السرديَّة المُفتعلة

في نشأة الدولة العثمانية

مع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، استقرت القبائل التركمانية في غرب الأناضول، مما سمح لها بمجاورة حدود الإمبراطورية البيزنطية. خلال هذه الفترة، ظهرت قيادة عثمان وقبيلته، إذ فرضوا سيطرتهم على الأقاليم الشمالية الأقرب إلى بيزنطة والبلقان، وبذلك استولوا على نطاقات نفوذ واسعة على هذه الحدود. في هذا الإطار، يوثق المؤرخ التركي خليل اينالجيك تحولات الأراضي الحدودية في كتابه بالقول: “أصبحت الثقافة الشعبية المنتشرة التي تضمنت الهرطقة الدينية والطرق الصوفية والأدب الملحمي والقانون العرفي، تحل محل الحضارة المتقدمة في المناطق الداخلية”.

تراث عثمان مؤسس الدولة العثمانية من الأحلام إلى السيطرة في الثقافة التركية.

من هذا المناخ الذي غلبت عليه الهرطقة الدينية والتقاليد الصوفية والدروشة، ظهرت إمارة عثمان لاحقًا، والتي تأثرت بشكل كبير بالرؤى والأحلام. ويؤكد حاجي خليفة ذلك في تعليقه قائلاً: “كان عثمان بك يقدر العلماء والصالحين، وكان يزور الشيخ أده بالي القرماني بشكل متكرر، وفي إحدى الليالي رأى في حلمه أن قمراً انتقل من حضن الشيخ إلى حضنه، ومن ثم نمت شجرة ضخمة من سرته تغطي الآفاق، وتحتها جبال وأنهار يستفيد الناس من مياهها. عند استيقاظه، روى حلمه للشيخ الذي بشره بمنصب السلطنة، وأن شأنه سيعلو وسيستفيد الناس منه ومن نسله، وزوجه ابنته على الفور”. ولكن يعلق محقق الكتاب بأن الشيخ كان حينها يبلغ من العمر مائة وعشرين عامًا.

وقد اعتمد العديد من المؤرخين الأتراك هذه الروايات بثقة وأدرجوها في كتبهم وانتشرت في الأدبيات العربية لاحقًا بدون دليل قاطع على وقوعها فعلاً، ولم تُعالج بمنهج علمي وموضوعي للتحقق من صحتها أو عدمها. لذا يناقش محمد سهيل طقوش هذه الرواية في كتابه قائلاً: “إن قصة زواج عثمان من ابنة أده بالي التي وردت في نهاية الحلم، كانت محل شكوك كثيرة، وربما تكون مفتعلة”. وللأسف، فإن هذا النوع من التاريخ الشعبي والمروي لا يتفق مع العقل والمنطق، بل يؤثر سلباً على تصور المتلقي، فالوعي التاريخي لا يقبل هذا النوع من الأفكار التي تستند إلى الرؤى والبشارات غير المنطقية.

من جهة أخرى، استغلت الدراما التركية هذه الأساطير وقدمتها كحقائق مؤكدة في التاريخ التركي، وهذا يبدو أنه يخدم مصالح السلطة العثمانية الجديدة في تلك المناطق الحدودية، ويهدف إلى التأثير على العشائر التركمانية الأخرى لتوحيدها تحت لواء إمارة عثمان. ولكن في الواقع، يعد هذا النوع من التاريخ طريقة غير موضوعية ومسيئة لتزييف الحقائق والتضليل على حساب الحقيقة التاريخية وعلى حساب القارئ والمشاهد، ولأغراض أخرى عنصرية وحزبية وسياسية.

  1. حاجي خليفة، فذلكة التواريخ، تحقيق: سيد محمد السيد (أنقرة: مؤسسة العالي أتاتورك للثقافة واللغات والتاريخ ، 2009).
  2. خليل اينالجيك، تاريخ الدول العثمانية من النشأة إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط( بيروت: دار المدار الإسلامي ، 2002).
  3. طلال الطريفي: العثمانيون ماكان حديث يفترى، ط4 (الرياض: دار ائتلاف للنشر والتوزيع ، 2020).
  4. يلماز أوزتونا، المدخل إلى التاريخ التركي، ترجمة: أرشد الهرمزي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2005).
  5. محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 2008).