سقوط القسطنطينية

حدث مهم.. ولكن

شكل سقوط القسطنطينية حدثا جللا في تاريخ المسيحية، والتاريخ العثماني على السواء، بل واعتُبر، إلى جانب سقوط الأندلس وفتح القارة الأمريكية، من أضخم الأحداث التي شهدها القرن 15 الميلادي، بل واعتبره البعض بمثابة إعلان نهاية العصر الوسيط.  وذلك بالنظر إلى مركزية ورمزية القسطنطينية، عاصمة الروم الشرقية التاريخية، وكذا أهميتها بالنسبة لآل عثمان، والذين سعوا إلى ربط فتح القسطنطينية ببشارة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، والتي أثبتنا بأنه لا علاقة له بالفتح المذكور، وإنما هو أحد فتوحات آخر الزمان، وأيضا بالتحكم في أحد أهم المعابر التجارية في العالم.

في هذا الصدد، سنكتفي في هذه المقالة بتناول العوامل الذاتية الداخلية والتي سهلت سقوط القسطنطينية بين أيدي العثمانيين سنة 1453م، دون الخوض في الشق المتعلق بالتدابير العثمانية التي نجحت في إخضاع المدينة، وأهمية هذا الفتح بالنسبة لمحمد الثاني الشاب، وذلك انضباطا للنقطة موضوع البحث.

ومن خلال تناول حدث سقوط القسطنطينية، يمكن رصد مجموعة من العوامل التي ساهمت في سقوط المدينة التاريخية، والتي يمكن حصرها في الأسباب المباشرة التالية:

قلة الجيوش البيزنطية مقارنة بالجيوش العثمانية

انقطاع القسطنطينية عن العالم وانحصار مجال الممارسة السيادية على المدينة وبعض المناطق الصغيرة خارجها

الحملة الصليبية الرابعة التي جعلت من القسطنطينية هدفا لها بعدما كانت موجهة إلى فلسطين

غياب الدعم العسكري الأوروبي

الأوضاع الاقتصادية السيئة بسبب عدم التحكم في أهم المحاور التجارية..

في هذا السياق، كانت القسطنطينية تعيش على وقع عزلة حقيقية، حيث لم يكن قسطنطين الحادي عشر يفرض سلطته إلا على العاصمة وبعض النواحي. ولم يعد بإمكانه التحكم وبسط سيطرته على الطرق التجارية الرابطة بين الغرب والشرق الأقصى، وهو ما انعكس سلبيا على خزينة الدولة وبالتالي صعوبة تمويل المجهود الحربي، خاصة وأن الحصار العثماني المتكرر للمدينة أنهك ميزانية الدولة.

ويمكن القول بأن ضعف الإمبراطورية الرومانية “الشرقية” كان النتيجة المتوقعة بعد عقود من الانحطاط والضعف، والتنازلات التجارية لصالح فينيسيا وجنوة، وهو ما جعل القسطنطينية لقمة سائغة  للقوة الصاعدة ممثلة في الدولة العثمانية، حيث كان محمد الفاتح الشاب يبحث على نصر يغطي به على صغر سنه ويسند به حكمه، رغم ذكائه، هو أو مستشاريه، وبذلك لجأ إلى هدف سهل لم يكن يمتلك من أدوات القوة ما يؤهله للوقوف في وجه القوة العثمانية الصاعدة.

وإذا كانت قوة الدولة البيزنطية ترتكز، تاريخيا، على قدرة الكنيسة على الحشد والتجييش، فإن الصراع بين الكنيستين الرئيسيتين الشرقية والغربية قد انعكس على أدوات الدفاع عن المدينة في مواجهة المحاولات المتكررة للعثمانيين. وزاد من تعقيد الوضع قدرة محمد الثاني، رغم حداثة سنه، في نسج تحالفات قوية ضمنت له حياد بعض القوى أثناء حصار المدينة.

لقد وصل محمد الثاني إلى السلطة في أوج قوة الدولة العثمانية، في حين كانت الدولة البيزنطية تعيش أسوء حالاتها منذ الحملة الصليبية الرابعة والتي انطلقت من فينيسيا نحو فلسطين، إلا أنها تحولت لنهب القسطنطينية حين رأى فيها الصليبيون هدفا لاستخلاص ديونهم على فينيسيا.

ويمكن القول أن عدم قدرة قسطنطين على بسط سلطته على مناطق شاسعة، قد سهلت من مأمورية العثمانيين والذي نجحوا في قطع طرق الإمداد البرية والبحرية، ووضع المدينة بين فكي الكماشة، وبالتالي خلق أزمة داخلية انعكست على القدرة على المقاومة داخل أسوار المدينة، رغم ما أبداه قسطنطين من شجاعة نادرة في مواجهة العثمانيين.

وإذا كانت الجيوش هي الأدوات الرئيسية في الحروب المباشرة، فإن القسطنطينية قد عانت من قلة في عدد الجيوش التي كانت مهيئة للدفاع عن المدينة في مواجهة الأعداد الكبيرة للجيوش العثمانية والتي كانت تتجاوز بكثير جيوش القسطنطينية. ورغم أننا لا نتوفر على العدد الحقيقي للجيوش العثمانية إلا أن الكتابات التاريخية تتحدث عن 80 ألف جندي وتصل إلى 100 ألف، وهو عدد ضخم إذا ما قورن بعدد جيوش القسطنطينية الذي لم يتجاوز سبعة أو ثمانية آلاف مقاتل كرقم معتمد من طرف كتب التاريخ. وحول هذه النقطة يقول موريس وماريلين شافارديس في كتاب “سقوط القسطنطينية” بأن المدينة لم تكن لتصمد أمام جيش يفوقها تسليحا ب 20 ضعفا و يفوقها عددا ب 15 ضعفا (ص 21).

ورغم عدم تكافئ موازين القوى، فإن قسطنطين الحادي عشر قد أبدى شجاعة كبيرة في الدفاع عن المدينة، واستطاع رد الهجمة الكبيرة الأولى، وقيادة المدينة للصمود لأزيد من أربعين يوما. وذلك بفضل ثبات جنوده أولا، ثم وصول سفن المساعدات الغذائية والذخيرة التي أرسلها البابا نيقولا الخامس وفينيسيا من أجل دعم البيزنطيين رغم الحصار البحري الذي فرضه الأتراك. إلا أن هذه المساعدات لم تكن كافية لضمان استمرار المقاومة، وهو ما دفع قسطنطين إلى التقدم بخطوة نحو السلطان محمد الثاني مقترحا عليه وقف القتال مقابل ضريبة يؤديها سنويا، إلا أن السلطان العثماني رفض التفاوض وفضل مواصلة الحصار والهجوم البري والبحري على المدينة.

ومن خلال استقراء الظروف الداخلية والإقليمية التي ساهمت في سقوط القسطنطينية، يتبين بأن ما قام به محمد الفاتح لا يرقى لأن يكون إنجازا تاريخيا يتناوله حديث نبوي شريف، على اعتبار أن الدولة البيزنطية كانت تعيش حالة من الضعف والوهن جعلت منها هدفا سهلا للمسيحيين أولا ثم للعثمانيين ثانيا، والذين وجدوا أمامهم مدينة أنهكتها الحملات السابقة، ولم تعد تتحكم في طرق التجارية الرئيسية، ولم يبقى لها العدد الكافي من الجيوش القادرين على الوقوف في وجه الجيوش العثمانية، وهو ما يقطع بأن انتصارا بهذا الشكل لا يمكن أن يرقى إلى اعتباره حدثا دينيا تنبأ به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.