حديث الوهم العثماني للسلطان الفاتح:
فتح القسطنطينية
عادة ما تتأثر النفس البشرية لبعض أحاديث الغيبيات فينجذبون لها كأخبار أشراط الساعة، وأحاديث آخر الزمان، وأحاديث الفتن والملاحم، لما فيها من القصص المثيرة، والغرائب والعجائب، التي تشبع بطبيعة فضول الإنسان في معرفة أحوال المستقبل، ومحاولة معرفة ما يخبئه الغيب، حتى أصبحت سوقاً رائجة للإثارة والجذب والتسويق، فامتلأت المصنفات فيها بالغث والرخيص من الروايات المكذوبة، وتكاثرت الكتب المضللة والواهية، التي اختلطت بكثير من الأساطير والخرافات والخيال، وموروثات الأمم الماضية. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في حادثة فتح القسطنطينية في آخر الزمان، التي كثر فيها الخلاف وتضعيف العلماء أغلب مروياتها، إذ وردت فيها نصوص متعددة، منها ما ورد عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر”، ورد في الجامع، وعند ابن ماجة، وابن داوود، وكلها طرق حكم عليها الألباني بالضعف.
المؤرخ اللبناني محمد جميل بيهم انتقد حديث التسويق العثماني في السنة النبوية.
ولكن أصح ما في الباب ما رواه مسلم عن حادثة فتح القسطنطينية، ومن تفاصيلها يتضح أنها مرتبطة بعلامات الساعة الكبرى، وخروج المسيح الدجال، وتدل على أن هذا الفتح لم يحدث بعد بل “يكون بعد قتال الروم في الملحمة الكبرى وانتصار المسلمين عليهم، فعندئذ يتوجون إلى مدينة القسطنطينية فيفتحها الله للمسلمين بدون قتال، وسلاحهم التكبير والتهليل”. في الحديث عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: “سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق. فإذا جاؤوها نزلوا. فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم. قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر. فيسقط أحد جانبيها. قال ثور (أحد رواة الحديث): لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر. ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر. فيسقط جانبها الآخر. ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر. فيفرج لهم. فيدخلوها فيغنموا. فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج. فيتركون كل شيء ويرجعون”. وقال الإمام القرطبيّ: وعلى هذا فالفتح الذي يكون مقارنًا لخروج الدجّال هو الفتح المراد بهذه الأحاديث؛ لأنَّها اليوم بأيدي الروم -دمّرهم اللَّه تعالى- واللَّه بتفاصيل هذه الوقائع أعلم”.
وأما مسألة فتح القسطنطينية وردت أيضا في حديث آخر، فأثارت خلافاً وجدلاً، خصوصا حين نزلها بعضهم على الواقع، واعتبروا أن فتح العثمانيين للقسطنطينية هو المقصود بالحديث، مع أن في ذلك مخالفة واضحة لرواية مسلم. فقد روى عبد الله بن بشر الغنوي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتفتحن القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأمير أميرها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش»، من رواية عبدالله بن بشر، وهو مجهول، لم يوثِّقه إلا ابن حبان، لذلك ذكره الألباني في «السلسلة الضعيفة» وقال: «ضعيفٌ.. وجملة القول: إن الحديث لم يصحّ عندي”. فمن اسقط هذا الحديث على فتح العثمانيين، إذ قال: “وقد فتحت القسطنطينية في سنة سبع وخمسين وثمانمئة، على يد السلطان العثماني التركماني محمد الفاتح (وسمي الفاتح لفتحه القسطنطينية) ، ولم تزل القسطنطينية في أيدي العثمانيين إلى زماننا هذا، وهذا الفتح ليس هو المذكور في الأحاديث التي تقدم ذكرها؛ لأن ذاك إنما يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بزمن يسير؛ ويكون فتحها بالتسبيح، والتهليل، والتكبير لا بكثرة العدد والعدة؛ كما تقدم مصرحا به في غير ما حديث من أحاديث هذا الباب، ويكون فتحها على أيدي العرب لا أيدي التركمان”.
ومن جهة أخرى كيف يكون قائد الجيش محمد الفاتح وهو ماتريدي المعتقد صوفي المشرب، وجيشه كان من الأشاعرة والماتريدية، وفي هذا الحديث تزكية لهم ولمعتقدهم، وأما لي الأحاديث لصالح أولئك القوم وجعلهم في حالة من القدسية والرمزية الدينية غير مقبول إطلاقا، فالأحاديث المتضافِرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحا غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، والقاعدة: حمل المُجْمَل على المُبَيَّن؛ فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصةً وأن الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان جُنْدُهُ من خيار الناس كما جاء في السنَّة” .
بل واتخذ الشيخ المحقق أحمد شاكر موقفا قاسيا، ونفى أن تكون قسطنطينية اليوم، إستانبول، إسلامية، بل تحكمها حكومة علمانية ويقول:” فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله عز وجل، وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا فقد يكون تمهيدا لذلك الفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية”
وقد فسر محمد جميل بيهم في كتابه ” فلسفة التاريخ العثماني” ذلك الواقع الفعلي لحقيقة فتح الترك لإستانبول بقوله: ” لم يكن الترك قوما تجارًا، ولا أصحاب عناية بنشر التعاليم والتمدن لذلك إذا ما بحثنا من استفادتهم من استانبول فإنه نقتصر على ما كان منها من حيث السياسة والفتح، فقد أمنت القسطنطينية للعثمانيين معسكرًا وسطًا بين القارات الثلاث ساعدهم على الفتح “، وفي ذلك دلالة لاشك فيها ان ذلك الحديث بخيرية قائد الجيش والجيش ولا يمكن الارتكاز عليه هنا ولا ينطبق على العثمانيين لا من قريب ولا بعيد.
- عبد الله الرشيد: “هل تصح أحاديث فتح القسطنطينية.. وهل تنطبق على العثمانيين؟” (جريدة عكاظ، عدد يوم الجمعة 03 يونيو 2016م https://www.okaz.com.sa/article/1060300 )
- مجموعة من الباحثين: الموسوعة العقدية، ج 4 (موقع الدرر السنية على الإنترنت net)
- محمد جميل بيهم: فلسفة التاريخ العثماني( عمّان : الهلية للنشر والتوزيع، 2018م)
- محمد بن علي بن آدم الأثيوبي : كتاب البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(الرياض : دار ابن الجوزي، ج 44، 1426-1436ه)