من العنصرية إلى التتريك:
أدوات السيطرة العثمانية
لم تكن العنصرية التركية مجرد سلوك فردي مقتصر على بعض المتطرفين من الأتراك، بل كانت نهجًا اجتماعيًا مقبولًا ومقدسًا بينهم. فقد اعتبر العنصر التركي نفسه في مرتبة أعلى من غيره من البشر. ورغم أن العثمانيين أخذوا الإسلام عن العرب، إلا أنهم لم ينظروا إليهم إلا كمجموعة أقل شأنًا، بل وضعوهم في مرتبة أدنى حتى من الشعوب الأخرى.
العنصرية التركية لم تقتصر على العرب، فقد عانى الأرمن والأكراد من حملات إبادة أدت إلى مقتل مئات الآلاف من الأبرياء، إضافة إلى الشعوب الأوروبية الشرقية التي قدر لها أن تعيش بجوار العثمانيين، حيث تعرضوا لصنوف من القهر وصلت إلى حد خطف أطفالهم واستحلال نسائهم.
يذكر وليد فكري في كتابه “الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال” :كانت الإمبراطورية العثمانية تتهاوى؛ ففي الجناح الأوروبي (الرومللي) تسبب الطغيان العثماني في ثورات وانتفاضات تطالب بالاستقلال في البلقان واليونان وغيرها. أما في الجناح العربي، فقد بزغت الحركات الوطنية في مصر وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد، بعدما ضاق أهلها بظلم وظلام العثمانيين واستنزافهم لثرواتها وعبثهم بأمنها، وعجزهم عن حمايتها. كما أدى إحياء القومية العربية إلى مقاومة العنصرية العثمانية التركية، مما دفع العرب إلى التطلع للاستقلال عن الحكام المتغطرسين في إسطنبول.
ويضيف علي آغجاكولو في مدونة “أحوال” تحت عنوان “تاريخ تركيا العنصرية في ‘مكر التاريخ“: الحقيقة العظيمة هي أن الدولة العثمانية كانت دولة منغلقة على نفسها، تأسست على أساس العنصرية. وكانت مقاومة حركات القومية المنبعثة من الثورة الفرنسية تغطي هذه العنصرية وكأنها ستار كبير. هذا هو ما نعنيه بالشر التقليدي القديم. وفقًا للاعتقاد التقليدي المستقر لدى الأتراك، فإن القبيلة الأعلى حسبًا ونسبًا من الفصائل والعشائر والبطون الأخرى هي التي تمتلك صلاحية حكم جميع الناس. وبحسب هذا الفهم، فإن السلطة هبة من الإله، وهي مقدسة. وقد عزوا أنفسهم إلى قبيلة ‘قابي’ بسبب هذه السيادة والقداسة التي تنتقل عبر الدم والنسب“.
التتريك: أسلوب حياة!
التتريك هو عملية تحويل الأشخاص والمناطق الجغرافية من ثقافاتهم الأصلية إلى الثقافة التركية، وغالبًا ما كان يتم ذلك بالقسر والإكراه. ولم يكن التتريك مجرد اتهام بلا دليل أو أعمال متطرفة محدودة، بل كان سياسة ممنهجة وعقيدة معتمدة من أعلى السلطات التركية. انتشرت هذه السياسة على نطاق واسع طوال حكم العثمانيين للأقاليم العربية والكردية والأرمنية. اعتمدت العثمانية على إدارة المناطق المحتلة عبر محميات تركية تحولت إلى قواعد معزولة عن محيطها، هدفها استغلال خيرات تلك الشعوب وترحيلها إلى إسطنبول.
كما أن سياسة التتريك لم تكن مجرد توجه رومانسي بل كانت سياسة ممنهجة تهدف إلى توحيد العرق التركي تحت راية الإمبراطورية “الطورانية”، مما يعني إقصاء أي عرق آخر من تحت العباءة التركية. كان من بين أساليبهم ترسيخ الفكر والثقافة واللغة التركية، حتى أن الأذان تم تغييره من العربية إلى التركية، وتم استبدال الحروف العربية باللاتينية. انتشرت هذه الفكرة في جميع أنحاء تركيا، وأصبح كل من ينتمي لعرق غير تركي عرضة للقهر أو القتل أو التعذيب أو التهجير القسري.
في كتاب “نضال العرب والأرمن ضد الاستعمار التركي”، يورد المؤلفان نعيم اليافي وخليل الموسى حوارًا بين مسؤولين عثمانيين هما نعيم بيك وعبد الأحد نوري بيك، يكشف بوضوح حجم المخطط وعدم ممانعة كبار القادة الأتراك في تنفيذه. ويقول نعيم: “قلت لنوري بيك: يا حضرة البك، لنخفف قليلًا من إرسال المنفيين لأن الموت يهدد كل سكان ما بين النهرين، وبهذه الطريقة لن يبقى سوى الأشباح في هذه الأراضي الواسعة“. ليرد نوري بيك قائلًا: “بهذا الشكل نبيد في آن واحد عنصرين خطرين. أليس الذين يموتون مع الأرمن هم من العرب؟ إنهم يمهدون الطريق أمام التتريك“.
الأساطير في تشكيل الفكرة العثمانية
تبنت الدولة العثمانية كل أسطورة ترسيخ مكانة العنصر التركي واعتباره هبة من السماء، وأن حكمه جاء بإرادة إلهية. يشير الباحث والبروفيسور حاتم الطحاوي إلى أن أسطورة “حلم عثمان” التي توجد في المصادر التاريخية العثمانية وتؤسس للتاريخ العثماني بأكمله، ما هي إلا تقليد متعسف في إطار تقاليد الكتابة التاريخية الإسلامية والبيزنطية. تم ابتكار هذه الأسطورة لإسباغ هالة أسطورية على عثمان وسلالته من بعده، ولإيصال رسالة مفادها أن دولتهم تعبير عن إرادة السماء، خاصة بعد ارتباطها بالدين. تم ابتكار هذه الأسطورة في وقت لاحق لخلق شرعية سياسية وعسكرية مباركة من السماء لأمير من أصل اجتماعي متواضع.
الجرأة على الحديث الشريف لتسويق العثمنة
لم يتورع الأتراك عن تزييف التاريخ، بل بلغ بهم الأمر إلى تزييف الأحاديث النبوية الشريفة وتحريف معانيها لخدمة مشروعهم الاحتلالي وتسويقه في الوجدان الإسلامي. من بين تلك الأحاديث، الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده الإمام السيوطي في “الجامع الصغير”، وهو من الأحاديث التي ضعفها الشيخ الألباني: “فَارِسُ نَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ، ثُمَّ لَا فَارِسَ بَعْدَ هَذَا أَبَدًا، وَالرُّومُ ذَاتُ الْقُرونِ كُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ خَلَفَهُ قَرْنٌ، أَهْلُ صَبْرٍ، وَأَهْلُهُ لآخِرِ الدَّهْرِ هُمْ أَصْحَابُكُمْ مَادَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ“. فسر بعض الأتراك هذا الحديث بما يخدم مصلحتهم، وزعموا أن المقصود بالروم هم الأتراك، وأن فيهم السلطنة والإمارة على العرب إلى آخر الدهر.
لم يتوقف الأتراك عند هذا الحديث، بل حاولوا استغلال أحاديث القسطنطينية لصالح سلاطينهم، مثل الحديث الشهير: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”، وهو حديث ضعفه علماء الحديث لوجود علتين في سنده. الأولى: أن الراوي للحديث (عَبْدُ اللهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ) يُصَنَّف عند علماء الجرح والتعديل على أنه راوٍ مجهول. الثانية: لم ينقل هذا الحديث إلا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الحاكم في مسنده، وضعفه الشيخ الألباني والأرناؤوط.
الأساطير والجرأة على الحديث: تسويقًا للسيطرة والاحتلال العثماني.
- نعيم اليافعي، نضال العرب والأرمن ضد الاستعمار العثماني (اللاذقية: دار الحوار، 1995).
- وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: دار الرواق، 2020).
- علي أغجاكولو، تاريخ تركيا العنصرية في مكر التاريخ، مدونة أحوال، على الرابط: https://ahvalnews.com/ar
- علي البسام، العثمانيون والأحاديث الضعيفة، منصة حبر أبيض على الرابط: https://whiteink.info/