فتح القسطنطينية
بين القداسة والسياق التاريخي
على الرغم من أن فتح القسطنطينية عام (1453) يُعدُّ حدثًا من أهم أحداث تاريخ المشرق الإسلامي، بل في تاريخ أوروبا أيضًا؛ حينما نجح محمد الثاني (الفاتح) في اقتحام المدينة، وتحويلها إلى عاصمة للدولة العثمانية، بعدما كانت عاصمة الدولة البيزنطية. إلى هنا والأمر صحيح من الوجهة التاريخية، لكن غير الصحيح تضخيم البعض من هذا الأمر، بل وصناعة أسطورة تاريخية لمحمد الثاني، الذي أصبح يُعرف بالفاتح، ورسم هالات القداسة حوله، وتحويله إلى رمز ديني إسلامي.
تراجع الدولة البيزنطية وضعفها ساهم في تحقيق انتصار العثمانيين ابتداءً من عصر الدولة الأموية حتى استغل "الفاتح" الفرص.
إذ حرص البعض على وصفه بأنه الأمير المُبشر به من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفقًا للحديث عن فتح المسلمين للقسطنطينية، وأن خير أمير أميرها، وخير الجيوش هو الجيش الفاتح. وفي ذلك يقول البعض عن محمد الثاني: “ارتقى عرش السلطنة للمرة الثالثة، كان أعظم أمله تحقيق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، في فتح إسطنبول وجعلها عاصمة لدولته”. هكذا نجد أنفسنا أمام محاولة معادية لمنهج “أنسنة التاريخ” أي أن التاريخ هو تاريخ بشر، ومحاولة صناعة تاريخ مقدس، والتجاوز عن الكثير من الحقائق التاريخية التي تتعارض مع هذا التاريخ المقدس؛ إذ يرفض البعض ما طرح حول شخصية أم السلطان محمد الثاني، والقول إنها كانت مسيحية، بل وحاولت توجيه ابنها إلى الديانة المسيحية. يرفض أصحاب التاريخ المقدس هذه السردية، فكيف تكون أم “الأمير المُبشر” مسيحية، ويصر هؤلاء على أنها مسلمة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إنما يتم تضخيم عملية فتح القسطنطينية، وهو أمر مهم في التاريخ كما أشرنا من قبل، لكن هؤلاء لا ينظرون إلى الأمر في إطار السياق التاريخي. إذ تؤكد المصادر التاريخية الموثوق بها أن القسطنطينية في عام (1453) لم تكن التي عرفها المسلمون الأوائل، وحاولوا فتحها من قبل. كما لم تعد الدولة البيزنطية، التي كان يُنظَر لها على أنها الإمبراطورية الرومانية الشرقية، مثلما كانت في سالف الأزمان؛ إذ وصلت بيزنطة في عام (1453) إلى حالة من الضعف والانكسار لم تعرفها من قبل. في ذلك يقول المؤرخ الأمريكي الشهير، والمتخصص في التاريخ العثماني، برنارد لويس: “بقيت من الإمبراطورية الواسعة التي حكمها الأباطرة البيزنطيون العاصمة فقط، وبعض المدن البعيدة في اليونان، والتي كانت لفقرها وبُعد مسافتها، لم تكن تستطيع أن تقدم للقسطنطينية عونًا يُذكر”.
هنا لا بُد من العودة إلى السياق التاريخي لتتبع ما أصاب الإمبراطورية البيزنطية عبر تاريخها من ضعف، بحيث وصلت، في زمن الفاتح، إلى أن حدود تكاد تقتصر على القسطنطينية فحسب. ويوضح المؤرخون مدى التدهور التدريجي الذي عانت منه الإمبراطورية البيزنطية. ويبدأ هؤلاء تلك المسيرة من خلال الفتوحات الإسلامية الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، حيث استطاع العرب انتزاع بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا من الدولة البيزنطية، وبذلك حرمت القسطنطينية من مناطق وبلاد واسعة كانت تمدها بالمال والغلال والعتاد والرجال.
كما تعرضت الدولة البيزنطية لهجوم مدمر، جاء هذه المرة من الغرب، من أوروبا؛ إذ تحول مسار الحملة الصليبية الرابعة من التوجه إلى البلاد الإسلامية، حيث توجهت إلى بيزنطة، واقتحمت القسطنطينية في عام (1204)، وتم نهب المدينة. وترك هذا الحادث المروع أثره في تاريخ المدينة بعد ذلك. كما قام سلاجقة الروم، “سلاجقة قونية” بالجهاد ضد الدولة البيزنطية؛ حيث أرهقوا البيزنطيين بشدة، واقتطعوا أجزاء كبيرة من أملاكهم في الأناضول.
ولم يكن حصار محمد الثاني للقسطنطينية هو الحصار العثماني الأول لها؛ إذ سبق أن حاصرها بايزيد الأول حوالي عام (1396)، وكادت المدينة أن تسقط، لولا هبة الدول الأوروبية ضده، حيث اضطُر بايزيد إلى رفع الحصار. لكن بايزيد عاد إلى حصار القسطنطينية في عام (1402)، إلا أنه اضطُر هذه المرة إلى رفع الحصار تحت وطأة الهجمات العنيفة لتيمورلنك المغولي على الأراضي العثمانية شرق الأناضول. كما حاصر السلطان العثماني مراد القسطنطينية في عام (1422)، لكنه اضطر إلى رفع الحصار لأسباب توتر داخلي في الدولة العثمانية. ويلخص البعض ذلك قائلاً: “كانت الإمبراطورية البيزنطية على وشك السقوط النهائي في يد العثمانيين في بداية القرن الخامس عشر الميلادي لولا تدخل القدر ليزيد من عمر بيزنطة نصف قرن آخر”.
ويلخص المؤرخ الفرنسي نيقولا ڤاتان حال وشكل ما تبقى من الدولة البيزنطية عندما فكر محمد الثاني في غزوها على النحو التالي: “دويلة تجارية بيزنطية على شكل جيب في داخل الإمبراطورية العثمانية”. لهذا قرر محمد الثاني أن الوقت قد حان لغزو القسطنطينية. ومما سهل من أمر محمد الثاني هذه المرة أن معظم الدول الأوروبية التي كانت تساند بيزنطة قبل ذلك أصبحت منشغلة بالعديد من المشكلات الداخلية في أوروبا، فلم تقدم المساعدة المرجوة منها لإنقاذ القسطنطينية.
ولا أدل على حالة الضعف التي وصلت إليها بيزنطة، واقتصارها على القسطنطينية، وحتمية سقوطها أمام العثمانيين، من الأرقام التي يقدمها البعض حول حجم القوات المدافعة عن القسطنطينية، وحجم القوات العثمانية المحاصرة لها؛ إذ يقدر برنارد لويس حجم القوات البيزنطية بحوالي ثمانية آلاف جندي، في مقابل ما بين مائة إلى مائة وخمسين ألف جندي عثماني.
هكذا يتبين أن القسطنطينية التي حلم بفتحها المسلمون الأوائل، لم تعد هي القسطنطينية نفسها في زمن محمد الثاني. وأن الدولة البيزنطية كانت قد شاخت وتقلصت إلى مجرد القسطنطينية وبعض الجيوب الصغيرة الأخرى.
- أحمد آق كوندز وسعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، أستانبول، 2008.
- برنارد لويس: أستنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان عليّ، جدة، 1982.
- عبد السلام عبد العزيز فهمي: فتح القسطنطينية، القاهرة، 1969.
- حاتم الطحاوي: اقتحام العثمانيين للقسطنطينية، شهادة المؤرخ البيزنطي دوكاس، مجلة الاجتهاد، العدد 42، بيروت، 1999.
- روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية، الجزء الأول، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة، 1993.