الحدود العربية، وجد أن السلاجقة يحتاجون لمقاتلين يحاربون البيزنطيين بالنيابة عنهم. أرطغرل نجح في هذا الدور وأصبح حاجزًا بين السلاجقة والبيزنطيين، ولكن ابنه عثمان انقلب على السلاجقة واستولى على حكمهم.

يشير الباحث مصطفى محمود زكي في مقاله “ماذا كانت عقيدة العثمانيين الأوائل” إلى أن القبائل التركية، ومنها قبيلة القابي التي ينتمي إليها عثمان بن أرطغرل، كانت تدين بدين الشامانية، والذي لا يحتوي على نبي، كتاب مقدس، معبد، أو عبادة منظمة، بل كانت تعبد تك تنجري كرب للأتراك فقط. هذه القبائل كانت تحنط موتاها وتدفنهم مع ممتلكاتهم، مشابهة لما كان يحدث في مصر القديمة.

هل كان العثمانيون الأوائل مسلمون؟ يرى الدكتور عبد الفتاح حسن أبو عليه في كتابه “الدولة العثمانية والوطن العربي الكبير” أن أرطغرل وقبيلته كانوا وثنيين، وهو رأي يدعمه المؤرخ الإنجليزي جيبونز الذي ذكر أن أرطغرل، زعيم قبيلة وثنية من الرعاة، هرب من منطقة خوارزم أمام زحف جنكيزخان إلى الأناضول. ويضيف مصطفى زكي أن العثمانيين في بدايات عثمان لم يكونوا مسلمين، وأن إسلام عثمان جاء بعد رؤيته لحلم بشّر فيه بمكانة عظيمة لقاء احترامه للقرآن.

إعادة قراءة تاريخ العثمانيين الأوائل: حقائق وثنية تناقض الروايات الإسلامية

توضح المصادر البيزنطية أن أسماء قادة الأتراك (أرطغرل وعثمان) تم تحريفها لتقارب الأسماء العربية لاحقًا. فمثلاً، الاسم “أتومان” تحول إلى “عثمان”. هذه التحريفات والتجميلات تهدف إلى إعطاء طابع إسلامي لشخصية أرطغرل وتاريخ العثمانيين.

العثمانيون الجدد قاموا بتجميل تاريخ أرطغرل من خلال الدراما والمؤلفات، مما جعل العديد من العرب، خاصة الحركيين والإسلامويين، ينساقون وراء هذه الروايات التجميلية، رغم وجود روايات أخرى تؤكد وثنيته.

لماذا يهرب العثمانيون الجدد من الحقيقة؟، يؤكد جمال قفادار في كتابه “بين عالمين: بناء الدولة العثمانية” أن تغيير اسم عثمان من أتمان يشير إلى محاولة تعزيز الهوية الإسلامية للعثمانيين الأوائل، وهو ما يتماشى مع السعي لأسلمة التاريخ العثماني رغم الحقائق المناقضة الموجودة في المصادر البيزنطية والعملات القديمة.

  1. جمال قفادار، بين عالمين: بناء الدولة العثمانية، ترجمة: محمد عثمانلي (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022).

 

  1. عبدالفتاح أبو علية، الدولة العثمانية والوطن العربي الكبير (الرياض: دار المريخ، 2008).

 

  1. مصطفى محمود زكي، ماذا كانت عقيدة العثمانيين الأوائل؟، مركز تبيان على الرابط: https://tipyan.com/